لندة واضح: باحثة في جامعة الحاج لخضر باتنة 1
تعيش المجتمعات العربية المعاصرة الكثير من المشكلات التي تلقي بآثارها السلبية على تطور الفكر والفلسفة العربية المعاصرة، وفي مقدمة ذلك الضحالة الفكرية للأمة العربية، والبؤس الثقافي، وتراكم المحرّمات والمحظورات، والأزمة البنيوية العميقة التي تستحكم في هذه المجتمعات، كذلك الواقع السياسي الاجتماعي الثقافي الذي تنتفي فيه الحرية الفعلية تماماً وبخاصة في ظل ما يسمى بـ “الصحوة الإسلامية” التي يرتفع ويتواصل مدّها بأقدار متفاوتة في البلاد العربية الآن، والحملات الشرسة والمسعورة التي يتعرض لها المفكرون العرب، بإهدار دمهم واتهامهم بخسيس التهم. ناهيك عن تراجع الفكر النقدي إثر تراجع قوى اليسار والتقدم والاستنارة، القوى التي ينطوي مجمل نشاطها على الحس التقدمي والتفكير العلمي الحرّ القائم على طرح الأسئلة النقدية، وصولاً إلى الحالة الظلامية السلفية السائدة ممثلة بقوى الجمود والتعصب والانغلاق الديني، وانتشار الفن الساقط والمبتذل والهابط، وازدياد مظاهر الفساد والفوضى والبيروقراطية، والاختلال في القيم وتضخم حجم السلوكيات المنحرف، زد على ذلك الفقر والأمية المتفشية.
وفي المقابل يوجد في الحركة والحياة الفكرية العربية أكثر من فلسفة وتيار فكري، منها يحمل راية العقلانية والعلم والديمقراطية وفكر تنويري معاصر يمثله محمد عابد الجابري وبرهان غليون وصادق جلال العظم وفؤاد زكريا وطيب تيزيني ومحمد جمال باروت ونصر حامد ابو زيد ومحمود سيد القمني وفيصل درّاج وحسن حنفي وماهر الشريف بالاضافة الى الراحلين الشيخ خليل عبد الكريم ومحمود أمين العالم وحسين مروة ومهدي عامل وسواهم، وتيار الفكر الليبرالي الوضعي ورائده في مصر المرحوم زكي نجيب محمود، وتيار آخر يعبر عن اتجاه فلسفي متعصّب يمثل الجماعات الإسلامية وحركة الأصولية الإسلامية السياسية، وهذه هي أبرز التيارات الفكرية في عالمنا المعاصر.
ولا ريب أن الفكر العربي المعاصر يفتقد النظرة العلمية الواضحة والتجربة العلمية المتنامية، والفكر التقدمي بتعدد اتجاهاته وتياراته يبدو اليوم بلا عمق استراتيجي، وأن الاغتراب والتسطح الفكريين والميوعة الفكرية هو بعض ما يتسم به الفكر العربي الحديث كذلك هنالك سيادة للثوابت النصية الأصولية غير التاريخية والرؤى اللاعقلانية والتعميمات المطلقة والإسقاطات الذاتية.
واذا كانت الفلسفة هي النسق الفكري المكتمل المعبر عن رؤية انسانية وفكرية شاملة لها خصوصيتها القومية وكقوة ناهضة في المجتمع، بهذا المعنى للفلسفة ليس لدينا فلاسفة وانما مفكرون يعالجون قضايا المجتمع وقضايا الثقافة والفكر ومسائل العصر، وأن إسهاماتهم الفكرية التي اخترقت حصون الردّة هي امتداد متطور للاجتهادات الفكرية النظرية وللتحركات السياسية والتفاعلات الاجتماعية طوال النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، في مختلف أرجاء الوطن العربي، وهذا الامتداد نجده بوجه خاص في فكر الشيخ علي عبد الرازق الذي كان امتداداً أكثر راديكالية لفكر المنوّر والنهضوي البارز محمد عبده، وهو الذي كان يردد ويقول: “من كان يظن أن الإسلام هو ان تبقى المرأة محجبّة أو أن الإسلام بين جدران الأنهر واللحى والعمائم، فأن الحضارة الحديثة ستقضي على دينه الذي يزعم، ومن كان يظن أن الإسلام دين الفكر الحر والحكم العادل والعلم الصحيح ودين الحرية والمساواة فإن الحضارة الحديثة تهيّء له المستقبل الباسم، كما نجد الاجتهاد المتطور في فكر طه حسين وعباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود كامتداد لفكر أحمد لطفي السيد ومحمد عبده معاً، وأيضاً نجد امتداداً متطوراً للأصولية الاستقطابية في فكر رشيد رضا وحسن البنا، وامتداداً متطوراً للفكر العلمي والقومي في موجات واتجاهات وتحركات قومية ماركسية في أربعينات القرن الماضي، وبوجه خاص التيارات الفكرية ذات التوجه العقلاني النقدي.
من نافلة القول أن لا سبيل في معركة الحضارة والتجدد الشامل والحداثة المعاصرة الا من خلال السعي الدائب للانتصار على أزمة فكرنا التي لا يمكن فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه موضوعياً وتاريخياً، أزمة التخلف والتبعية، وأزمة العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وأزمة الهيمنة الخارجية الاستغلالية على منطلقات تنميتنا الاجتماعية والثقافية والقومية ومقدرات حياتنا، وهي في النهاية أزمة فكر نظري نتيجة ألأزمات المتداخلة وفقدان الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وتجديده، وأننا لن نتجاوز تخلفنا وتبعيتنا الا بالنقد العقلاني والرؤية التاريخية لجذور التخلف والتبعية في فكرنا وواقعنا الراهن، ولن نتجاوز هذا التخلف الا بالامتلاك المعرفي بحقائق الثورة العلمية الجديدة، ثورة المعلوماتية وبمشروع تنموي نهضوي قومي حداثوي شامل ذي أبعاد اجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية وإعلامية وقيمية، مشروع يستوعب تراثنا العربي الإسلامي استيعاباً عقلانياً نقدياً، وأيضاً وقف حرب الاستنزاف ضد المثقفين العقلانيين العضويين الملتزمين والمقتحمين للمناطق المحظورة، ومجابهة الحاضر الظلامي وإنجاز الثورة الثقافية واستعادة قيم التنوير والعقلانية والعلمية والديمقراطية وتجديد الفكر العربي المعاصر وتأصيله في الحياة العربية، الثقافية والفكرية.
وأخيراً، فأن صورة المستقبل في ظل المناخ الانحطاطي الذي يعيشه العالم العربي، ومع تفاقم التعصب والتحجر تنذر بويلات، وما من خلاص الا بتحرير العقل والعودة الى ينابيع الحضارة والتصدي لكل أنواع السعار الفكري وألوان التعصب والتطرف الديني الذي يستهدف وأد العقل العربي، والتضامن صفاً واحداً دفاعاً عن حرية الإنسان وحقوقه لبناء مجتمع مدني متطور يحكمه العقل والتنوير، وآن الأوان للتوقف عن الهزل الذي يطالعنا به البعض بين فينة وأخرى بحجة الدفاع عن الإسلام، وكما قال الروائي السوري حيدر حيدر: “نحن نعرف ديننا وتراثنا، نعرف إسلامنا وتاريخنا، ولسنا بحاجة الى فقهاء ومتعصبين ووعاظ ودعاة يرشدوننا الى الصراط، ونعرف في الآن ذاته مواطن الخلل والتأويل الجاهلي وكهوف الظلام التي يستودع فيها الإسلام السياسي المغلق والاحتكاري لفئة تتاجر بالإسلام وترشق التهم لمن لا ينتمي لقبليتها العصبية.
اترك رد