د. أحمد الفراك: أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي – جامعة عبد المالك السعدي (المغرب)
شخصية سقراط : (469_399 ق.م)
تعريف موجز
وُلد سقراط سنة 469 ق.م بأثينا، من أبٍ نحَّاتٍ يسمى “سوفرونيسكو” وأمٍّ تدعى “فيناريت” كانت قابلة تُولد النساء. عاش بأثينا ومات بها، ويعده أغلب المختصين والمهتمين بتاريخ الفلسفة من أعظم الفلاسفة في التاريخ، عُرف بتواضعه، وسعة فكره، وحِدة ذكائه، ودقة منهجه، وذماتة خُلقه، وقِصر قامته وبياض لحيته،مع بساطة عيشه حيث يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية كما وصفه كل من أفلاطون وأكسانوفون. ولم يشتهر بشيء شهرته بكونه:مُعلم فلسفة ومُربي جمهور ومعارض سياسي.
نصيحة الراعية وغلبة الزوجة
في يوم من الأيام، التقى سقراط بامرأة راعية تدعى “بولون” فانتبهت إلى نباهته وبادرت إلى نصيحته بإلحاح بأن يطلب الحكمة ليصير حكيماً،فتأثر بنصيحتها أيما تأثر وحمل نفسه على طلب الحكمة أينما كانت. على خلاف زوجته”زانتيب” التي كانت سليطة اللسان كثيرة النقد حادة الطبع، خاصة تضايقها من انشغاله بالفلسفة طيلة وقته مع الشباب مقابل تفريطه في العمل من أجل كسب قوت أبنائه.
وفاء بدعوة الراعية تبادر إلى ذهنه السؤال: ممن تُطلب الحكمة؟ مَن الحكماء؟ مَنمِن الناس المؤهل لتعليم الحكمة؟
غباء أهل السياسة
بعد حيرة السؤال ورغبة التحصيل التي انقدحت في ذهنه بعد التقائه بالراعية توجه سقراط إلى السياسيين ورجال السلطة لعله يجد عندهم الحكمة، إذ ما داموا يسوسون الناس في نظره ويسيرون شؤونهم فلا بد أنهم حكماء وعقلاء وعباقرة، إلا أنه بعد حوارهم إياهم في مسائل من اختصاصهم فوجئ بأنهم يفتقرون إلى الحكمة التي يبحث عنها، وأن قصدهم الوحيد هو الجاه والسلطة وحب الظهور والشهرة، وهذا في نظر سقراط غباء يسقط شرفهم، فقال قولته الشهيرة:”أكثرُ الناس شُهرة أكثرهم غباء”.
إلهام الشعراء:
بعد خيبة أمله في رجال السياسة توجه سقراط نحو الشعراء معتبرا أنهم يقولون كلاما جميلا موزونا مقفى، معجِبا مبهِرا، قد يؤهلهم ليكونوا من الذين يمتلكون قدرا من الحكمة. درس مجموعة من أشعارهم وحملها معه إليهم كي يحاورهم في مضمونها، لكنه اكتشف أنهم يكتبون ما لا يفهمون، وكأنهم مُلهمَون أو متنبئون يقولون ما لا يفهمون، فاعتبرهم جُهالا “يهرفون بما لا يعلمون”…
غرور الصناع:
تضاعفت المعاناة، فغادر الشعراء دون حكمةٍ وتوجه إلى الصناع لعله يظفر عندهم بطلب الحكمة، إلا أنه بعد مجالستهم أيضا ومحاورتهم وجدهم يتكبرون بصناعتهم و يحتقرون غيرهم من الناس وكأنهم أذكى الناس وأفضلهم على الإطلاق، فقال قولته الشهيرة: “ذهبت سيئة الغرور بحسنة الحكمة” والمتكبر لا خير فيه.
رجع سقراط من هذه الجولة خائبا، وموقنا بأنه أكثر منهم حكمة وأحسن حالا، وبينما هو في تجوله لطلب الحكمة دخل إلى معبد “دلف” وتأثر بحكمة مكتوبة فيه تقول: “اعرف نفسك بنفسك” ، فحاول العمل بها في ما تبقى من حياته.، رغم ما لقيه من تعنت وتضييق.
المنهج التوليدي:
المتتبع لكل ما وصلنا عن سقراط من خلال محاورات أفلاطون يتبين له بسهولة أن أهم ما يميز الفيلسوف سقراط هو منهجه الحواري التوليدي الذي من خلاله يولد أفكار الناس، يقول سقراط: “كانت أمي قابلة تولد النساء وأنا أولد الأفكار”. إذ كان يتوجه إلى محاوريه بأسئلة منظمة تستدرجهم إلى التخلي عن أفكارهم الجاهزة وقناعتهم المسبقة…تجنب الخوض في الإلهيات وحرَّض الشباب على النقد والتساؤل والحوار، وكان يقوم بالنهي عن التبعية العمياء والتقليد الساذج.سخر من القول بالصدفة في الوجود، لأن العالم يخضع لقوانين صارمة لا عبث فيها، يقول:”في الكون من الأمثلة الدالة على التناسق المدهش العجيب، ومن الخطة الواضحة المرسومة، ما لا يصح معه أن يعزى وجود العالم إلى الصدفة المحضة أو إلى أية علة غير عاقلة”.
التفَّ الشباب حول سقراط وتأثروا بمنهجه وأخلاقه، فتشكلت جماعة من الفلاسفة الصغار المحبين لأستاذهم، فأغضب ذلك حُكام أثينا وأغنياءها وكُبراءها مما دفعهم إلى التفكير في تدبير مكيدةٍ للخلاص من الفيلسوف المشاغب ومن منهجه الذي انتشر في الناس وتداولوه في كل مجلس، بل في كل بيت حتى اعتقدوا في صحته.
خطورة التهمة:
نظرا للقدرة النقدية الكبيرة والمهارة العالية في الحوار في مقابل غباء الحكام و تخوفهم من أن ينافسهم في السلطة، حيث لا يخفى تشويش أفكاره على سمعتهم، وفضح منهجه لادعائهم، وكشف شجاعته لكذبهم، لذلك أضحى النعت المتداول بينهم عن سقراط هو: “ذُبابة الخيل”، ومعلوم أنه من أجل تخليص الخيل من ألم الذبابة وإزعاجها هو قتلها.
وبناء عليه وُوجِه سقراط بتهمتين خطيرتين:
التهمة الأولى: إفساد عقول الشباب.
التهمة الثانية:إدخال آلهة جديدة إلى أثينا. أو الإساءة إلى آلهة أثينا.
من أجل التخلص من الذُّبابة وإبعاد الشباب عنها وتبخيس الفلسفة حقها، وقع تحريض سكان أثينا عامةً والآباء خاصةً على نبذ سقراط وكراهيته، بالإضافة إلى اتهامه في عقيدته حتى ينال سخط الآلهة وعبّادها…وكذلك كان.
صورة محفورة لـ “سقراط” من العقيق الأحمر – في روما – ترجع للفترة من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الأول بعد الميلاد
يوم المحاكمة ونهاية المعاناة
كان يوما خاصا في حياة سكان أثينا: المدينة/الدولة تُحاكم عقلها !
اعتقلت سلطات أثينا سقراط وأودعته السجن، أتيحت له فرصة للهرب لكنه رفض إلا أن يمتثل للعدالة. تم تقديمه للمحاكمة، وعرضت قضيته على محكمةٍ قوامُها 501 قاضي، حكموا عليه بالإعدام بعد مرافعات كثيرة قابلها سقراط بدفاع قوي وسخرية لا تخلو من تهكم. لكن إصرار الحكام أدى إلى قتل حكيم الشباب عن طريق شرب السُّم المستخلص من نبات “الشوكران”، فتجرع سُمهم راضيا بحكم العدالة الموجَّهة وهو في السبعين من عُمره.
مات سقراط شهيدا للفلسفة الحية المتصلة بالأخلاق والسياسة، ضحية مؤامرةٍ ماكرةٍ وسوء فهمٍ فظيعٍ، لكن أفكاره الفلسفية لم تمت إلى اليوم كما يرى ميشال فوكو.
سؤال فيما بيننا وبين سقراط
هل فعلا سقراط الذي نتحدث عنه هو كما هو؟ ألا يمكن أن يكون مجرد شخصية متوهمة لتلاميذه؟ أو على الأقل زيد في خصالها حتى أمست مقدسة؟
للأسف لم يترك سقراط كُتباً نتدارسها، وإنما ترك قلة من التلاميذ نقلوا عنه فلسفته وهم معجبون به محبون له، أشهرهم أفلاطون وزينوفون وإسكنيزالاسفتوزي. وخاصة أرسطو قليس الملقب بـ”أفلاطون” التي تعني عريض الجبهة والكتفين، وإن كنا لا نستطيع التأكد من صحة رواية أفلاطون عن أستاذه،فلا مندوحة لنا عنها ولا خيار، حتى وإن خلط فيها بين أقواله وأقوال الفيلسوف الشهيد، مع العلم ديوجينليرتيو سيؤكد الشك في ما نقله أفلاطون عن سقراط بقوله: “يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً : أي هرقل ! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب ! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها” كما نجد عند صاحب قصة الحضارة.
وقد ذهب أرسطو إلى محاورة الذكرياتMemorabiliaومحاورة المائدة Banquet من القصص الموضوعة التي تخيلها أفلاطون أو نسبها إلى سقراط وهي من إنتاج الفيلسوف أكسنوفان الذي عاش هو الآخر مضطهَدا جراء إبطاله القول بتعدد الآلهة، وإيمانه بوحدانية الإله. وهو القائل في شهادته عن سقراط أنه: “بلغ من إنصافه أنه لم يظلم إنساناً حتى في أتفه الأمور، وبلغ من عدالته أنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة، وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب، ومن قدرته على تبين أخلاق الناس ومن حضهم على اتباع سبيل الفضيلة والشرف أن بدا أنه بلغ أحسن ما يأمله أحسن الناس وأسعدهم”.
من أقواله:
من أقوال سقراط الكثيرة التي تحمل حكمة وعمقا فلسفيا، نذكر:
- ـ “الشيء الوحيد الذي أعرفه تمام المعرفة هو أنني لا أعرف شيئا “.
- ـ “لا راحة لمن تعجَّل الراحة بكسله”.
- ـ “قلة الدِّين، قلة الأدب وقلة الندامة عند الخطأ، و قلة قَبول العتاب، أمراضٌ لا دواء لها “.
- “نصيحتي لك هي أن تتزوج، فأنت إن وجدت زوجة صالحة ستسعد، وإن لم تجد ستصبح فيلسوفاً”
- “الحياة من دون ابتلاء لا تستحق العيش”.
- “ليس العاطل من لا يؤدي عملاً فقط،العاطل من يؤدي عملاً في وسعه أني يؤدي أفضل منه”.
- “لا فضيلة بلا معرفة”.
- “خير من الخير من عمل به وشر من الشر من عمل به”.
- “أقرب شيء الأجل و أبعد شيء الأمل”.
قال عنه الحكيم الروماني “شيشرون”: لقد أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض.”
اترك رد