تَلخِيص: غيداء الجويسر، باحثة دكتوراه بريطانيا
مُراجعَة وتَدْقيق: رولا عادل
هذا المقال ليس ترجمةً أكاديميةً إنَّما هو بالأحرى قراءة أكاديمية لفصل من كتاب بعنوان: علم اجتماع المتفائلين ، الكتاب تم نشره في أغسطس ٢٠١٦، وتوفَّر منه فصلٌ واحدُ (كامل) فقط كعيّنة للقراءة عنوانه: المتعة ، أعتبر نفسي من المحظوظين لالتهام هذا الفصل فور صدوره وأرى أنّه من الجميل أن أشارك بملخص عنه عبر المحتوى العربي الأكاديمي على شبكة ضياء.
تتضمن التدوينة قسمين رئيسيين: الأول يلخص الفصل الذي قرأته، أما الجزء الثاني فيطرح العديد من الأسئلة حول ما يمكن استنباطه من خلال هذا الاتجاه النظري على الواقع العربي ، بتعبير آخر: كيف يمكن أن نصوغ علم اجتماع المتفائلين في واقعنا العربي؟
(١) المُلخَّصُ:
في الجزء الأول من الفصل تأسف ماري هولمز أنّ علماء الاجتماع نادرا ما يُقَدِّرُون أو يُثَمِّنُون قيمةَ المتعة والاستمتاع ، ورغم اهتمام بعض المتخصصين في علم الاجتماع في مجال دراسة العواطف، إلا أنَّهم رغم ذلك يتحايلون حول كُنْه الشعور بالمتعة فعلا.
علماءُ الاجتماع من وجهة نظر ماري متشائمون في الغالب، يتجاهلون الأدلة على أنَّ الناس يجدون أحيانا المتعة في حياتهم بوعي كامل، مفترضين أنَّ أسباب المتعة تعود بالضرورة لما يشبه الهروب من الواقع (سيتمّ شرحُ ذلك في السطور التالية).
تضيف هولمز أن جزءًا من التفاؤل الذي من المهم أن يتم تسليط الضوء عليه، و الذي تعتبره ماري مفتاحًا للمعرفة الاجتماعية الكاملة، هو استيعابُ وفهمُ كيف يَخْبُر الناس تجربة المتعة بالرغم مما يعايشونه من ظروف صعبة ، وتناقش ماري ذلك بشيء من التفصيل، عبر ما تفسّره بـ: التوازن بين البناء الاجتماعيِّ (تنظيم المجتمع) وبين قدرة الأفراد على تشكيل ورسم حيواتهم . هنا ترفض ماري حصرَ حصول المتعة بالحصولِ على إمكانيات أو امتيازات معيّنة (مثل القدرة المالية والمكانة الاجتماعية) ،و بدلاً عن ذلك تقترح هولمز تناول دور القدرات والإمكانيات الشخصيَّة (سيتضح معنى ذلك بنهاية هذه التدوينة).
تطرح ماري كذلك تساؤلا عن العلاقة بين وقت الفراغ والمُتعة، فهل فعلاً أنه من غير الممكن حدوث المتعة إلا في حال توفر وقتُ الفراغ؟ ،وهل توفّرُ الوقتِ المخصَّص للاستجمام والراحة هو الفرصة الوحيدة للحصول على المتعة؟ ، خلال هذا المحور تستخلص هولمز أن العمل أحيانًا بحد ذاته يمكن أن يحقق المتعة للموظفين، تضرب في ذلك مثالاً للعاملين في مجال التجميل مثلاً أو في مجال الفن الترفيهي كالمسرح أو الغناء والرقص وغيرها من الأعمال التي تعتبر “وظيفة” و “عملاً” إلا أنها تحقّق المُتعة للعاملين فيها.
تُعَرِّج ماري هولمز إلى تعريف المُتعة في قاموس أوكسفورد اللغوي، ودون الدخول في تفاصيل وترجمة لتعريف القاموس، فباختصار فإنَّ تعريف المتعة لغويًّا هو الحالة الشعورية بالرضا أو استشراف الشعور بجودة الأشياء والمرغوب منها.
هنا تتناول ماري بالتفصيل ما تقصده بافتراض أن المتعة تحدث نتيجة لوعي خاطئ أو ببساطة نتيجة لعدم الفهم أو الجهل بقيمة ومعنى الأشياء، و تضرب هنا الفن كمثال، بوصف أن فهم الفن محصورٌ علي طبقة معينة لا يُسمَح لغيرهم أن يستمتعوا به أو يفهموها، ذلك يحدث بافتراض أن استمتاع الطبقة العاملة بالفنون هو ليس تقديرا للفن ” فهمًا حقيقيًا للفن بمعرفة تأويلاته وتاريخه ” – في رأي ماري هولمز – تجاهل للشعور بالمتعة الذي لا يشترط فهم هذا النوع من الفن (بشكل تاريخيّ، أكاديميّ، علميّ مثلاً).
نقطة أخرى تطرحها هولمز؛ وهو افتراض ارتباط حدوث المتعة بجودة الحياة، وبهذا نحن نتجاهل حدوث المتعة في إطارات وظروف مختلفة مثل ارتباط المتعة بالانحراف أو حدوث المتعة من خلال أذية الأشخاص أنفسهم أو الآخرين. هنا تُشيد الكاتبة بكتاب محاولات الهروب Escape Attempts لستانلي كوهن ولايرا تايلور (١٩٩٢) ، قدم الكتّاب – حسب ماقالته ماري في هذا الفصل – مساهمات ثريّة حول قدرة الأشخاص على استخراج المتعة من أشد ظروف حياتهم اليومية اعتيادية وروتينًا.
بُنِي الكتاب على دراسة أجريت على عددٍ من المجرمين الذين حُكِمَ عليهم بالسجن مدى الحياة، وتحت هذه الظروف الصعبة كان من المُحتَّم على السجناء إيجاد طريقة للهرب من هذه الحقيقة التي لامفر منه.
وكجزءٍ من محاولات الهروب هذه كانوا يدرسون بعض المقررات لملء أوقاتهم بالقراءة والتفكير ، وأحيانا كانوا يتجهون إلى التدين (الشعائر الدينية) للمحافظة على الشعور بذاتهم و التمتع بإحساس الحرية في جنبات التسامح الديني في مقابل افتقادهم للحرية في الواقع. والبعض الآخر منهم كان يحاول التخطيط للهروب حقًّا من السجن ، أما المهرب الرابع فكان صنع عوالم تخيليّة فيما يشبه أحلام اليقظة بهدف تزجية الوقت.
تعلق ماري هولمز هنا بأن فرضيَّة كوهن وتايلور تتمحور فقط حول حدوث المتعة ضمن مُحاولات الهروب القصيرة والعفوية من ضيق البناء الاجتماعي (السجن كمثال). وهنا تتساءل هولمز عن المتعة التي قد تحدث ضمنَ إطارٍ روتينيِّ ومتكرر بحت، فالمتعة يمكن أن تحدث حتى من خلال تخطيط الجدول الشخصيّ (كالجداول اليوميّة، الشهريّة، أو الأسبوعيّة)، أو من خلال تكرار ذات الفعل مرارًا وتكرارًا بهدف إتقانه (شغف العمل كمثال) ، وبهذا لا يكون حدوث المتعة مهربًا!
تختم ماري هولمز هذا الفصل بأن أدبيَّات علم الاجتماع قد تجاهلت إمكانية استمتاع الأشخاص بغض النظر عن محدوديات حياتهم أو الضغوط اليومية عليهم ومن ضمنها كمثال إيجاد المتعة في العمل بحد ذاته ، المتعة ليست محاولة فردية للسعي نحو السعادة بل إن الاستمتاع يحدث مع ومن خلال الآخرين.
تعرّف النظرة المتفائلة بحذر كل ما يقع تحت مسمى المتعة بأنّه ما قد يخضع لقيود البناء الاجتماعي وفي ذات الوقت يجيز رغبة الفرد الشخصيّة في مواجهة تلك القيود الاجتماعيّة، بطريقة تربطنا إيجابيا بالآخرين و تسمح لنا بالمشاركة في التغييرات الاجتماعية حولن ، مثال أخير رائع تضعه هولمز كهامش في نهاية الفصل وهو عملها مع عدد من الزملاء على كتابة مقالة علمية عن متعة البحث (البحث العلمي) the joy of research. فالبحث العلمي هنا ليس مهمّة مملة لابدَّ من القيام بها للتخلص منها بالوصول لهدف وظيفي معيّن، بل هو “متعة” في حدّ ذاته كممارسة الفن والهوايات الشخصية!
هنا ينتهي الجزء الأول من هذه التدوينة ويأتي الجزء الثاني الذي يطرح تساؤلات عدة عن توظيف ما طرحته ماري هولمز على الواقع العربي.
(٢) الواقعُ العربيُّ وعلمُ اجتماعِ المتفائِلين:
يطرح الاتجاه النظري أعلاه العديدَ من التساؤلات حول واقعنا العربيّ، كيف يمكن تبنّي علم اجتماع المتفائلين في العالم العربيّ؟ ، ماهي الظواهر التي من المُمكِن رصدُها في واقعنا العربيّ والتي تتقاطع مع ما سبق عرضُه من أمثلة، رغم أنها حدثت في إطار ثقافيّ واجتماعيّ مختلف؟ ، أرى بأننا بحاجة لتبني لعلم اجتماع المتفائلين من خلال الدراسات العلمية، بحاجة للتعرف على كيف يجد الناس المتعة داخل الظروف الصعبة؟ ، كيف يمكنهم الاستمتاع بالروتين اليومي أو العمل بغض النظر عن نوعيَّة هذا العمل مثلاً؟
كل هذه الأسئلة تطرح نفسها تحت مظلّة علم اجتماع المتفائلين لأنّ النظر للمتعة كمهرب من حياتنا اليومية يظلم كَمًّا كبيراً من القدرات البشرية التي تتمكن من تحويل الظروف الصعبة إلى مكسب ، أقول هذا وأنا أحسب أنَّ علم اجتماع التفاؤل ليس نوعًا من خطابات تطوير الذات – التي أحمل بشكل شخصي الكثير من التحفظ حولها – بل هو مجالٌ يتناول كيفية تعاملنا مع الواقع بشكل خلّاق بدلاً من التعامل معه بشكل بُكائي.
رغم أنّ بعض الأمثلة التي يمكن تناولُها من خلال علم اجتماع المتفائلين تحضرني الآن، إلا أنني أفضل تركها لمخيلة القارئ المتخصص وغير المتخصص في علم الاجتماع، أترك لهم بعض الأمثلة التي استحضروها خلال قراءة ماطرحته ماري هولمز في محاولتِها لتأطير مجالٍ بحثيٍّ لعلم اجتماع المتفائلين.
ختامًا، كانت هذه محاولة متواضعة لبناء جسر بين الغرب والشرق من خلال منتوج علميٍّ أكاديميٍّ غيرِ عربيِّ، كُتِب ضمن إطارات ثقافية مختلفة، وذلك بهدف البحث عن مقاربة بينه وبين الواقع العربي، إن أمكن، فإن أخطأتُ فمن نفسي وإن أصبتُ فمن الله. شكراً لقراءتكم وأرحِّبُ بأي تعليقاتٍ عن طريق التواصلِ عبرَ البريدِ الإلكترونيّ : [email protected]
اترك رد