سعودي مراد: طالب دراسات عليا ماجستير تاريخ معاصر- بوزريعة – الجزائر
يعد التاريخ عنصرا لا غنى عنه في انجاز الكثير من العلوم الإنسانية وغير الإنسانية، فكثير من الدراسات للظواهر الاجنماعية لا تكفيها الملاحظة والدراسة الميدانية، بل يحتاج الأمر إلى دراسة و تطور تلك الظواهر وتاريخها ليكتمل فهمها ومع بداية القرن التاسع عشر خرج التاريخ من نطاقه الأدبي القصصي إلى نطاق الموضوعية على يد مجموعة من المؤرخين منهم المؤرخ الألماني “ليوبولد فون رانكه”، الذي يعتبر من بين المؤرخين الأوائل في ميدان الكتابة التاريخية المبنية على أسس علمية، فمن هو رانكه؟ وما هي أهم أعماله؟ وماذا قدم للمنهج التاريخي؟
ووفقا لما تحصلت عليه من مادة قسمت العمل إلى عناصر، حيث تناولت في العنصر الأول نشأة رانكه متطرقا لميلاده ودراسته التي ستلعب دورا في توجهاته الفكرية فيما بعد، أما في العنصر الثاني فتناولت أهم أعماله و منهجيته في الكتابة التاريخية، أما في العنصر الثالث فتناولت دوره فيظهور المدرسة الوضعية وأسسها في الكتابة التاريخية، أما في العنصر الرابع فكان بعنوان تأثيره على الكتابة التاريخية والنقد الموجه للمدرسة الوضعية. ووضعت في الخاتمة جملة النتائج المتوصل إليها.
1) نشأة رانكه (1795-1886م):
ولد رانكه في مدينة ڤيهى (Wiehe)، والتي أصبحت بعد ذلك جزءًا من مقاطعة ساكسونيا. كما تلقى رانكه جزءًا من تعليمه في المنزل والجزء الآخر في كيمنازيوم(التعليم الثانوي) في مدرسة بفورتا (Schulpforta). وقد شهدت السنوات الأولى من عمره حبه الدائم للغة الإغريقية واللاتينيةوالكنيسة اللوثرية. درس الكلاسيكيات واللاهوت في برلين ، ثم دخل في خدمة ملوك بروسيا وعين في برلين أستاذ مساعد للدراسات القديمة في الجامعة حيث شغل هذه الوظيفة إلى غاية وفاته في 22 ماي 1886م، وكان رانكه عميق الايمان بالمسيحية على المذهب اللوثري (البروتستانتي) .
2) أعماله ومنهجيته في الكتابة التاريخية:
عمل رانكه مدرسًا للكلاسيكيات في مدرسة فريدريش للتعليم الثانوي في فرانكفورت على ضفاف نهر أودر وفي ذلك الوقت، أصبح رانكه مهتمًا بالتاريخبسبب رغبته في أن يساهم في تطوير هذا المجال ليصبح أكثر احترافًا أدخل طرق جديدة للتدريس وهي ما يعرف بالحلقات الدراسية عام 1840م، ألف كتابه الأول عام 1824، تاريخ الشعوب اللاتينية والتيتونية منذ عام 1494 حتى عام 1514م،كما كتب أيضًا كتابتاريخ البابوات وتاريخ حركة الإصلاح الديني في ألمانيا. استخدم رانكه العديد من المصادر المتنوعة عن مؤرخي العصر، بما في ذلك “المذكرات، والمفكرات اليومية، والرسائل الشخصية والرسمية، والمستندات الحكومية، والأخبارالدبلوماسية والأقوال المباشرة لشهود العيان” ويعد من أوائل المؤرخين بالمعنى العلمي الحديث، حيث عمل أستاذ ومعلم ومدرب للطلاب على البحث العلمي، حاول ألا يتأثر بالتحيز الفكري أو السياسي أو الديني للوصل إلى الحقيقة التاريخية .
غير أن كتاباته جعلت لوثر بطلا قوميا ألمانيا عظيما، لكن مع نشأة المدرسة البروسية أصبح التاريخ أكثر تعصبا وتركيزا على الأسر الحاكمة وهنا يظهر مدى اعجاب رانكه ببروسيا و “أسرة هوهنزلون” وبذلك عدت كتبه عن التاريخ البروسي تاريخا قوميا . إلا أنه كان مولعا بتنسيق المادة التي يحصل عليها وباحثا عن التوازن في الحوادث التي يصورها، لذلك كان مغاليا في تقدير مهمة المؤرخ عندما قال في مقدمة كتابه تاريخ الأمم اللاتينية والجرمانية:«ولقد وضعت على عاتق التاريخ مهمة الحكم على الماضي و إفهام الحقائق لأهل الحاضر بما يعود بالخير على أهل الأجيال القادمة. وكتابي هذا لا يسمو إلى تحقيق هذه المطالب الرفيعة وكما يسعى إليه هو أن يعرض ما حدث فعلا بالضبط كما كان بالفعل» .
3) رانكه والمدرسة الوضعية:
خضع علم التاريخ في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لهيمنة الاتجاه الوضعي positiviste المتمثل في تطبيق علوم الطبيعة على الانسان، وكانت ألمانيا هي الموطن الأصلي لهذا الاتجاه بفضل مؤرخيها أمثال: “تيودور مومسان” و ليوبولد فون رانكه . كما مهد هو وزميله “نيوبهر” لنشوء المدرسة التأريخية الألمانية النقدية .
وأهم ما دعا إليه رانكه تمسكه بمعرفة الأحداث الماضية، وقد دفعه هذا إلى الاهتمام بالوثائق ومخلفات الماضي إذ لا يمكن دراسة أي عصر إلا من خلال ما كتب عليه بالنظر إلى الوثائق الرسمية و مراسلات الدول وسجلات الحكومات والكنائس والمذكرات الشخصية .
فتولد عن هذا النشاط الكبير نظرة خاصة تمثلت في تاريخانية فون رانكهوهيغل، وسيادة مطلقة على الفكر القومي الألماني إلى غاية أواسط القرن العشرين.
تعاملت المدرسة الوضعية مع الوثيقة باعتبارها :
– الوسيلة التي تطلعنا على الماضي .
– الأداة التي يعمل بها المؤرخ.
– الحجة على أن التاريخ علم، فالكشف عن الوثائق يعني معرفة الحقيقة التاريخية .
لقد أفصح رائد المدرسة الوضعية بفرنسا المؤرخ “مونود” في البيان الذي نشره في 1876م بمناسبة صدور العدد الأول من “المجلة التاريخية” عن مبادئ المدرسة المتمثلة فيما يلي :
– فرض بحث علمي في التاريخ بعيد عن كل المزايدات الفلسفية.
– بلوغ الموضوعية المطلقة في مجال التاريخ.
– تطبيق تقنيات صارمة في جرد الوثائق ونقدها .
3-1 الخطوات المنهجية للمدرسة الوضعية:
جمع الوثائق وتنظيمها وفهرستهاوتبويبها. ونقد الوثائق على مستويين:
على المستوى الخارجي: ويهتم المؤرخ في هذا المستوى بتحقيق تاريخ كتابة الوثيقة٬ ومكان كتابتها وطبيعتها٬ ومدى موضوعيتها وصدق معلوماتها أي هل هي مزيفة أم أصلية.
أما على المستوى الداخليفيقوم المؤرخ بتحليل محتوى الوثيقة٬ ونقدها نقدا إيجابيا للتأكد مما قاله صاحبها ثم يعمل على فهم وتحديد الظروف التي كتبت فيها الوثيقة من أجل مراقبة أقوال الكاتب ويتجسد هذامن خلال ما قاله فان رانكه: « مهمة المؤرخ تتمثل في وصف ما وقع حقيقة في الماضي وليس في تقييم ذلك«. وهنا لابد من التذكير بحدود تعامل المؤرخ مع الوثيقة .
عملية التركيب والتأليف: وتضم مقارنة الوثائق للتأكد من الحدث التاريخي ثم تجميع الأحداث في أطر عامة مثل: المعطيات الطبيعية٬ والأنشطة الاقتصادية٬ والفئات الاجتماعية٬ والمؤسسات السياسية٬ بالإضافة إلى إقامة العلاقات بين هذه الأحداث. وأخيرا تتم عملية التأليف حيث يحاول المؤرخ إصدار بعض الأحكام العامة٬ وإعطاء بعض التأويلات مع التحفظ .
حاولت المدرسة الوضعية البحث عن القوانين التي تتحكم في تطور الجنس البشري٬ وهذه القوانين يمكن اختصارها في ثلاث مجموعات:
– قوانين النظام: التي توضح لنا التشابه الحاصل بين الأحداث.
– قوانين العلاقة: التي تجعل نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتيجة.
– القانون الأسمى: هو الذي يحدد مجريات وسير أحداث التاريخ .
كما أن من سمات الكتابة التاريخية الوضعية:
– الاهتمام بالحدث والواقعة السياسية العسكرية والإدارية والدبلوماسية.
– الاهتمام بالأحداث المنفردة المعزولة وذات التأثير القصير.
– الاعتماد على التفسير البسيط لسلوك الأفراد مهما كانوا ملوكا أو زعماء أو قادة.
– استعمال السرد البسيط المتمثل في الرواية التي تغلب عليها الصبغة الدينية والأدبية.
– التركيز على الشخصيات البارزة واللامعة.
– الاستعمال المحدود للوثيقة واختزالها في الوثائق الرسمية والمكتوبة.
4) تأثير رانكه على الكتابة التاريخية والنقد الموجه للمدرسة الوضعية:
سميت المدرسة التي أسسها رانكه بالمدرسة الوثائقية، وأعتبر في الغرب بأبيالتاريخ الحديث.فقد قسّم الطرق الرئيسية المتبعة من قبلالمؤرخين المحدثين لتحليل وتقييم الوثائق، وقدّم أيضًا طريقة الحلقات الدراسيةلتدريب مؤرخي المستقبل على طرق البحث، ودرس التاريخ السياسي بشكل رئيسي .
أثر اتجاه رانكه كثيرا على الكتابة التاريخية حيث انتشرت حركة البحث عن الوثائق والمخطوطات، والبحث في الأديرة وغرف التجارة الكنائس وبيوت الأمراء. مما أدى إلى ظهور علم الوثائق فتم إنشاء دور للمخطوطات ومراكز الأرشيف والسجلات. ورغم أن رانكه جعل التاريخ علما قائما بذاته له أسسه، إلا أن اهتمامه بالوثائق الرسمية ومكتبات الدول جعله تاريخا سياسيا وعسكريا أي تاريخ حكام ولم ينتبه إلى النواحي الاقتصادية الاجتماعية، وبالتالي لا يكون هناك تصوير دقيق للماضي ما لم تشمل الدراسة جميع الجوانب .
إن تصنيف الوقائع التاريخية إلى ظروف مادية وعادات عقلية، مادية، واقتصادية ونظم اجتماعية، لم تشغل اهتمامات مؤرخي المدرسة المنهجية بل ظلت جزء من اهتمامات علماء الاجتماع والاقتصاد والسكان والأنثروبولوجيا والاثنولوجيا، هذه الفراغات في البحث التاريخي هي التي مهدت لظهور مدرسة فرنسية جديدة .
أدى منهج رانكه في الكتابة التاريخية إلى ظهور مدرسة الحوليات التي هاجمت التاريخ السياسي المحض (للمدرسة المنهجية)، التي ركزت على الطابع النظري، تعدت «مدرسة الحوليات» في طروحاتها الجوانب السياسية والدبلوماسية، لتتغلغل إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية و أوضاع المجتمعات، وهذا ما سجل على أن رانكه قد أهمل هذه الجوانب .
الخاتمة:
اعتبر التاريخ ولمدة طويلة عبارة عن قصص لا يميز فيها الصحيح من الخاطئ لعدم وجود أداة للتحقق، ولكثرة تداوله القصصي أصبح قصصا خرافية أقرب للأسطورة. لكن مع ظهور ليبولد فون رانكه حاول وضع أسس للتاريخ حتى يرقى به إلى مصاف مناهج العلوم التجريبية من خلال:
– تمسكه بمعرفة الأحداث الماضية عن طريق الاهتمام بالوثائق ومخلفات الماضي إذ لا يمكن دراسة أي عصر إلا من خلال ما كتب عليه بالنظر إلى الوثائق الرسمية و مراسلات الدول وسجلات الحكومات والكنائس والمذكرات الشخصية، فالكشف عن الوثائق يعني معرفة الحقيقة التاريخية دليل على أن التاريخ علم لديه منهج خاص و نتائج يتوصل اليها.
– يعاب على رانكه أنه حصل التاريخ في الوثائق الرسمية والسجلات المكتوبة، وهذا ما يجعله تاريخا سياسيا عسكريا يهمل الجوانب الثقافية والاجتماعية ويحصر بهذا التاريخ في طبقة المشاهير و الافراد المتميزين ويلغي فئة كبيرة من المجتمع والتي هي بدورها عنصر فعال في الحوادث التاريخية.
– لرانكه الفضل في ظهور مدرسة الحوليات الفرنسية والتي ستعرف بمجلتها les annales لكن هي الأخرى مهد لها أعمال ماركس وانجلز وانبثق منها محاولة انشاء نظرية للتاريخ هي المادية التاريخية
– رغم ظهور الكثير من المدارس التاريخية إلا أن المنهج الذي أسسه رانكه لا يزال لحد الساعة إذ في الكتابة التاريخية لا يزال يعتمد على الوثائق الرسمية و مراكز الأرشيف اعتمادا كبيرا، ويطغى على تواريخ كل الدول في المقررات الدراسية التاريخ السياسي والعسكري وهو ما يعطي للمدرسة الوضعية قيمة كبيرة في الكتابة التاريخية.
– يعتبر رانكه أب التاريخ الحديث وذلك بسبب القواعد التي وضعها لعلم التاريخ والتي كانت منطلقا لمدارس أخرى أهمها مدرسة الحوليات الفرنسية.
اترك رد