أ.د. الطيب بودربالة –جامعة باتنة1- الجزائر
مقدمة
ظهر الأدب المقارن في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، نتيجة عوامل كثيرة تعود في مجملها إلى المناخ الحضاري الذي كان سائدا وقتئذ في أوروبا. لقد أسهمت التحولات العلمية التي عاشها الغرب، خلال تلك المرحلة، في ازدهار العلوم واستقلال كثير من الحقول المعرفية وتبلورها، بحيث أضحت المعارف تتخلى تدريجيا عن طابعها الموسوعي والشمولي لتتجه نحو التخصص والاستقلالية، ولم يشذ الأدب المقارن عن هذه الظاهرة العامة. وسعيا منا لإنجازحفريات المعرفة، فإننا سنحاول رسم بعض معالم هذه الديناميكية الخلاقة التي غيرت وجه التاريخ وأمدتنا بالثمار اليانعة الطيبة. نعرض بعد ذلك للمغامرة الكبرى التي عاشها الأدب المقارن في القرن العشرين والتحولات التي التي مكنته من تحقيق قطائع معرفية حاسمة. ونتوج الدراسة بمعاينة التحديات التي تواجه الأدب المقارن في العالم العربي، تنظيرا وممارسة وتدريسا، في ظل العولمة الزاحفة وحوار الآداب والثقافات.
حفريات
المقارنية لصيقة بالإنسان ومن مكوناته الأنتروبولوجية العميقة، وقديما قيل:” تفهم الأشياء بأضدادها”. وقد أدت المقارنة دورا حاسما في تأسيس القيم الجمالية والفنية في العصر الجاهلي، من خلال رسم معالم الذائقة الفنية وطرق اشتغالها وآليات تحقق إنجازاتها. لقد قامت الروح الكلاسيكية الجاهلية (المعلقات، مجالس التباري، الأغراض، المتخيل، المرجعيات الكبرى للشعر) على الموازنة والمقارنة.
ومع حلول عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، وازدهارالحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية، ازدهرت المقارنية، تحليلا وتنظيرا وتأويلا، في شتى مجالات العلم والمعرفة، وتحددت معالم العبقرية العربية في مجال الأدب والمعرفة، انطلاقا من اتجاهين مختلفين ومتكاملين في الوقت ذاته: الاتجاه العمودي والاتجاه الأفقي. يتمثل الاتجاه العمودي في حرص النقاد والأدباء على الاحتكام إلى النماذج العليا المتمثلة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والموروث الشعري وكلام العرب، أي ما يمثل الكمال ويفرض الاقتداء والاحتذاء. وقد تواضعوا على الاحتكام إلى سلطة معرفية ونقدية تضفي الشرعية على التراث وتجله وتتأسس على قواعدالكلاسيكية والاحتجاج الذي يستند إلى معايير دقيقة ومحكمة. وكان من نتيجة ذلك أن برزت إنجازات هامة في مجال الموازنة والمقارنة والتجريح والتعديل والنقد (الموازنة بين الشعراء، الموازنة بين الطائيين مثلا). أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الأفقي الذي يهدف إلى مقارنة الأدب العربي بغيره من الآداب (الفارسي، اليوناني بصفة خاصة). وتخضع هذه المقارنية لمركزية عربية صارمة تضع آداب الشعوب غير العربية في الهامش وتنصب نفسها في المركز، على غرار كل المركزيات الحضارية الأخرى. نجد في المركز الآداب العربية وهي تتبوأ المكانة اللائقة بها وعن جدارة. أما الهامش فتحتله الآداب الأعجمية (فيها عجمة أي لا تفصح ولا تبين). ولم يتعمق العرب كثيرا في هذه المقارنة ، لأنها اقتصرت على بعض التعالقات التي لا تمس جوهرالأدب العربي، حرصا منهم على العقيدة الإسلامية السمحاء المتمثلة في جوهر التوحيد(وهذا ما يفسر عزوف النقاد والأدباء العرب عن الملحمة والمسرحية اليونانيتين). ( )
من هذا المنطلق، نستطيع أن نقول إن العرب قد عرفوا الأدب المقارن مسمى دون أن ينحتوا له اسما بالمفهوم المتعارف عليه اليوم ، عرفوه باعتباره منهجا وموقفا نقديا وموازنة وحوارا مع الغيرية الثقافية والحضارية وكذلك في علاقاتهم بالآداب الأجنبية وفي ممارساتهم النقدية. والتاريخ العربي حافل ببعض روائع المقارنة بين الأدب العربي من جهة وآداب الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية من جهة أخرى، وقد شكلت الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي بوتقة انصهرت فيها كل المكونات الحضارية (الهندية، الفارسية، اليونانية، البيزنطية، المصرية،..الخ)
كما ساعدت عوامل الترجمة والتأثر والمثاقفة والهجرة والاحتكاك بكل أنواعه على استيعاب الأنساق الثقافية الدخيلة وغربلتها ودمجها في الأصيل وتمثلها لتصبح من مكونات الهوية الثقافية العربية. وقد راعى العرب في علاقاتهم بالآداب الأخرى ثلاثة اعتبارات أساسية هي:المحتوى، المنهج والمنطلق. ( )
لم يجدوا حرجا في الاستفادة من المحتويات والمناهج العلمية والفكرية الدخيلة، من منطلق التمكن والوعي والأقلمة والثقة بالنفس والتجاوز، لان الموازين الحضارية كانت في صالحهم ، بخلاف ما هو عليه الحال اليوم، ولكنهم حرصوا كل الحرص، في المقابل، على رفض كل المنطلقات العقائدية والميتافيزيقية للآداب والثقافات غير الإسلامية، لأنها تتناقض كلية مع منطلقات الروح الإسلامية والتي قوامها التوحيد. هذه المنطلقات الجوهرية جعلت العرب يرفضون بعض الأنواع الأدبية، حرصا على المناعة والتحصين. خارج هذه الدائرة، احتفى النقاد والفلاسفة والمفكرون أيما احتفاء بالنظريات النقدية والفلسفية والعلمية الأجنبية وطبعوها بميسمهم بعد أن أضفوا عليها من عبقريتهم الفذة الشيء الكثير. ( )
النهضة الأوروبية التي ظهرت في أوروبا في القرنين الخامس والسادس عشر مدينة للعرب في كل شيء، رغم نكران وجحود بعض الغربيين. فمن المعلوم، اليوم، بشهادة المؤرخين المنصفين( )، أن الحضارة الغربية قامت على ثلاث ركائز أساسية: الركيزة اليونانية الرومانية، والركيزة اليهودية المسيحية، والركيزة العربية الإسلامية. هذه الأخيرة وهي آيلة للسقوط، وفي لحظات الرمق الأخير، تمكنت من تسليم المشعل الحضاري إلى أوروبا. وتعد سنة 1492 علامة فارقة في التاريخ الإنساني، إذ تزامن خروج المسلمين من الأندلس مع اكتشاف أمريكا من طرف كريستوف كولومبوس. فمن جهة، تقلص وانحصار وتراجع وانتكاس، ومن جهة أخرى ، توسع وبعث وانطلاق. فالحضارات، من منطلق فلسفة التاريخ، تتواصل عبر الأزمنة والأمكنة، وليس هناك فراغ حضاري كما تؤكد سنن ونواميس التواصل الحضاري.
إن الحضارة اليونانية التي عدها بعض المؤرخين مهد كل الحضارات الإنسانية هي في الحقيقة الوريثة الشرعية لكل الحضارات الشرقية: الهندية، الفارسية، المصرية، البابلية،..الخ. وقد بين الأنتروبولوجي الفرنسي، جورج دوميزيل، أهمية المكون الهندي الذي يعد جوهريا في كل الحضارات الغربية، لغة وفكرا وأسطورة ودينا وحضارة، والذي طبع بميسمه أوروبا بكاملها (المكون الهندوأوروبي). وبفضل المقارنة، ازدهرت الحضارة اليونانية في كل مجالات الإبداع الأدبي والثقافي والفلسفي والعلمي، وقد كانت المقارنية حاسمة في تتلمذ الرومان على اليونان، وقد قيل بحق:” أن روما قد انتصرت عسكريا على أثينا ولكنها انهزمت ثقافيا وحضاريا أمامها”. هذا الرصيد اليوناني الروماني بعث في عصر النهضة في أوروبا ليكون مرتكزا ومرجعية للنزعة الإنسانية الفتية وللروح العلمية التواقة إلى استشراف المستقبل بعيدا عن هيمنة الكنيسة وسلطة الملكية المستبدة.
نشطت المقارنية في العصر الكلاسيكي، في القرن السابع عشر بأوروبا ، وقد رجع أدباء هذا العصر إلى التراث اليوناني الروماني ليستلهموا منه مصدر إلهامهم وطاقاتهم الإبداعية الخلاقة، ويظهر هذا جليا عند راسين، وكورناي وشكسبيروموليار..الخ. أضفى هذا التأثربالعصور اليونانية الرومانية الزاهية روحا كلاسيكية على كل إبداعات تلك الحقبة التاريخية ، وقد حل الناقد بوالو الفرنسي محل أرسطوا في التنظير والتقعيد والتوجيه للقيم الكلاسيكية القائمة على تمجيد العقل والملكية والأرستقراطية.
بزغ عصر التنوير، مع بداية القرن الثامن عشر، ووجه المقارنية في فرنسا وجهة أخرى بعيدا عن الوهج اليوناني الروماني. اتجهت المقارنية التنويرية نحو فضاءات جديدة لم تكن تخطر ببال الكلاسيكيين الذين كانوا يدورون في فلك الإقطاع والملكية المستبدة. حقق التنويريون قطيعة ابستمولوجية مع الإرث الكلاسيكي، وذلك بتوجههم نحو الشرق، خاصة بعد ترجمة ألف ليلة إلى الفرنسية من طرف أنطوان جالان(1704-1716)، واكتساحه للمتخيل الأوروبي. تعلق التنويريون بالشرق، شرق العجائب والغرائب والخوارق، شرق ألف ليلة وليلة والجواري والحريم والأميرات الساحرات، كما يتجلى ذلك في بعض كتابات فولتير وروسو ومونتيسكيو. انبهر هؤلاء الأدباء بالشرق وبالعوالم الروحية وبالمتوحش( أسطورة “المتوحش الطيب” عند روسو)، وبالعالم الجديد الذي تمثله قارة أمريكا بغدريتها وبطراوتها وبطوباوبتها(خاصة أمريكا الجنوبية). إنها استراتيجية ثورية تمجد العقل والحرية والديموقراطية والنزعة الإنسانية للإطاحة بقيم الكنيسة والأرستقراطية وبالذهنيات البالية.
يعد القرن التاسع عشر بحق العصر الذهبي للاستشراق، ويعد كذلك منعطفا تاريخيا وحضاريا حاسما في تاريخ أوروبا وعلى جميع المستويات بفعل التحولات الحضارية والقطائع الابستمولوجية. وقد كان لحملة نابليون على مصر سنة 1798، واحتلال الجزائر من طرف فرنسا سنة 1830، والتوسع البريطاني في شبه القارة الهندية، دور أساسي في ازدهار الدراسات الشرقية.
ظهر الأدب المقارن، كما أشرنا سابقا، بفرنسا في القرن التاسع عشر الميلادي، نتيجة للتحولات العلمية والثقافية والإيديولوجية والحضارية الكبرى التي عرفتها أوروبا خلال تلك المرحلة الحاسمة في تاريخها، وقد لعبت عوامل كثيرة في بلورة هذا الحقل المعرفي الاستراتيجي الجديد، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، انتشار الروح القومية في كل بلدان أوروبا ، وما تبع ذلك من تمجيد وتقديس للموروث الأدبي الشعبي والقومي في مواجهة الآداب الأجنبية. إضافة إلى ذلك، التشبع بمبادئ الثورة الفرنسية العالمية و اكتشاف الغرب، كما رأينا، للثقافات والآداب والحضارات الشرقية، عن طريق التوسع الاستعماري وعن طريق الاستشراق. ومن العوامل الحاسمة كذلك اكتساب أوروبا لوعي عميق بهويتها الثقافية والحضارية عن طريق التمايز والاختلاف، وازدهار العلوم الإنسانية والاجتماعية وتطور الدراسات التاريخية والأنتروبولوجية. كما كان لظهور الروح الكوسموبوليتية في الأدب والثقافة والفكر دور كبير في الانفتاح على آداب وثقافات مختلف الشعوب والأمم، بهدف تذوقها والتماهي معها. والأدب المقارن مدين لطهور ابيستيمة جديدة في الغرب تتمثل في سيطرة المنهج المقارن على كل الحقوق المعرفة الإنسانية، إنها ديناميكية جديدة تشتغل على مستوى أوروبا وعلى مستوى العالم لفرض عولمة جديدة قائمة على الرأسمالية الزاحفة المعتدة بنفسها والتي تسعى بكل الوسائل للهيمنة على المصير الإنساني.
فرض الادب المقارن نفسه في الجامعة الفرنسية تدريجيا، مع منتصف القرن التاسع عشر، بفضل الرواد المتحمسين للآداب الأجنبية، من أمثال جون جاك أمبير، وقد شجع هذا التوجه، من قبل، بعض كبار الآدباء والنقاد، من أمثال مادام دوستال ولانسون وسانت بيف وهيبوليت تين. وقد احتار الأوائل في ايجاد تسمية جامعة مانعة لهذا المولود الجديد، وقد استقر الاتفاق على تسميته بالأدب المقارن Littérature comparée (اسم مفعول على حساب اسم الفاعل)، وهي تسمية إشكالية لم تحظ بإجماع كل المقارنين ، لكن في النهاية أبقي عليها ، رغم عدم دقتها، لرواجها واشتهارها عبر العالم.
مغامرة الادب المقارن في القرن العشرين
يشكل القرن التاسع عشر عهد التأسيس لهذا الحقل المعرفي الجديد بفرنسا، حيث شرعت الجامعات الفرنسية، مع النصف الثاني من هذا القرن، على إيلاء أهمية خاصة للدرس المقارن ولكل ما يتعلق بحضور المكون الأجنبي في الآداب الوطنية الأوروبية. وقد كان اهتمام المقارنين منصبا في البدايات الأولى على السعي للبحث عن الوشائج التي تربط الأدب الفرنسي بغيره من الآداب الوطنية المجاورة (الإيطالية، الألمانية، الإنجليزية، الإسبانية،..الخ)، في إطار وحدة أوروبا الثقافية. وقد
أثمرت هذه الجهود بتأسيس مجلة الأدب المقارن بفرنسا، سنة 1921، والتي أضحت منبرا هاما لكبار المقارنين الفرنسيين والغربيين. ومما لاشك أن المدرسة الفرنسية قداستطاعت أن تتبوأ الريادة في مجال الدراسات المقارنة، طيلة النصف الأول من القرن العشرين ، كما تمكنت من بسط نفوذها وتأطير النشاطات المقارنية وطبعها بطابعها الخاص، تنظيرا وتطبيقا، إجراء وممارسة وتدريسا. وقد تشبعت هذه المدرسة، إلى حد كبير، بالمركزية الغربية في مجال الثقافة والسياسية ورؤية العالم. ونذكر من روادها، على سبيل التمثيل لا الحصر، بالدنسبرجي، جويار، باطايون، فان تيجم ، جون ماري كاي، وشارل ديديان. وقد اتسمت هذه المدرسة باعتمادها على الدراسات التاريخية وعلى التوجه الوضعاني وعلى التراكمات المونوغرافية. ( )
تشترط المدرسة الفرنسية لإنجاز المقارنة بين الآداب الاختلاف اللغوي والبرهنة على وجود علاقات تأثير وتأثرحقيقية مبرهن عليها تاريخيا، مما يطرح إشكالية هامة تتعلق بالآداب الوطنية المختلفة والتي تجمعها، رغم ذلك لغة واحدة ، مثل الآداب الأنجلوفونية والفرنكفونية والاسبانوفونية.
لا أحد ينكر أن المدرسة الفرنسية قدمت إنجازات نوعية هامة في مجال الدرس لمقارن الذي استطاع أن يتبوأ المكانة اللائقة به في الجامعات الفرنسية وفي جل الجامعات الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية. لكن عيب على هذه للمدرسة يكمن في مرجعياتها الإيديولوجية وغلوها في الاعتماد على الدراسات التاريخية، وتضحيتها بالأدبية وبالتعالقات المعرفية المختلفة، وتقديسها المفرط للمعيار اللغوي وضعفها المنهجي والابستمولوجي.
بعد التراكمات المعرفية المتعددة الجوانب الذي عاشها الأدب المقارن، غداة الحرب العالمية الثانية التي غيرت موازين القوة الأدبية والثقافية والحضارية في العالم، أخذ الأدب المقارن يتحسس طريقة بكل ثقة وبكل أمل. ذلك أنه بلغ مرحلة النضج التي تقتضي منه تحقيق كثير من القطائع الابستمولوجية والانفصال عن فضاءات النقد وتاريخ الأدب وفقه اللغة والأدب الحديث ونظرية الأدب، بهدف تحقيق استقلالية هذا الحقل المعرفي الاستراتيجي، من حيث المنهجية والمصطلحات والمفاهيم والميادين والمقاصد. ورغم استقلالية هذا الفضاء المعرفي(استقلالية نسبية)، فإن كثيرا من الحقول النقدية والثقافية والفكرية تتقاطع وتتفاعل داخله محققة كثيرا من الإخصاب والثراء. إن الأدب المقارن بآفاقه الموسوعية وبعمقه التخصصي قد استطاع أن يؤلف في خيمياء متميزة بين العوالم الرحبة الواسعة والعوالم الجزئية المتناهية في الصغر. إنها رسالة الأدب المقارن المبنية على النزعة الإنسانية العميقة التي تنطلق من الخصوصية والمحلية لتستشرف العالمية وآفاق الإنسانية بكاملها. لقد شهدت سنة 1954 تحولا نوعيا في الأدب المقارن وذلك على المستوى العالمي، ويتمثل هذا المنعطف الحاسم في تأسيس الرابطة الدولية للادب المقارن بمدينة البندقية( فينيسيا) بايطاليا، ويكتسي اختيار هذه المدينة الأسطورية طابعا رمزيا عميقا بالنسبة لتاريخ الأدب المقارن ورسالته الحضارية. ذلك أن هذه المدينة العريقة بحكم موقعها الجيو الحضاري تمثل التقاء الشرق بالغرب، والتقاء الشمال بالجنوب، وعناق المتخيل الأسطوري للإرث الأدبي العالمي والإنساني.
بعد سنة من تأسيس هذه الرابطة الدولية وفي المدينة نفسها يلتقي المقارنون في لقاء هو الأول نوعه في العالم في مؤتمر دولي لاستشراف مستقبل الأدب المقارن. يمثل هذا المؤتمر الانطلاقة العالمية الحقيقية للأدب المقارن، لأنه جمع بين رجالات الأدب المقارن من أوروبا ومن أمريكا للتحاور ولتبادل الآراء والأفكار والنظريات ولاستشراف المستقبل، في مناخ دولي يتسم بالمواجهة الإيديولوجية المحتدمة بين الغرب الرأسمالي من جهة، والمعسكر الاشتراكي من جهة اخرى ، بين القوى الاستعمارية من جهة، وقوى التحرر في العالم الثالث من جهة اخرى، وقد ألقت الحرب الباردة والثورات التحررية في العالم بضلالها على الأجواء التي سادت المؤتمر الدولي الأول. ورغم هذه الأجواء الدولية المتوترة، فقد تمكن المقارنون من رصد ومعاينة ما تم إنجازه في الواقع، خلال المسيرة السابقة ورسم معالم مقارنية أدبية مستقبلية، قوامها حوار الآداب وتبادلاتها المثمرة أخذا وعطاء، تاثير وتأثرا، في إطار المتخيل الأدبي العالمي. وقد صدق بول فاليري عندما قال: ” الأسد مجموعة من الخراف المهضومة”. فقوة كل أدب تكمن في قدرته على استيعاب وتمثل الآداب الأخرى، فالتلاقح شرط أساسي لتطور الآداب وازدهارها وإشعاعها. ومنذ ذلك الحين جرت العادة أن يلتقي المقارنون من مختلف بلدان العالم كل ثلاث سنوات لحوصلة نشاطاتهم العلمية وفتح آفاق المستقبل ( ستعقد الرابطة هذه السنة مؤتمرها الدولي الثاني والعشرين في جويلية بفيينا عاصمة النمسا).
لقد فتح مؤتمر البندقية آفاقا لا حصر لها بالنسبة للدرس المقارن، إذ رسم معالم مشروع مستقبلي واعد، بعد أن قام بحوصلة ومراجعة ما تحقق من إنجازات مقارنية في مختلف البلدان الغربية. بدأت تتشكل بعد الحرب العالمية الثانية توجهات جديدة في الأدب المقارن بأمريكا، وقد كان للخصوصية الثقافية الأمريكية (أمريكا وريثة مختلف الثقافات والأعراق والحضارات التي انصهرت داخل بوتقة الطوباوية الأمريكية الجديدة التي رسم معالمها الآباء المؤسسون) دور بارز في ظهور المدرسة الأمريكية. لقد كان لمؤتمر الرابطة الدولية للأدب المقارن الذي انعقد بتشابل هيل بكارولينا الشمالية، سنة 1958، أهمية كبرى في ميلاد هذه المدرسة الذي يتزعمها كبار المقارنين الأمريكيين، من أمثال هنري ريماك وروني ويلاك وهاري لوفين. تكلم روني ويليك عن:” أزمة الأدب المقارن” ووجه جل انتقاداته للمدرسة الفرنسية التي اتهمت بالإقليمية الضيقة وبتغليب التاريخ الأدبي والنظرة الميكانيكية والوضعانية على الدرس المقارن، كما اتهت أيضا بتجاهل الأدبية والنقد الأدبي وتعالق الآداب بالفنون وأنواع المعرفة المختلفة.
لم تلبث المواجهة بين المدرستين أن خفت مع ظهور جيل جديد من المقارنين الفرنسيين والامريكيين الذين تجاوزوا الصراعات القديمة للانفتاح على المستجدات المعرفية التي يزخر بها العالم.
هذا التوجه الجديد مدين كذلك لشخصية مقارنية فريدة من نوعها. إنه العالم روني إيتيامبل أستاذ الادب المقارن في السوريون والذي يعود اليه الفضل في خلخلة أركان الأدب المقارن التقليدي بكتاباته الشجاعة والجريئة التي قلبت موازين القوى الثقافية وذلك بتبني قطائع معرفية غير معهودة في السابق .
لقد عودنا الدرس المقارن التقليدي في الغرب على تبيان إشعاعية الغرب على الشرق في الآداب والثقافات والحضارات. أما إيتيامبل فقد قلب هذا المنطق رأسا على عقب وسعى في مشروعه النقدي الجديد إلى التركيز على إشعاعية الشرق على الغرب في كل مجالات الإبداع وفي كل الأنواع الأدبية (الملحمة، الرواية، الشعر، المسرح ، النقد، نظرية الأدب، السرد،..الخ.). ومن هذا المنطلق، قوض إيتيامبل المركزيات الغربية المختلفة ومارس ما يسميه بمقارنية مطلقة، أي مقارنية بلا حدود( ).
وكان نتيجة ذلك تأسيس تصورات جديدة في مفهوم نظرية الأدب والأدب العالمي والأدب العام والنقد الادبي. وقد ساعد التصور الجديد على بروز جيل جديد من المقارنين الفرنسيين، من أمثال باجو، برونيل، اسكاربيت، روسو، شوفرال، بيشوا، كادو، فوازين. فبضل هذا الجيل الجديد ، اتجهت المقارنة وجهة جديدة غير معروفة في السابق: آداب أمريكا الجنوبية، الآداب الإفريقية، الآداب الأسيوية. كما أخذ الأدب المقارن يهتم بموضوعات جديدة غير معهودة في السابق وتتعلق بالمرأة والطفولة والأقليات وأدب الهامش والتراسل بين الفنون والآداب والاستشراق والاغتراب والهوية والترجمة والدراسات الثقافية والصورولوجيا والأدب الإلكتروني وحوار الآداب وآداب ما بعد الكولونيالية، وغير ذلك من الموضوعات التي فرضها التطور المذهل الذي تحقق في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
تشبع الأدب المقارن بموضة البنيوية في الستينيات، لكنه لم يلبث أن تركها ليتبنى الإنجازات الهامة التي حققتها مدرسة كونستانس الألمانية وعلى رأسها كل من ياوس وأيزر، وهكذا اتجهت المقارنة إلى الاهتمام أيضا بالمتلقي وبالمتأثر وبشروط المقروئية والتقبل الجمالي في سياق تواصلي حي يلعب فيه المتلقى الدور الأساسي. إن التركيز عل أفق التوقع وعلى المسافة الجمالية وعلى التجربة الجمالية للقارئ الحقيقي والضمني من الأمور التي وضعت المقارنية في سياقاتها الحقيقية باعتبارها فعلا تواصليا يستند الى الموروث الأدبي ويتطلع الى استشراف المستقبل. والأدب المقارن مدين كذلك للمدرسة الألمانية في كثير من إنجازاته، فقد أمدته في بداياتها الأولى بدراساتها الهامة التي انصبت على الموضوعات الشعبية وعلى الفولكلور وعلى القيم الثقافية الألمانية الأصيلة التي كانت وراء تحقق وحدة الأمة الألمانية. كما استلهمت هذه المدرسة بعض مكوناتها من دراسة وتحليل نصوص اللغات والثقافات الرومانيستية الخاصة بالقرون الوسطى. وقد أمد الأفق الهيرمونيتيقي المنصب على دراسة النصوص (جادامار بصفة خاصة) بنفس جديد للدراسات المقارنة. نجد إلى جانب المدرسة الألمانية مدرسة أخرى لا تقل أهمية وإشعاعية، ألا وهي المدرسة السلافية التي طبعت الأدب المقارن بطابع متميز يتماشى مع النظرة الماركسية للثقافة ومع الخصوصية الثقافية السوفياتية ( ). وقد استطاعت تكسير المركزية الغربية وإعادة الاعتبار لمختلف الآداب الإنسانية، بعيدا عن التراتبية والإقصاء. ومغامرة الأدب المقارن الملحمية مستمرة ومتواصلة ، وقد تدعمت في الربع الاخير من القرن العشرين بزخم جديد من الحقول المعرفية تمثلت في الدراسات الثقافية التي فرضت نفسها في البداية في أمريكا ثم انتقلت إلى بقية بلدان العالم. وتمثل الدراسات الثقافية تحولا هاما في حضارة القرن العشرين، لكونها تركز على الثقافة بصفة عامة في تجلياتها المختلفة. وقد استأثرت الثقافة الجماهيرية باهتمام خاص: السينما، المسرح، التلفزيون، الأنترنيت، مواقع التواصل الاجتماعي، الألعاب، الرياضة والصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية. وما يهمنا هو تفاعل الأدب مع هذا الانفجار الإعلامي والثقافي الذي شكل حساسية فنية جديدة وطبع بطابعه الخاص كل مكونات حضارة الصورة. وقد سعى الأدب المقارن إلى مفهمة الأشكال الأدبية الجديدة كالأدب التفاعلي والرقمي، والموازي. ويسعى الأدب لمقارن الى اكتشاف الوشائج المختلفة التي تربط بين كل هذه الحضارات الملتحمة مع بعضها البعض: حضارة المشافهة، حضارة الكتابة، حضارة الصورة وحضارة الرقمية وما بعدها. وما يميز الأدب المقارن اليوم هو قدرته الفائقة على التجدد وعلى التكيف و وعلى احتضان كل الحقول المعرفية وعلى عبور الآداب والثقافات والمعارف والحضارات.
العرب في مواجهة الأدب المقارن
لقد بينا سابقا أن الحضارة العربية الإسلامية قامت على انصهار مختلف الحضارات داخل عبقرية البوتقة العربية الاسلامية. ويفسر المؤرخون عصور الانحطاط بجفاف المنابع الأصلية، والتقوقع على الذات بعيدا عن ديناميكية الحياة وطاقاتها الخلاقة، ونحن لا نعجب من ذلك لأن لكل حضارة دورة تؤديها ورسالة تضطلع بها وفق نواميس الحياة وسنن الكون.
أدت حملة نابليون على مصر الى إحداث رجة كبيرة في المنظومة الثقافية العربية التٌقليدية. اكتشف العرب أنهم أمام هجمة حضارية شرسة لا قبل لهم بها، مما حدا ببعض قادة الفكر الى الاستعانة علميا وفكريا بهذا الغرب الزاحف واستعارة أسباب القوة والتمكن التي يمتلكها. في ظل هذا الانهيار الناتج عن اختلال موازين القوة وعن مركب النقص، لجأ بعض النقاد والأدباء والمفكرين العرب، في القرن التاسع عشر، الى مد الجسور الثقافية والفكرية مع أوروبا والتشبع بآدابها وفنونها الراقية وعلومها لإنجاز نهضة عربية ومشرع حضاري. وبناء على ذلك نشطت الدراسات المقارنة في اتجاه التأثر والاستنباب والأقلمة مع محاولة إيجاد عناصر التشابه والالتقاء والاختلاف بين الأدب العربي والآداب الغربية. وقد لعب بعض الرواد دور الوسائط الحضارية بين الأدب العربي والآداب الأوروبية، نذكر منهم على سبيل التمثيل سليمان البستاني( ترجمة إلياذة هوميروس إلى العربية) ورفاعة الطهطاوي (معاقرة الجنس الروائي) ومارون النقاش (في المسرح) ، ونجيب الحداد (في الأدب بصفة عامة). أما في مجال تخصص الأدب المقارن في القرن العشرين، فالفضل يعود بالدرجة الأولى إلى بعض الرواد والمؤسسين، من أمثال عطية عامر، وأحمد ضيف وفخري أبو السعيد ونجيب العقيقي وعبد الرزاق حميدة وروحي الخالدي( ) وإبراهيم سلامة الذين كان لهم الفضل الكبير في التأسيس ومد جسور المقارنة والتواصل. وقد سعى هؤلاء الرواد إلى البحث عن مواطن الالتقاء والتأثر بين هذه الآداب المختلفة والمتباعدة في الزمان والمكان والمرجعيات. ولعل أول من استعمل مصطلح الأدب المقارن وعرف به هو خليل هنداوي عندما نشر مقالا مؤسسا في مجلة “الرسالة”، سنة 1936 والذي يحمل عنوانا متميزا:” ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي: “اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة Littérature comparée في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد”( ).
عد محمد غنيمي هلال رائدا مؤسسا للأدب المقارن في العالم العربي عن جدارة واستحقاق. لقد تلقى تكوينه في هذا المجال على يد جهابذة الأدب المقارن بالسوربون ، وعلى رأسهم فان تيجم وبالدنسبرجي. تحصل على الإرث المقارني بكامله من كبار ممثلي المدرسة الفرنسية وتشبع به قلبا وقالبا، روحا ورؤية وممارسة. ويعد كتابه الذي صدر سنة 1953 بالقاهرة تحت عنوان” الأدب المقارن” الثمرة الحقيقية للتيار المقارني الفرنسي وهو في أوج إشعاعه. وقد وجدت المدرسة الفرنسية في الشرق العربي، وقتئذ أرضا خصبة لنشر مبادئها وتصوراتها ورؤيتها للأدب والثقافة والعلاقات الادبية العالمية. وقد استأثر المكون القومي باهتمام غنيمي هلال الذي روج له في هذا الكتاب وفي كتاباته اللاحقة. ويعود هذا الاحتفاء الكبير بغنيمي هلال بالدرجة الأولى الى انتشار الفكر القومي في العالم العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي على يد ساطع الحصري والثورة المصرية والبعثيين والقوميين العرب. وقد أضفت هذه الكتابات شرعية حقيقية على التوجهات الإيديولوجية التي كانت حاملة لمشروع قومي نهضوي يحقق الانعتاق من ربقة التيارين المتصارعين عالميا: التيار الرأسمالي والتيار الاشتراكي.
وعندما نتأمل محتويات هذا الكتاب المؤسس فإننا نجده يحيل مباشرة على الموضوعات التي روجت لها المدرسة الفرنسية ولا يحيد عنها قيد أنملة، وهذا يعني أن هناك تجاهلا كليا لكل ما يعتمل وقتئذ في الساحة العالمية من تحولات نقدية ومقارنية وابيستمولوجية. إن غياب المسافة النقدية وروح التجاوز لدى غنيمي هلال يعود أساسيا إلى تكوينه السوربوني وإلى سعيه لاستنبات التصور الفرنسي القائم عل القومية والمركزية الغربية وأسطورة إشعاعية الغرب على الشرق، وهذا يعمق الهوة و يكرس نوعا من الاغتراب الثقافي.
لقد جاءت موضوعات الكتاب مرآة عاكسة للمنطلقات الفرنسية في مجال الأدب المقارن والقائمة على الوحدة الثقافية الأوروبية منذ اليونان والرومان مرورا بالعصور الوسطى وعصر النهضة والعصور الحديثة ووصولا إلى القرن العشرين. فسواء تعلق الأمر بالتاريخ الأدبي أم بنظرية الأجناس الأدبية أم بموضوعات الأدب المقارن ، فإن غنيمي هلال يحيل مباشرة على التراث الأدبي الغربي في هذا المجال، متجاهلا إسهامات العرب والشرق بصفة عامة في بلورة تراث أدبي إنساني لا يقل أهمية وإشعاعية عن نظيره الغربي. ( )
أثرت كتابات غنيمي هلال، على علاتها، في الممارسات المقارنية في العالم العربي ، تنظيرا وتطبيقا، ثقافة وتعليما. ( ) وقليلون هم النقاد الذين انتبهوا الى خلفياتها الإيديولوجية ومرجعياتها الغربية، وقد أتيحت لعالم الأدب المقارن الفرنسي إيتيامبل فرص كثيرة لتفكيك المركزية الغربية ونقد الذين سوقوها في العالم العربي وفي العالم الثالث.
لم يمنع المد القومي من ظهور بعض المحاولات المقارنية المتشبعة بالفكر الاشتراكي والتي ترى في المدرسة السلافية نموذجا حيا جديرا بالاقتداء والاحتذاء، نظرا لانفتاحها على الآداب المختلفة وتركيزها على العناصر الأدبية المهمشة والمحظورة والمكبوتة( الآداب الشعبية، الفولكلور، الأدب الهامشي). واقتداء بهذا التوجه أسس سنة 1965 رجل الأدب المقارن الجزائري، جمال الدين بن الشيخ، مجلة خاصة بالأدب المقارن أسماها:” دفاتر جزائرية في الأدب المقارن”. وعلى الرغم من أنها تصدر باللغة الفرنسية ، فإنها حاولت أن تعيد الاعتبار للآداب العربية وتبيان طاقاتها التعبيرية والتأثيرية ووهجها الحضاري. إضافة إلى ذلك فقد قدم هذا العالم مداخلة متميزة خلال المؤتمر الدولي الذي عقدته الرابطة الدولية للاداب المقارن سنة 1970، بمدينة بوردو الفرنسية، ليؤكد على أصالة الآداب العربية وفرادتها، وعنونها:” من التقليد الى الإبداع : الآداب المكتوبة بالعربية والغرب”( )
وهذا يعني أن هناك وعيا مقارنيا جديدا بدأ بتحسس طريقه في العالم العربي مستفيدا من التجارب الجديدة التي تحققت في بعض بلدان العالم. ويبدو أن المناخ كان وقتها سانحا للتيار الاشتراكي لتوجيه الدراسات النقدية والمقارنية وجل النشاطات الثقافية والفكرية وجهة معينة تخدم قضايا سياسية وإيديولوجية وثقافية معينة. وقد تخرج جيل جديد من الطلبة العرب الذين درسوا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في أوروبا الشرقية ثم رجعوا الى بلدانهم محملين برؤية للعالم حاولوا استنباتها وتجذيرها في العالم العربي، على الرغم من اختلاف الإرث الثقافي والبيئات والتقاليد الوطنية والمرجعيات السياسية.
وتعد هذه المجلة التي أطرها ابن الشيخ رائدة في الدراسات المقارنة التي سعت الى قلب موازين القوة المقارنية في العالم العربي، ويكفي أن نلقي نظرة على بعض اهتماماتها العلمية لنتأكد بأنها تضطلع حقيقة بمشروع مقارن جدير بالتثمين والتزكية. ومن القضايا المعرفية التي أولتها عناية خاصة نجد:
أ- المصادر العربية لنص خ.ل.بورجس.
ب- عنتر وبيرس عشيقين خائبين.
ج-الجاحظ والأدب المقارن
د- قضية المصادر الإسلامية في الكوميديا الإلهية
ه- أصالة الخرافة الإيطالية حول صلاح الدين”.( )
وقد اتجه بعض المقارنين العرب إلى النهل من النظرية الأمريكية في مجال الادب المقارن وذلك بربط الادب المقارن بالأدب العام ، ذلك أن الأدب المقارن في عرف الأمريكيين شديد الصلة بالأدب العام الذي ينضوي تحته ويمده بالمصداقية وبالشرعية العلمية. إضافة إلى ذلك فقد أنجز هؤلاء المقارنون دراسات خصبة وهامة تقوم على التراسل يين الآداب والفنون وعلى تبيان تعالق الآداب بألوان المعرفة المختلفة، مثل العلوم الإنسانية والاجتماعية والأنتروبولوجية والتاريخية.
بعد مرحلة التأسيس التي شهدتها الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، جاءت مرحلة سن الرشد حيث أصبح الأدب المقارن جزءا لا يتجزأ من المشهد الثقافي والفكري في العالم العربي، إذ أدمج كلية في برامج التدريس الجامعي وفي كل أقسام اللغة العربية وآدابها. وقد نوقشت مئات رسائل الماجستير والدكتوراه في موضوعات شتى من الأدب المقارن، كما وثقت الصلات بين الأدب المقارن من جهة، وحقول معرفية استراتيجية أخرى من جهة أخرى، مثل نظرية الأدب والنقد الأدبي وتاريخ الأدب، وتبين بما لا يدع مجالا للشك أن الترجمة واختلاف المرجعيات الثقافية العربية هي من العوامل الحاسمة التي أسهمت في التشتت والتشرذم والفوضى المصطلحية والمفهومية التي تعيشها الساحة الثقافية العربية. فالعالم العربي مفتوح على الرياح الأربعة، فهو بمثابة ريشة في مهب الريح تذروها الرياح كيفما تشاء، في غياب مشروع ثقافي وحدوي وفي غياب أفق نهضوي حضاري.
لقد فتحت المحافل الدولية والملتقيات والمؤتمرات وخاصة تلك التي تنظمها الرابطة الدولية للأدب المقارن آفاقا واعدة لمستقبل الأدب المقارن. ومن الأمور التي تبشر بخير أن هيمنة الغرب على هذه الرابطة ولي وإلى غير رجعة. وهذا راجع إلى دخول عوالم التخوم والعالم الثالث بقوة هذا المحفل الدولي بهدف التاثير على مجريات الأمور وتغيير موازين القوة الأدبية في العالم. وقد تحققت هذه التحولات تدريجيا، وتجلى ذلك في انعقاد أول مؤتمر دولي في بلد إفريقي، في بريتوريا (جنوب إفريقيا) سنة 2000. ويمثل هذا الحدث الهام نوعا من السمو بالآداب الإفريقية إلى المراتب العليا التي يجب أن تتبوأها عن جدارة واستحقاق، باعتبارها مهد الإنسانية الأولى ومنبع الحضارات. وهذا اعتراف أيضا بحضارات المشافهة التي خلدت إنسانية البراءة والفطرة والفن والصوت والطبيعة والعراقة والديمومة. ولم تمض بعد ذلك إلا ثلاث سنوات كي يعقد مؤتمر الرابطة، هذه المرة، في مدينة تكتسي دلالة رمزية وأسطورية عالمية. إنها مدينة هونغ كونغ، هذه المدينة الصينية التي تحتل مكانة خاصة في المتخيل الإنساني. إنها الشرق بعجائبه وغرائبه وخوارقه ووهجه السحري الخالد، ومن خلالها يتجلى هذا الشرق بكل حمولته الحضارية والثقافية وبكل استيهاماته ورموزه وتمثيلاته. ولم تمض على ذلك إلا بضع سنوات لكي يتجدد اللقاء هذه المرة في سيول عاصمة كوريا الجنوبية ، وكان ذلك سنة 2010.
وقد ساعد هذا الانفتاح على إفريقيا وعلى الشرق الأقصى في تحقيق المراجعة وروح التعاون والتواصل لدى مختلف المقارنين في العالم، خاصة وأننا نعيش في يومنا هذا ما يعرف بالقرية الكونية. وبديهي أن هذا التوجه الجديد سيغير حتما المتخيل الأدبي العالمي وسيرسم جغرافية جديدة للأدب العالمي، وما يتبع ذلك من نظريات ورؤى وتمثيلات وتصورات. وقد تحققت نبوة إيتيامبل وحلمه الكبير في إعادة الاعتبار للشرق باعتباره هو الأصل والمنبع والمنطلق. وهو من الذين دعوا إلى تأسيس علم جديد يتمثل في الاستغراب (وهو ما دعا إليه أيضا حسن حنفي) ، أي تبيان اشعاعية الشرق على الغرب ثقافيا وفكريا وحضاريا، عبر الأزمنة والعصور المتعاقبة.
لم يبق الأدب المقارن في العالم العربي بمعزل عن هذه التغيرات والتحولات والمستجدات العالمية التي فرضتها عولمة زاحفة. وقد وجدت أصداءها في عديد من الكتابات التي اتسمت بالجرأة والاستشراف.
تعالت الأصوات منذ مدة لدى بعض المقارنين العرب بضرورة إخضاع الدراسات المقارنة لاستراتيجية جديدة تقوم على المواجهة المقارنية المتعددة الجوانب والاتجاهات، مقارنية تتصف بالشمولية والعالمية في إطار أصالة الأدب العربية وعراقته من جهة، وفي إطار الموروث الأدبي الإنساني العالمي، من جهة أخرى. وهذا يعني أن الجزئيات لا ترى إلا في إطار الكليات، أي جدلية الثابت والمتحول. وقديما قال ابن خلدون:” الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان. والإنسان ليس هو الإنسان في كل زمان ومكان”،. وقد شاع في أيامنا هذه مصطلح بدأ يستهوي كثيرا من العقول وهو مصطلح الادب- العالم الذي أخذ ينافس مصطلحا آخر وهو مصطلح “الأدب العالمي”.على غرار: الاقتصاد –العالم والثقافة-العالم.
آفاق
مر الأدب المقارن، كما رأينا، بمراحل عدة في العالم العربي، وقد رصدنا بعضا من هذه الحفريات المختلفة التي مر بها حتى بلغ سن الرشد واستوى على سوقه. بعد مرحلة الانبهار والإعجاب بالآداب الغربية، طيلة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، جاءت مرحلة التأسيس في الأربعينيات والخمسينيات ، ولم يلبث الأدب المقارن أن بدأ يتحسس طريقه بشيء من الثقة والوعي والاستشراف ، وقد ارتأى أنه من الأفيد والأصلح تغيير المواقع والمنطلقات، وذلك بالتركيز، بالدرجة الأولى، على إشعاعية العرب على الغرب في شتى المجالات لتبيان مواطن التأثير والبرهنة عليها. ويجد إنسان الأدب المقارن أحيانا صعوبة كبيرة في البرهنة على حقيقة التأثير لغياب الأدلة القاطعة، رغم وجود التماثل والتشابه والتطابق والالتقاء. وقد بين علماء الأنتروبولوجيا الثقافية أن التشابه في بعض الصفات (باترن) يكون مرده أحيانا إلى ما يسمى بالثوابت الإنسانية اللصيقة بالإنسان في كل زمان ومكان والتي ترتبط بالأبنية الأنتروبولوجية العميقة للإنسان.
اتجه الدرس المقارن العربي، بداية من الثلث الأخير من القرن العشرين، إلى الاهتمام بديوننا لدى الغرب، وتجلى ذلك في مسح مقارني ومعرفي يبين فيه باع المقارنين العرب ومدى تأثر الغرب بكتابات ابن المقفع وقصص الحيوان وألف ليلة وليلة والقصص الشرقي بصفة عامة. كما بين الدرس المقارن كيفية تاثر الغربيين بالعرب عن طريق الأندلس ومالطا والمشرق العربي والحروب الصليبية، في مجال المكونات الأدبية والثقافية والحضارية الإسلامية. ومن الطبيعي أنه يستحيل على المقارنين الإحاطة بكل مجلات التأثير والتأثر في هذا المجال، كما أن غياب التصور النسقي يلغي عناصر الديناميكية والتفاعل والعضوية والشمولية في مثل هذه الدراسات التي تقتضي تعاضد وتعاون كثير من التخصصات.
كما يلاحظ الباحث في المدة الاخيرة محاولة بعض الباحثين مد الجسور مع الآداب الفارسية لدراسة التفاعلات الحية والتواصل الدائم بين المكونات الأدبية والموضوعات المختلفة، وخاصة ما يتصل بالتصوف وقصص المعراج والحيوان والمقامات والقصص الشعبي، وتعد حكاية ألف ليلة وليلة فضاء ثريا وخصبا لالتقاء المكونات الفارسية بالمكونات العربية في مجال الشخصيات والسرد والقص والمتخيل. ومن الذين اضطلعوا بهذه الدراسات نجد كلا من محمد عبد السلام كفافي (في الأدب المقارن) وطاهر ندا (الأدب المقارن) ، وبديع محمد جمعة (الأدب المقارن) الذين فتحوا آفاقا واعدة لارتياد عوالم الآداب الفارسية (والتركية أحيانا).
وقد شجع هذا التوجه بعض المقارنين العرب على الذهاب بعيدا في ارتياد عوالم الشرق، وخاصة الشرق الأقصى المتمثل في الصين واليابان، من خلال بعض الدراسات المنجزة والمنشورة في المجلات العلمية المحكمة. ويبدوأن الأدب المقارن في العالم العربي بدأ يتطلع الى كسر ثنائية العرب/الغرب للانفتاح على آفاق جديدة لمقارنية تأخذ بعين الاعتبار وسطية العالم العربي وموقعه الجيو- حضاري، حيث يمثل فضاء عبور التقت فيه وما زالت تلقى مختلف الثقافات والحضارات العالمية. إنه فضاء يجمع ثلاث قارات وحضارات عديدة ، ويجمع بين الشرق والغرب، وكذلك بين الشمال والجنوب. هذا العمق الحضاري يحتم على العرب الالتفات إلى القارة السمراء، الى أمريكا الجنوبية وإلى الشرق، ووجد بعض المقارنين العرب أنفسهم يلجون حقولا خصبة للمقارنة باحتضانهم للآداب الشفوية والمكتوبة وللآداب الفرنكفونية والإنجلوفونية والإسبانوفونية التي تتعايش على أرض إفريقيا وعلى أرض أمريكا اللاتينية. ولم يجد هؤلاء حرجا في مقارنة الأدب العربي قديمه وحديثه، بهذه الأداب الفتية التي فرضت عليها بعض اللغات الاجنبية نتيجة الحملات الاستعمارية وعنف التاريخ. يقول الحكيم الإفريقي هامباتا با:” عندما يموت عندنا شيخ عجوز، فإن المكتبة الوطنية كلها تحترق”. إنه خطر داهم يهدد هذه الحضارات العريقة بلغاتها وثقافاتها وإنسانياتها. وقد بينت الإحصائيات أن أربعين لغة تنقرض في كل سنة لصالح اللغة الإنجليزية التي تكتسح العالم تماشيا مع منطق العولمة التي تسعى لتنميط العالم والقضاء على التعددية والاختلاف بهدف فرض النموذج الثقافي الأمريكي.
والسؤال المطروح، هو هل المقارنية العربية قادرة على بث الروح في هذه الآداب لربطها بمنابعها الحية وتبيان عالميتها وقدرتها على العطاء والبقاء وعلى الإشعاعية الدائمة. إن المقارنية العربية مطالبة ببلورة مشروع نهضوي واستشراف الآفاق المستقبلية بكل ثقة انطلاقا من رصيدها الحضاري وقدرتها على المقاومة والتحصن: “وضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”. صدق الله العظيم.
__________
قائــمة المراجـــع
– زيغريد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب.، دار الجيل ، بيروت، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1993.
– سعيد علوش، مدارس الأدب المقارن، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1987.
-عبد النبي اصطيف،” المدرسة السلافية والأدب المقارن” مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق العدد 443، أيار 2007.
– روحي الخالدي، تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب وفكتور هوكو ، مطبعة السعادة ، القاهرة، 1912.
– د. حيدر محمود غيلان ، الأدب المقارن ومتطلبات العصر، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2006.
– أ.د. عبد الحميد إبراهيم، الأدب المقارن من منظور الأدب العربي، نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الدمام، 1997.
-محمد غنيمي هلال : الأدب المقارن ، دار نهضة مصر للطبع والنشر والنشر، القاهرة ، 1973.
– سعيد علوش، مدارس الأدب المقارن – دراسة منهجية ، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1987.
-نذير العظمة ، فضاءات الأدب المقارن ، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،1962 .
-محمد عبد الرحمن شعيب ، الأدب المقارن، مسائله ومباحثه ، مطبعة دار التأليف ، القاهرة، 1969.
– عبد الحميد إبراهيم ، الأدب المقارن من منظور الأدب العربي، نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الدمام، 1416،1997.
-ب.برونال ، كلود بيشوا ، أ.م.روسو،ما الأدب المقارن ؟ ترجمة الأستاذ حسن بوساحة ، مخبر اللغات والترجمة ، جامعة قسنطينة ، 2005.
– ابراهيم سلامة، الادب المقارن ومتطلبات العصر، مركز عبادي للدراسات والنشر ، صنعاء، 2006.
– أحمد درويش ، نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2002.
-دانيال- هنري باجو، الأدب العام والمقارن، ترجمة غسان السيد، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1997.
-هاري ليفن، انكسارات ، مقالات في الأدب المقارن، ترجمة عبد الكريم محفوظ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ، 1980.
– تيري هتش، الشرق الخيالي ورؤية الآخر، صورة الشرق في المخيال الغربي، الرؤية السياسية الغربية للشرق الأوسط، ترجمة مي عبد الكريم محمود، دار الهدى للثقافة والنشر، دمشق، 2006، ط1.
-G.E.Von Grunebaum, L’Identité culturelle de l’ Islam, Paris, N.R.F, Gallimard, 1973.
– Gustave Le Bon, La Civilisation des Arabes, Paris, Editions de la Fontaine au Ray, 1884.
– René Etiemble, Comparaison n’est pas raison, Paris, Gallimard, 1963.
-J.E.Bencheikh, De l’imitation à la création : des littératures de langue arabe et l’Occident. Actes du 9ème congrès.
اترك رد