د. مليكة نايت لشقر: باحثة في فقه الأسرة المسلمة
التقرير أو المقال: يشكل التشريع الأسري ثلاثة أرباع التشريعات القرآنية، وقد جاءت هذه التشريعات والأحكام مفصلة تَسَعُ كثيرا من السور” ، مما يدل على أن هذه العناية القصوى بمؤسسة الأسرة تتناسق ومجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساسها، لما لها من وظيفة ضخمة في حياة الإنسان، حيث تلبي فطرته واستعداداته، وتنمي فضائله، ويتلقى فيها أعمق المؤثرات.
وتتأسس الأسرة على مجموعة من المنطلقات العامة تنسجم مع التصور القرآني للكون والإنسان، يمكن إجمالها في الآتي:
أولا ـ الأسرة آية عظمى ومنظومة ربانية:
ينطلق المفهوم القرآني للأسرة من كونها:آية عظمى تجسد عناية الله بحفظ النوع البشري ابتداء واستمرارا وانتهاء، ومنظومة ربانية تتأسس على مبدأ توحيد العبودية والربوبية لله، ذلك أن التوحيد ليس قيمة عقدية أو مفهوما دينيا فحسب، وإنما هو رؤية تحدد الغاية من خلق الإنسان، وعلاقته بالكون والحياة، بحيث تنعكس هذه الغاية من وجوده على منهج التفكير والممارسة العملية.
وتتضح أهمية التوحيد في فهم دور الأسرة بوصفها نموذجا للتغيير والإصلاح والبناء،فأحكام الشريعة الإسلامية “تتمركز حول التوحيد بوصفه جوهرا للعقيدة وأساسا لبناء تشريعاتها،فهو بهذا يشمل كليات ومقاصد وقواعد ذات صفة دائمة شاملة غير خاضعة لتغيرات الزمان والمكان، إذ تعد المقاصد فيه قيما حاكمة صدرت عنها سائر المقولات والمفاهيم والرؤى والأحكام” .
إن أول تحد خضع له آدم وزوجته ـ وهو من تحديات الأسرة النواة ـ هو تحدي العهد والميثاق مع الله، ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما﴾ ، وقد اختلف في ماهية هذا العهد ، ولا شك أنه العهد والميثاق على الربوبية والعبودية لله، إذ لا يجوز لآدم وللإنسان المستخلف في الأرض أن ينسى أن الله تعالى هو ربه، المالك والمدبر لأحواله، وأنه لا يملك لنفسه شيئا، لا نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا، أي لا ذاتا و لا وصفا و لا فعلا، فنسيان الميثاق و شقاء الحياة الدنيا واحد، و أن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق،و هذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه، فقال تعالى : ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى﴾” .
ثانيا ـ الأسرة تقر وحدة المنشأ والتكوين:
الأسرة منظومة تقر وحدة المنشأ والتكوين كقاعدة تتأسس عليها المقاصد العليا والقيم الداعمة للاستمرارية، قال الله تعالى:﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكن مودة ورحمة ﴾ ،”فالتنزيل الحكيم وحد بينهما،فالذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر،إن لم يكن كل منهما هو عين الآخر،فكلا الجنسين صنو الآخر في مسيرة الحياة الإنسانية منذ بدء الخليقة حتى المصير الأخير” ، قال تعالى:﴿وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى﴾ .
ثالثا – الأسرة منشأها الجنة:
لقد انطلقت الحياة البشرية في أول عهدها من علاقة فطرية تكاملية بين آدم وحواء، وهي أول أسرة في تاريخ الإنسانية على الأرض، بل يمكن القول أن جذور الأسرة الفطرية ترجع إلى مرحلة ما قبل الأرضية، أي قبل أن يهبط آدم وحواء من الجنة ،حيث قرن الله تعالى في خطابه آدم بزوجته حواء في كثير من الآيات منها مثلا قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ ، وقوله أيضا:﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ، وكذا قوله في سورة طه :﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ ، فدل ذلك والله أعلم على:
ـ أن الأسرة النواة قد تشكلت قبل عملية هبوط آدم وحواء إلى الأرض.
ـ وأن الرباط الذي جمع آدم بحواء هو “الزواج”، فهو ميثاق فطري ارتبط بوجود البشر كأهم الوسائل المؤيدة لمبدأ الاستخلاف، فالخلافة مقصودة بالذات،فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة ، ذلك أن الله تعالى عندما خاطب الملائكة في قوله عز وجل :﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ ، لم يقل إني جاعل في الجنة خليفة،فلم يكن هبوط آدم وزوجته هبوط إهانة بل كان هبوط كرامة واستئناف للمهمة الجليلة التي نشأت عنها فضائل جمة ومنة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض.
ـ وأن عملية الهبوط من الجنة إلى الأرض بعد إعلان التوبة، كانت ثنائية وتحت غطاء الأسرة التي هي نواة وجود النسل ومناط تحقيق الاعمار الأرضي،
ـ وأن ذكر الزوجة للتنبيه على أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشئون البشرية في إطار من التكامل والتعاون.
ـ إن أول امرأة خلقها الله، وإليها انتسبت بنات جنسها، وثاني مخلوق جعله الله خليفة له في أرضه، تلك حواء قد قرنها الله سبحانه بزوجها آدم مخاطبة في شأنه وشأنها سورة البقرة: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ .
رابعا – الأسرة تنسجم مع ناموس الزوجية في الخلق والكون:
الأسرة في التصور القرآني منظومة تنسجم مع ناموس الزوجية في الخلق و الكون، ولا تقوم على مبدأ الفردية،قال تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون﴾ ،فالله خلق الذكر والأنثى في اختلاف تنوعي، وجعل اكتمال حياة الرجل والمرأة بلقائهما تحت غطاء الزوجية بميثاق شرعي غليظ،ورابطة شرطية لضمان النظام اللازم لتدفق الحياة والنشاط في هذه الخلية، وفي باقي خلايا المجتمع البشري، قال عز وجل ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها﴾ وهي آية تنطوي على عدة آيات منها : “أن جعل للإنسان ناموس التناسل، وجعل تناسله بالتزاوج، ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه ، وجعل أزواج الإنسان من صنفه، ولم يجعلها من صنف آخر، لأن التآنس لا يحصل بصنف مخالف ..وجعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة” .
خامسا ـ الأسرة أساس الاستخلاف في الأرض وتجسيد للتكريم الإنساني:
الاستخلاف في الأرض هو للأسرة، وليس لآدم وحده ولا لحواء وحدها،فهو استخلاف للرجل والمرأة، وليس لأحدهما دون الآخر، وعليه “فمسؤولية الاستخلاف والسيادة على الأرض للإنسان، للذكر والأنثى، وإضعاف أحدهما للآخر هو إضعاف للاستخلاف في الأرض” .
لقد خلق الله الإنسان وحدد هدفه الوجودي في عبادة الله،وجعل منهاج الوصول إلى هذه الغاية هو الخلافة في الأرض، في صورته القيمية الثابتة إلى الأبد، والمتمثلة في التعاليم المنضبطة في القرآن والسنة ، وقد أودعه الله خصائص وصفات، وملكات إدراكية، كانت هي مناط التكليف الذي يُمَكِّن من الترقي والتكامل ونوال النعمة من استثمار الكون، والثواب في الآخرة.
ويعتبر الإنسان عنصرا كونيا، ينسجم مع الكون والموجودات في إطار وحدة المأتى والمصير، فهما من خلق الله تعالى:﴿خلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ ،وكل منهما يتحرك إلى نهاية ومصير محتوم ﴿ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير﴾ ، ويشتركان في عناصر التكوين وهما التراب والماء،﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب﴾ . ﴿والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع﴾ .
إلا أن مظاهر الوحدة بين الإنسان والكون لا تنطوي على دلالة معيارية تؤدي إلى التساوي في القيم بينهما فحسب، بل هي مجرد دال على الاشتراك في جزء من الحقيقة، يبقى معها مجال كبير لتمايز الإنسان عن الكون تمايز رفعة واستعلاء، هذه الرفعة والتفاضل القيمي للإنسان على المخلوقات جاءت واضحة في قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ، ووضِع الإنسان في ذلك الكون المملوك لخالقه لاستكمال مهمته،لكونها تخصه ولا تخص سائر المخلوقات بسبب تميزه عليهم بالعقل، والفؤاد، وبامتلاكه وسائل سمو روحه، والارتقاء بها عند العمل للمهمة التي خلق لها وأُلزم باستيفائها، وهي الاستخلاف في الأرض وإعمارها، ولقد ورد ذلك في أكثر من موضع مصداقاً لقوله تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ ، وقوله تعالى:﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ، فإن الاستخلاف والخلافة آية من آيات وحدانيته سبحانه كما في قوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلاَهٌ مَّعَ اللَّهِ. قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ .
وليس أمر الخلافة اختيارياً يقوم به من يقوم ويتخلى عنه من أحب الدنيا وتنعم فيها زهواً وخيلا، فقد أخذ الله من بني آدم منذ خلق أولهم وحتى آخرهم ميثاقاً باعترافهم بألوهيته والانصياع لأوامره وتحري طاعته على استكمال مهمة الاستخلاف، رضوا بذلك أم لم يرضوا، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَـلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ .
سادسا- الأسرة تتأسس على ثوابت قطعية وقيم داعمة لاستمرارها:
الأسرة في الخطاب القرآني “تحكمها أسس مرجعية قطعية وثابتة لا تتبدل، تبدأ بالزواج وتنتهي بالطلاق أو بالفسخ أو بالوفاة، وتنبني على منظومة قيمية معيارية، ذلك أن رفع مستوى الأسرة أخلاقيا دعامة أساسية تنطق بها روح الشريعة،على مستوى النشاطات السلوكية بين الأفراد والجماعات” ، وتقوم على مبادئ الإنسان المكرم والخليفة في الأرض، المجبول على العطاء تقربا إلى الله وليس استكراها،وهي سمة تتجسد في كل أشكال العلاقات الأسرية الزوجية والوالدية والأخوية.
سابعا- الأسرة مسؤولية تقوم على الرسالية وتكامل الأدوار بين مكوناتها:
الأسرة مسؤولية تنطلق من أن الرجل والمرأة متكاملان في الأدوار الرسالية، لا تكتمل الحياة إلا بشقيهما، ولا تنتظم إلا اعتمادا على سننية الحق والواجب في العلاقات الوظيفية بين الأفراد والجماعات، والتي اهتم الشرع بتفصيلها ولم يترك دائرتها للاجتهاد والأهواء الخاصة،قال تعالى:”ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” ، وتستمد هذه الحقوق والواجبات إلزاميتها من القيم الروحية التي تربط العبد بربه.
اترك رد