د. عبد الله الجباري: باحث في الفكر الإسلامي، المغرب
صدرت عن دار السلام “موسوعة العلامة المحدث المتفنن سيدي الشريف عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني”، وهي عبارة عن الأعمال الكاملة التي ضمت بين ثناياها أبحاث ودراسات العلامة الإمام رحمه الله تعالى، إضافة إلى فتاواه ومقالاته المنشورة في بعض المجلات في مصر والمغرب. وهي في 18 مجلدا.
وقد تظافرت جهود عديدة لإصدار هذه الموسوعة وإخراجها في حلتها القشيبة :
أولها : الابن الروحي للأسرة الصديقية، العلامة المحدث الدكتور محمود سعيد ممدوح المصري، حيث تحمل همّ إخراج الموسوعة مذ كان فكرة جنينية، ثم واصل العمل والبحث، بهمة لا تلين.
ثانيها : أنجال العلامة السيد عبد العزيز بن الصديق الغماري رضي الله عنه، حيث نقبوا وفتشوا في خزائن العائلة، وحازوا ما ألفوه عند تلاميذ عمهم ومحبيه، فظفروا بأعلاق نفيسة، تطبع لأول مرة في هذه الموسوعة.
ثالثها : مركز البحوث والدراسات بكلية الصفا الإسلامية بماليزيا، الذي قام بالطباعة والإخراج.
ولعمري إنها لفكرة رائدة رائعة، أن تُجمع أعمال هذا الإمام الجهبذ العلم، الذي أفنى عمره في الكتابة والتأليف والإفتاء، ولم يتوقف عن الإنتاج العلمي حتى في أحلك الظروف وأصعب الفترات، داخل السجون العسكرية الناصرية بمصر، حيث أثرى الخزانة الإسلامية بما ينيف عن عشرة كتب، هي من أمتع مؤلفاته، ومنها ما كان فيه مبدعا مجددا، كبدع التفاسير.
صُدّرت الموسوعة بمقدمة فضيلة الدكتور عبد المنعم بن الصديق، خصصها للتعريف بالأسرة الصديقية، وبشذرات من سيرة عمه العلامة الإمام. يليها استهلال لطيف من العلامة الشيخ محمد فؤاد بن كمال الدين عن مؤسسة الصفا، أبان من خلاله عن علاقة العلامة الإمام بعلماء الشرق من ماليزيا وأندونيسيا وبلاد الفاطان، وأشاد بصدور الموسوعة في هذا الوقت الذي تمر به الأمة، لما في علم الإمام من رأي سديد، بعيد عن الشذوذ والتشديد.
وقد أفاد العلامة الدكتور محمود سعيد وأفاد، في مقدمته الطويلة، التي طرزها بفوائد عديدة، ضّمنها مشاهداته وسماعاته من العلامة الإمام، ومكانته العلمية بين العلماء الأعلام، ومشاريعه العلمية التي كان يرجو القيام بها، أو التي شرع فيها ولم يتمها، ومنها شروعه في شرح سنن ابن ماجه. ومن فوائد هذه المقدمة، إبراز براعة الإمام في الفقه المالكي، وإفادته للمتخصصين في المذهب المتفرغين له، كما وقع له مع العلامة التونسي محمد الشاذلي النيفر، أو مع الشيخ عطية سالم الذي حل له إشكالات في المذهب. كما دوّن الشيخ محمود في المقدمة أقوالا للعلامة الإمام، منها قوله : “عُدّة الفقيه ستة : الفروع، والأصول، والقواعد، والفروق، والمقاصد، وتاريخ التشريع”.
ورصّع الشيخ محمود مقدمته بجواهر ودرر، مثل بعض مراسلات العلامة الإمام، مع شقيقيه المحدث الحافظ السيد أحمد، والمحدث الصوفي السيد عبد العزيز، وهي بخط اليد. يستفاد منها الكثير، سواء على مستوى الحياة الشخصية، حيث يتجلى هيام العلامة الإمام بالعلم والتفرغ له، من خلال تأجيله للزواج، أو على مستوى التهمم بقضايا أخيه السيد أحمد الذي كان مطاردا من قبل حزب الاستقلال، والتفكير في طريقة إخراجه من المغرب، وقبلها، الألم الذي اعتصر قلبه جراء اعتقال أخيه بأزمور، وتبدي المراسلات تلك، طريقة تعامله مع أشقائه في جلب الكتب وطبعها وإرسالها إلى المغرب في الطرود، إضافة إلى المعاناة، وقلة ذات اليد التي نلمسها في بعض تلك المراسلات، مع كرم وجود، وذلك من خلال استضافتهم في بيتهم هناك بالقاهرة لبعض الطلبة المغاربة، كالشيخ المنتصر الكتاني وغيره …. هذه أمور وغيرها مما لم ينشر من المراسلات، قمينة بتكوين صورة عن شخصية العلامة الإمام، والظروف التي مرّ منها، حتى نلمس كيف خرج علمه وإبداعه وتحقيقه من بين فرث ودم لبنا سائغا للشاربين.
وإن كان للموسوعة فضل الجمع لتراث العلامة الإمام، إلا أن لها فضائل ومحامد أخرى، أهمها أنها تنشر لأول مرة مجموعة من مكتوبات الإمام، منها :
– الفتح المبين، شرح الكنز الثمين في أحاديث النبي الأمين، وهو غير تام، في حوالي 50 صفحة.
– أحاديث التفسير. وهو غير تام، وصل فيه إلى سورة الحج، وهو من التفسير بالمأثور المحض، يورد الآية، ويعقبها بحديث أو اكثر، دون التزام الصحة والقبول، فأورد أحاديث غير صحيحة، مثل قوله : “وهو منكر لا يصح، وإنما ذكرته لأنبه عليه” 4/335. وقوله عن حديث : “إسناده ضعيف” وقوله عن آخر : “وهو معلول”. 4/345. وغير ذلك كثير. وهو في 75 صفحة.
– تعليقات على “المتجر الرابح، في ثواب العمل الصالح” للحافظ الدمياطي، وهي تعليقات مفيدة.
– إرشاد الأنام، إلى ما يتلى من السور والأذكار في الأيام.
– النقد المتين، لكتاب الفتح المبين. [غير تام]، وقصته، أن العلامة الغماري كتب رسالة في نقد كتاب الأربعين للحافظ الهروي، سماها “فتح المعين، بنقد كتاب الأربعين”، فانتقدها د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي في رسالة سماها “الفتح المبين”، ولما اطلع عليها العلامة الإمام رد عليه بـ”النقد المتين”، وهو وإن لم يتمه، ففيه فوائد منهجية في مجال الصفات، وردٌّ على مذهب “السلفية” المحدَث.
– تعقيب في معنى الحديث الشاذ : وسياقه أن العلامة الإمام ألّف رسالة في بيان الأحاديث الشاذة، ولم يكن مسبوقا في إفرادها بالتصنيف، وأورد ضمنها أحاديث مروية في الصحيحين وغيرهما، وألّف ابنه الروحي الشيخ محمود سعيد “تنبيه المسلم، إلى تعدي الألباني على صحيح مسلم”، ناقش الشيخ الألباني في مواضع توركَ من خلالها على صحيح مسلم، خصوصا في رواية أبي الزبير المكي عن جابر، بعدها تولى الشيخ علي حسن الحلبي الرد على الشيخ محمود، وأثناء الرد ألزمه بصنيع شيخه الغماري الذي ضعّف أحاديث الصحيحين، وحكم بشذوذها، واتهمه بالمحاباة في العلم… وبما أن المسألة دقيقة جدا، فإن كثيرا من الباحثين انطلى عليهم هذا الإلزام، فكتب العلامة الإمام، تعقيبا لطيفا في صفحتين 9/539، وهو وإن كان لطيف الجرم، فإنه مفيد جدا، بيّن ضعف الشيخ الحلبي، الذي لم يميز بين شذوذ الحديث وضعف السند، وحكى ما تقرر عند العلماء أنه لا تلازم بينهما، وختمها بقوله : “وعلى جميع الاعتبارات، فحكمنا على أحاديث في صحيح مسلم بالشذوذ لا يمس مسلما بنقص، ولا يعيبه بجهل، بخلاف الألباني، فإنه لجراءته ووقاحته ضعّف أسانيد في صحيح مسلم، فكان بتضعيفها ناسبا للإمام مسلم جهلا كبيرا، حيث صحح أسانيد ضعيفة، ولهذا اعتبرنا عمله اعتداء على مقام الإمام مسلم، وهو كذلك”. وفي هذا التعقيب فائدة منهجية عظيمة، ونكتة لطيفة دقيقة، لم يتنبه لها الشيخ الحلبي.
هذه جملة من فوائد الموسوعة، وبعض ما فيها من الجديد الذي لم يسبق له أن طبع ونشر، ومن فوائدها أيضا، أنها كشفت لنا النقاب عن بعض المشاريع العلمية التي كان الشيخ يفكر في إنجازها، وهو مما لم ينشر في أي من كتبه المطبوعة، مثل مسألة سماع الحسن من أبي هريرة، فقال في 8/234 : “وفي الباب غير هذا مما سأجمعه في جزء خاص، وأبين أن أغلب من نفى سماعه نفاه تقليدا من غير تمحيص”.
الأعمال الكاملة غير كاملة :
قد يزعم البعض بأن الموسوعة حوت بين أسفارها جميع ما دبجته يراع العلامة الإمام، وهذا غير صحيح، وهو لا يعد نقيصة يثلب بها المشرفون على الجمع، وأنى لهم أن يجمعوا، وجهود الإمام متناثرة من ماليزيا وأندونيسيا شرقا، إلى الولايات المتحدة غربا، من مراسلات وفتاوى ورسائل وغيرها.
وقد أقصت الموسوعة – عن قصد – المصنفات التي علق عليها الإمام، واكتفت بمؤلفاته، واقتصرت فقط على التعليقات التي حشى بها على “المتجر الرابح” للحافظ الدمياطي، لعدم نشرها سابقا، وليتهم لم يفعلوا…. فتعليقاته على بعض المصنفات تعدُّ مصنفا مستقلا، ورسالة خاصة، مثل تعليقاته على بداية السول لسلطان العلماء العز بن عبد السلام، وتعليقاته الجياد، على “الحبائك في أخبار الملائك” للحافظ السيوطي، وغيرهما، فهي طويلة الذيل، عظيمة النَّيل.
ولم تضم الموسوعة بعض مقالاته وتقريظاته المفيدة لمصنفات غيره، مثل تقريظه المفيد جدا لكتاب “مفاهيم يجب أن تصحح” لعلامة مكة الدكتور محمد بن علوي المالكي، خصوصا أنه كتبه في سياق استثنائي، ومقاله عن كتاب “أزمة أمانة” للأستاذ عبد اللطيف بن عبد الغني جسوس، وغيرهما كثير جدا.
أما مقالاته، فمن العسير جمعها، ومنها ما لم أحصل عليه بعد جهد وعناء، مثل مقاله عن حلق اللحية، المنشور في مجلة الكلمة التي كان يصدرها علماء سوس.
وهناك ما تفلت من المشرفين على الموسوعة، ويمكن استدراكه في طبعة لاحقة إن شاء الله، مثل الجزأين الثاني والثالث من سمير الصالحين، وهما مطبوعان، ولم يتضمن المجلد الثامن من الموسوعة إلا الجزء الأول.
كما لم تضم الموسوعة بين دفتي أسفارها، رسالة “مرشد الحائر، لبيان وضع حديث جابر”، وهي منشورة في مجلة المعتمد، عدد 7، 1408 – 1988. وهذا لا يضر، خصوصا أن جوهرها منشور في المجلد الخاص بالمقالات، حيث خصص العلامة الإمام حديث : “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر” بمقال أو أكثر في مجلة الإسلام القاهرية، وكان له أثر في تنقية التصوف من بعض ما لحق به من الموضوعات والأكاذيب، واستفاد من تلك المقالات غير واحد من المشايخ، منهم العلامة الشيخ محمد الباقر الكتاني في شرحه على الصلاة الأنموذجية لوالده الشيخ الشهيد رحمه الله تعالى.
ومما ألفت الانتباه إليه، لتشمير ساعد البحث والتنقيب، أن العلامة الإمام، كان منهمكا في شرح أو التعليق على “المنقذ من الضلال”، وهو ما صرح به في إحدى مراسلاته مع تلميذه الحاج الصادق بنكيران القصري، وهو ما لم نجد له أثرا في هذه الموسوعة، مما يجعلنا نلح على تلاميذه وأنجال إخوته أن يشمروا ساعد الجد لنحصل على هذا العلق النفيس، وتزدان به الطبعة القادمة من الموسوعة إن شاء الله.
وأفادتنا الموسوعة، أن للعلامة الإمام حاشية على صحيح مسلم، بيعت حين كان في السجن رحمه الله تعالى، واكتشفها ابنه الروحي الشيخ محمود سعيد في مكتبة الرياض بالسعودية، وهي في أربعة مجلدات بخط الشيخ، ولما سأله عنها، أجابه رحمه الله تعالى بأنها خلاصة أبحاثه وأبحاث غيره من بعض المحققين، وقال له : إن أمكنك نقلها فحسن جدا” 16/256. ولعل هذه العبارة تدل على تشوفه وشوقه لرؤية جزء من تراثه الذي فقده بسبب المحنة.
وفي انتظار الموسوعات الخاصة بشقيقيه الأسعدين، أبي الفيض السيد أحمد، وأبي اليسر السيد عبد العزيز، لا يسعني في الختام، إلا أن أبارك لعموم الباحثين والدارسين، صدور هذه الطبعة الرائعة من موسوعة الإمام العلم، سيدي عبد الله بن الصديق الغماري رضي الله عنه، وأن نحيي بحرارة، نجله البار، وابنه الروحي، الشيخ محمود سعيد ممدوح، والدكتور عبد المنعم والسيد عبد المغيث نجلي شقيقه العلامة السيد عبد العزيز، على ما بذلا من جهد، وما لقياه من نصب، في سبيل إخراج هذه الموسوعة، كما نتوجه بأريج الثناء، لكل من أسهم في إخراج هذه الموسوعة، من مصريين، وماليزيين، ومغاربة، ولا يسعني إلا أن أذكّر الجميع، أن ما أوردته من ملاحظات لا ينقص من قيمة العمل مثقال ذرة، ومن ادعى أنه قادر على جمع تراث هذا الإمام جمعا كليا، فنقول له : “العرب بالباب”.
اترك رد