الدائرة السردية… الرؤيا والتأويل.
قراءة مشهدية في خاتمة قصة سيدنا يوسف عليه السلام
د. حبيب مونسي /الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ(99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(101)
1-تقديم:
كثيرا ما يكون الحديث عن شكل السرد مثار جدل في الدراسات النقدية، التي تحاول أن تستقرئ المنجز السردي للتعرف على الأشكال المستهلكة في القص، والأشكال الممكنة التي تستطيع أن تستوعب السرد ومضامينه، مقدمة الطريقة الأنسب لقص الحكاية. ذلك المسعى فيها، نحسبه من قبيل الإحصاء الذي يجعل من السرد علما يحصي أشكاله المنجزة والأشكال الممكنة. بيد أن عبقرية الفن في تخطي المنجز دوما، والبحث عن الشكل الذي لا يكون مبتدعا لذاته بقدر ما يكون الابتداع مرهونا بالغرض الذي يقوم من أجله السرد. ذلك أننا نؤمن أن لكل قصة من القصص شكلها السردي المناسب لمضامينها وخطابها، وأنه ينبثق تلقائيا منها، وأنها ترفض أن يسلك بها السارد شكلا يكون الهدف من ورائه قصر الحكي على القالب الجاهز سلفا.
لقد حملت إلينا المحاولات السردية التي وضعت نصب عينيها الشكل أولا، كثيرا من المحاولات التي نقرأ فيها العنت من جهتين: جهة السارد، حين يجد نفسه مرغما على تلبية مطالب الشكل الذي اختار، وجهة المضمون، حين يجد نفسه مقصورا على مقاسات لا تليق به سعة وجمالا. فما يتصل بالسارد نشهده في الالتواء الذي يرغمه على الابتسار في التقنيات، وركوب بعضها إرضاء للشكل، حتى وإن فوَّتت عليه كثيرا من مطالب الغايات الجمالية والدلالية.
أما إذا استمعنا إلى شخص يقص علينا قصته، رأينا في معايشته لأحداثها، ما يسمح له بإيجاد الشكل المناسب لإخراجها. وكأن الشكل ليس هو المطلب الأول فيما يريد، بل المطلب كله في التأثير الذي يسعى إلى إحداثه في السامع. ومن ثم يكون سرده للأحداث هو عين الشكل الذي يبحث عنه. وكأن مسألة الشكل مسألة مفتعلة من أساسها. لأن الشكل هو المضمون الذي ينتقل إلى السامع، فلا يلتفت إليه إلا قليلا. إنه في متابعته للسرد ينسى أن هناك قضية تسمى الشكل فيما يسمع أو يقرأ. ولا تظهر مسألة الشكل إلا أخيرا، حين يبحث الباحث في العناصر المؤثرة في السرد. ساعتها يكتشف أن هناك عاملا يمكن أن يضاف إلى المضمون يسمى الشكل الذي تَمَظْهَر فيه السرد أخيرا. إنه حين يسأل نفسه هذا السؤال يتبادر إلى ذهنه الطريق الذي سلكه السارد لتوصيل الأحداث إليه. ذلك ما نسميه شكلا: إنه الكيفية التي ساق فيها السارد مضامين الحكي. فالتجزئة القائمة على فصل الشكل عن المضمون، دعوى لا تزال في حاجة إلى تبرير في عالم الفن إن هي دُرست على هذا النحو. أما إذا نُظِر إلى الفن على أن الشكل هو الكيفية التي يؤدي بها الفنان صنيعه، فالأمر مختلف اختلافا كبيرا. لأننا ساعتها لا نسأل عن وجود قائم بمعزل عن الصنيع، يمكننا عزله عنه، كما تنزع الكسوة عن التمثال. بل نبصر الوحدة التي يتمتع بها الصنيع في جملته واكتماله. ولنا بعدها أن نلتفت إلى الكيفيات التي جعلت الصنيع على هذه الهيئة دون غيرها.
إن حياة الصنيع الفني وامتداده عبر الزمان أثرا فنيا، تأتيه من اختلافه عن سابقيه، اختلافا يقتبس عبقريته من الهيئة التي هي له خاصة، لا يشاركه فيها صنيع آخر. ولا يمكن أن يعتبر الصنيع الفني إضافة في عالم الفن، إن لم تتوفر فيه هذه الخاصية الجمالية التي تؤكد تفرَّدَه وتميُّزَه. وعالم الفن مسكون بهذه النماذج التي استطاعت –على الرغم من تواضع مواضيعها- أن تحتل صدارة المنجزات الفنية، معتمدة على الهيئات التي أضافتها إلى الفن. إن خلودها آت من هذه الإضافة وحدها، لأن المضامين قد تتقارب لدرجة التماس والتكرار، وكأن القصة التي يرويها القصاصون في مختلف الأقطار قصة واحدة: قصة الإنسان في صراعه مع اليومي.. في توقه إلى غد أفضل.. في محاولة إحلال ذاته محلا مختلفا. وكل القصاصين يقتطفون من القصة الأولى طرفا يروونه بأساليبهم المتباينة.
اترك رد