د. منير الحاج الدراجي عريوة: جامعة محمد بوضياف بالمسيلة
إذا وقفنا وقفة طويلة في كتاب (التطوير الفني في القرآن ومشاهد القيامة في القرآن). نجد انه لم يتكلم عن الإعجاز بصراحة لكن قارئ الكتابين يشعر بأنه يؤمن بالإعجاز إيمانا عميقا ويتبين بالأمثلة التي يأتي بها من القرآن بسحره الفني الذي يراد ف في حقيقة الأمر إعجازه البياني كما أننا نجد انه يتكلم عن الإعجاز صراحة في تفسيره (الظلال) وذلك خلال تفسيره آيات التحدي في القرآن الكريم كما نجد أن حديثه عن إعجاز القرآن في مواطن عديدة إلا انه يكاد يقصره على وجه واحد هو الإعجاز البياني ولكنه في الظلال تحدث عن وجوه أخرى للإعجاز ويفهم من كلامه في الظلال على أن الإعجاز في رأيه مطلق وانه مفتوح ومستمر يجد فيه اللاحقون ما يصفونه على السابقين واكتفي هنا ببيان رأي سيد قطب في إعجاز القرآن وفهمه له والوجوه التي أشار إليها والألوان التي عرضها في الظلال كان حديث سيد عن الإعجاز في تفسيره الحروف المقطعة في فواتح السور وفي تفسيره لآيات التحدي في سور البقرة- يونس – الإسراء- هود – الطور – وفي وقفته أمام الآيات التي تبين موضوع القرآن وسماته وخصائصه الدالة على مصدره كان سيد قطب يريد أن يستدل بإعجاز القرآن على مصدره الرباني ليتوصل به على أن القرآن كلام الله فلم يكن حديثه عن الإعجاز من اجل عرض أساليب البيان في القرآن وفنون البلاغة فيه آو من اجل الإعجاز كما فعل بعض من كتب في الإعجاز أن سيد قطب يرى أن إعجاز القرآن مطلق وليس خاصا بجيل من الأجيال أو زمن من الأزمان ولكنه الإعجاز المطلق في كل العصور . (فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها.)
هذا الإعجاز القرآني المطلق انه يبقى جديدا على اختلاف الزمان والمكان يستطيع اللاحقون إضافة الكثير ما اهتدى إليه السابقون … (ثم يبقى النص القرآني بعد ذلك مفتوحا للأجيال وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئا من معناه الضخم المتجدد مع توالي الأجيال وتلك معجزة القرآن في خطابه لجميع العقول على توالي الأزمان) .
ومن النماذج التصوير الفني في القرآن قوله تعالى:
” قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات ” .
وقوله تعالى: أيضا ” قل فاتوا بسوره مثله ” .
ولكنهم لم يأتوا بعشر صور ولا بسورة واحدة . ولم يحاولوا هذه المحاولة أصلا إلا ما قيل من محاولة بعض المتنبين بعد محمد صلى الله عليه وسلم ليس هذا من الحب في شيء ولا يجوز أن يحسب له في هذا المجال حساب أما الرأي القائل يصرفهم عن المحاولة فلا يقام له وزن .
* تقسيمات الإعجاز عند سيد قطب:
نظر سيد قطب في الحروف المقطعة في بوادئ السور واعتبرها دالة على إعجاز القرآن البياني وهو في نظره هذا متابع لكثير من علماء القرآن ومدركي إعجازه ومتذوقي أسلوبه لقوله في وقفته أمام الآية الأولى من سورة البقرة ” الم ..” . مثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة تختار منها وجها .. إنها إشارة للتشبيه إلى إن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب ولكنه .. مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الأحرف مثله الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة و مرة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابا والذي جعله .. يختار هذا الرأي هو السياق القرآني ذاته حيث أننا نجد السور المفتتحة بهذه الحروف المقطعة تتحدث بعدها مباشرة عن القرآن الكريم مشيرة إلى مصدره أو سماته وهذا الترتيب مقصود في السياق القرآني وهذه الإشارة لها دلالتها .
وفي هذا يقرر سيد قطب إن الرأي الذي اختاره في فواتح السور (يتماشى معنا بيسير في إدراك مناسبات هذه ” الإشارة ” في شتى السور) .
ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك ” وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ” .
أما في سورة آل عمران فتبدوا مناسبة لهذه الإشارة هي أن هذا الكتاب منزل من عند ربنا وهو مؤلف من أحرف وكلمات شانه في هذا شان ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب (-المخاطبون في السورة – فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه السورة …
وهذا الرأي الذي اختاره سيد قطب رحمه الله في هذه الأحرف كان على سبيل الترجيح لا الجزم على حسب قوله , ومن أقسامه ك:
1/ الجانب التأثيري:
ويرى الشهيد سيد قطب انه عاجز عن بيان حقيقة الإعجاز ومداه وعن تطويره بالأسلوب البشري ويقدر أن ذلك يتطلب كتابا مستقلا ولكنه يحاول أن يلم إلمامه خاطفة بشيء منه فيتحدث عن قوة تأثير القرآن في سمعه ويستشهد بحادثة جرت في سفينة أجنبية أقلته ورفاقه وأقام فيها صلاة الجمعة فخطب فتأثر الأعاجم بسماع القرآن وقالت يوغوسلافية إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب وان كنت لم افهم منه حرفا وقد فرقت هذه اليوغوسلافية بالسماع بين كلام الخطيب وبين الآيات التي يوردها في خطبته وأحست أن الفقرات القرآنية كانت تحدث فيها رعشة وقشعريرة كما لو كان الإمام مملوءا من الروح القدس بحسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها وضرب سيد مثلا على ذلك, أيضا سماع العوام للقرآن فهم يتأثرون به كاليوغوسلافية دون أن يفقهوا شيئا منه وفي تفسير آية سورة الطور يتساءل سيد قطب عن السر الخاص في تأثير عبارات القرآن ويذكر له أسبابا كثيرة العبارة والمعنى والصور والظلال والإيقاع الخاص المتميز ويرى انه فيها جميعها وفي شيء آخر وراءها غير محدوث ثم يضيف إلى هذا السر غير المدرك والأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير كالتصور الكامل الصحيح الذي القرآن في الحس والقلب والعقل والطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل والشمول والتناسق بين توجيهات القرآن كلها .
2/ جانب الأداء:
ويرى سيد قطب من وجوه الإعجاز الأداء القرآني الواسع الدقيق الجميل المتناسق بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو . ويرى أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص وان كل مدلول منها يستوي خصه من البيان والوضوح دون اضطراب أو اختلاط وان النص الواحد يستشهد به على مجالات شتى وكأنه جعل لكل مجال منها على حدة ويرى إن في ذلك ظاهرة قرآنية بارزة ولمل يرى سيد قطب أن الأداء القرآني طابعا بارزا القدرة على استحضار المشاهد والتعبير والمواجهة كما لو كان المشهد حاضرا بطريقة غير معهودة على الإطلاق في كلام البش وقد ضرب على ذلك أمثلة منها قوله تعالى ” وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت انه لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ”
ثم آتيناه مباشرة بخطاب موجه في مشهد حاضر “الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ” .
ثم عودته إلى التعقيب على المشهد الحاضر ” وان كثيرا من الناس عن آياتنا غافلون ”
3/ الجانب التصويري الفني:
التصوير هو الأداة المفضلة في منهج القرآن فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة والحالة النفسية وعن الأشياء المحسوسة والمشهد الذي يرى وعن النموذج البشري والطبيعة ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد وإذا النموذج الإنساني شاخص حي وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة وفيها الحركة فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخيل فما يكاد يبدأ العرض حتى يخيل المستمعين نظارة حتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع حيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات وينسى المستمع إن هذا كلام يتلى ومثل يضرب ويتخيل انه منظر يعرض وحادث يقع وهذه شخوص تروح على المسرح وتغدوا وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف المتساوقة مع الحوادث وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة عن الأحاسيس المضمرة فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث إنما هي الألفاظ الجاحدة لا ألوان تصور ولا شخوص تعبر أدركنا بعض أسرار الإعجاز في التعبير القرآني والأمثلة على هدا الذي نقول هي القرآن كله حيث تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها حيث ما شاء أن نعبر عن معنى مجرد أو حالة نفسية أو صفة معنوية أو حادثة واقعة أو قصة ماضية أو مشهد من مشاهد القيامة أو حالة من حالات النعيم والعذاب أو حيث ما أراد أن يضرب مثلا في جدل أو حاجة بل حيث ما أراد هذا الجدل إطلاقا واعتمد فيه على الواقع المحسوس المتخيل المنظور وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا ..( إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن….) .
فليس هو حيلة أسلوب ولا فلتة تقع حيثما اتفق هو مذهب مقرر وخطة موحدة وخصيصة شاملة وطريقة معينة تستخدم بطرائق بطرائق شتى وفي أوضاع مختلفة ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة قاعدة التصوير ويجب أن نتوسع في معنى التصوير حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن فهو التصوير باللون وبالحركة وتصوير بالإيقاع وكثير ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات ونظم العبارات وموسيقى السياق في إبراز صورة الصور فتتملاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان وهو تصوير حي منتزع من عالم الأحياء لا ألوان مجردة وخطوط جامدة . تصوير بقياس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانيات فالمعاني ترسيم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية وفي مشاهد من الطبيعة عليها الحياة وقد أورد في ذلك عدة أمثلة نختصر على ذكر البعض منها ومن أمثلة ذلك نأخذ في عرض نماذج من الأمثال القصصية التي تضرب في القرآن
– ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة جنة الدنيا لا جنة الآخرة وها هم أولاء يبيتون في شانها أمرا لقد كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة ولكن الورثة لا يستاءون أنهم يريدون أن يستأثروا بها وحدهم وان يحرموا أولئك المساكين حظهم فلننظر كيف يضعون «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا اقسموا ليجرمنها مصبحين ولا يستثنون ” .
لقد قرر رأيهم أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين فلندعهم على قرارهم ولننظر ماذا يقع الآن في بهيمة الليل حيث يختفون هم ويخلوا منهم المسرح لماذا يرى النظارة هناك مفاجأة ثم خلسة وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ” فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم” وهم لا يشعرون والآن هاهم يتصايحون مبكرين وهم لا يدرون ماذا أصاب جهنم …” فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ” . “فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ”
وليمسك النظاره ألسنتهم فلا ينتهوا أصحاب الجنة إلى ما أصاب جنتهم وليكتموا السخرية التي تكاد تنبعث منهم وهم يشاهدون أصحاب الجنة المخدوعين يتنادون متخافتين خشية أن يدخلها عليهم مسكين ليكتموا ضحكات السخرية بل ليطلقوا فيها هي ذي السخرية العظمى “وغدو على حرد قادرين”
اجل إنهم لقادرون الآن على المنع والحرمان أنفسهم على الأقل وراح سيد قطب يصور هذه المشاهد تصويرا فنيا رائعا حقا حيث أن القارئ أو السامع يتخيل نفسه يشاهد مسرحا على أرضية المسرح وهذا راجع لتصويره الجيد والمميز.
وقال في نفس المرجع عند كلامه على آثار القرآن في سامعيه فهو التأثير الذي يلمس الوجدان ويحرك المشاعر ويفيض الدموع ويسمعه الذين تهيئوا للإيمان فيسارعون إليه كالمسحورين وسمعه الذين يستكبرون عن الأذعان فيقولون ” إن هذا إلا سحر مبين ” أو يقولون ” لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون” فيقرون بالإعجاز الغلاب من حيث لا يشعرون أو يشعرون وفي كتابه مشاهد القيامة في القرآن يقول .. هدفي هنا هدف في خالص محض لا أتأثر فيه إلا بحاسة الناقد الفني المستقل فإذا التقت في النهاية قداسة الفن بقداسة الدين فتلك نتيجة لم اقصد إليها ولم أتأثر بها إنما هي خاصة كامنة في طبيعة هذا القرآن نلتقي عندها دروب البحث في النهاية ولو لم يحسب السالك حسابها في الطريق ونستخلص مما سبق ذكره أن سيد قطب يسعى إلى البرهان على إعجاز القرآن من حيث يتكلم على مميزته الفنية الأولى وهي التصوير وكأنه يعطي الإعجاز عنوانا آخر حديث.
1-الإعجاز الأدبي عند سيد قطب:
ومن المعلوم أن سيد قطب حياه الله موهبة أدبية عالية وأسلوبا أدبيا بليغا وانه استخدم هذا في التفسير فجاء (قالبا) عاما عرض فيه ما يريد فيه من أفكار وآراء ونظرات ومناهج وعرضا مؤثرا والظلال كلمة تصلح مثالا , وهذا من أسباب القبول الذي كتبه الله للظلال بين المسلمين المعاصرين ونعتقد أن موهبة سيد قطب الأدبية الرائعة وأسلوبه الساحر المؤثر كان ( إرهاصا ) له لدخول عالم القرآن الرحيب ولماذا تحدث عن المشقة في تبليغ الدعوة إلى الناس وصنف فئات أعداء الدعوة الذين يواجهونها أورد فقرة أدبية رائعة في تصنيفهم فقال ( والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ثم تكليف ليس بالهين ولا باليسر إذا نظرنا إلى طبيعته والى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم ومصالح بعضهم ومنافعهم وغرور بعضهم وكبريائهم وفيهم الجبار الغاشم وفيهم الحاكم المتسلط وفيهم المنحل الذي يكره الصعود وفيهم المسترخي الذي يكره الاستبداد وفيهم المنحل الذي يكره الجد وفيهم الظالم الذي يكره الذي يكره العدل وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة … ويعرفون المنكر …) .
ووقف وقفة أدبية عند الفعل (أفضى) وحذف معموله في قوله تعالى: “وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضهم إلى بعض” .
وقد عرض بأسلوبه الأدبي الساحر بعضا من مظاهر الجمال الأخاذ في الكون الذي يشير إليه قوله تعالى ” ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ….” .
فقال (ومشهد النجوم في السماء جميل ما في هذا شك جميل جمالا يأخذ بالقلوب وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ويختلف من صباح إلى سماء وشروق إلى غروب ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب بل انه يختلف من ساعة إلى ساعة ومن مرصد لمرصد ومن زاوية لزاوية … وكله جمال … وكله يأخذ بالألباب … هذه النجمة الفريدة التي ترصوا هناك وكأنها عين جملة تلمع بالمحبة والنداء … حتى يقول انه الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ولكن لا يجد وصفا فنيا يملك من الألفاظ والعبارات ) .
وبهذه الأحاسيس والمشاعر كان يستقبل إيحاءات القرآن وبهذه العبارات البليغة الساحرة كان يعرض ما يحسه وما يجده وما يتذوقه منها وبهذه الموهبة الأدبية الموهبة الأدبية الساحقة كان يفسر تلك النصوص ويقدمها للقراء وبعد ذلك لا يجد الألفاظ والعبارات التي تستوعب ما يجده ويصفه وصفا شاملا حيا مع تمكنه منها… فأية حياة عملية حية تلك التي كان يعيشها مع نصوص القرآن؟ وأية تجربة شاملة ناضجة عاشها معه.
2-الإعجاز العلمي عند سيد قطب:
– قد استعان سيد قطب في تفسيره الآيات بثقافته العلمية المتنوعة والشاملة وتسجيل مدلولاتها العلمية والاستشهاد لها , بآخر أبناء العلم الحديث ولما كان رحمه الله يتحدث عن السحر وعن حقيقته وطبيعته ويناقش المفكرين والجاحدين لوجوده اعتبره ظاهرة موجودة لكنها مجهولة الحقيقة غامضة الكنه والطبيعة وأورد نماذج أخرى معاصرة لهذه الظاهرة يسلم العلماء بوجودها ويعجزون عن تحليلها مثل ..التنويم المغناطيسي والأحلام التنبؤية والأحاسيس الخفية واعتبر السحر مثل هذه الظواهر ووضع في أيدينا ميزانا لقبول هذه الظواهر حتى لا نكون مع المغرقين في الأفكار أو المبالغين في الإثبات ( الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا ..لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق , حتى لا يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه أو يسلم بان في الأمر شيئا فوق طاقته …) .
واستعان بثقافته العلمية في بيان الغيب كبحر من المجهول يسبح فيه الإنسان في حياته ثم أورد أقوالا عديدة لعلماء غربيين معاصرين يوردون فيها نماذج مختلفة على وجود الغيب في حياة الإنسان أورد هذه الأقوال لتوسيع مدلول النص القرآني وللاستشهاد له بأقوال الغربيين وليحاكم إليها الذين لا يؤمنون إلا بكلام البشر من المسلمين الذين صبوا عقولهم في (قوالب) الفكر الغربي ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا (الثقافة) (والمعرفة) ليعيشوا في زمانهم ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه يستيقنوا أن الغيب هو الحقيقة العلمية الوحيدة المتبقية من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته وان العلمية في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما للغيبية .. أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو الجهلية…
ولما فسر قوله تعالى: ” الرجال قوامون على النساء …»، استعان رحمه الله بالتحليل العلمي الحديث في بيان طبيعة تكوين الرجل وطبيعة تكوين المرأة الجسدي والفكري والعقلي والنفسي ومن ثم تنوعت خصائص كل منها ونتج عن كل ذلك تنوع المواهب والاستعدادات وكان لا بد من نتيجة لذلك أن تتنوع الوظائف استعان العلم في بيان هذا بيان الحكمة التي تبدوا في هذا النص وفساد وضياع حياة الجاهلين عندما خالفوا هذا الأمر. وهو في استقامته رحمه الله بما أعطاه ربنا عز وجل من ثقافة علمية عالية في استشهادا ته بالعلم الحديث وفي استخدامه التفسير العلمي مرة لم يستخدمه على الإطلاق ولم يبالغ في القول به بل انه أنكر على من يبالغ في القول به ويعممه من المعاصرين من المسلمين ويبين دوافعه وأخطاءهم في هذا الأمر وقد وضع ميزانا مجددا للاستعمال هذه الوسيلة واستخدام هذا التفسير حيث فرق بين (الحقيقة العلمية) وبين (الحقيقة العلمية) إن الحقيقة العلمية لا تخالف تقريرا قرآنيا لذلك يجوز أن يستشهد بما تقرره وما توجه هذه الحقائق في تفسير النص القرآني دون أن نعلق الحقائق القرآنية بها أو نقيدها بها أما النظريات العلمية فلا يجوز أن نحمل النص القرآني ونلهث به وراءها ونقول أن الآية تعني هذه النظرية .
3ـ الإعجاز الموضوعي عند سيد قطب:
قد تكلم سيد قطب على الإعجاز الموضوعي و الطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيورد اللفتات التالية ﴿يخاطب القران الكينونة البشرية بجملتها فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة و قلبها الشاعر مرة وحسها المتوفر مرة ولكنه يخاطبها جملة و يخاطبها من أقصر طريق و طردت كل أجهزة الاستقبال و التلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها و ينشأ فيها هذا الخطاب تصورات و تأثرات و انطباعات لحقائق الوجود كلها لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشأ ها بهذا العمق و بهذا الشمول و بهذه الدقة و هذا الوضوح و هذه الطريقة و هذا الأسلوب أيضا﴾.
وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض:
1- ـ أنه يعرض الحقيقة كما هي في عالم الواقع في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها وكل جوانبها ولا يحاول أن يبلغها بالضباب ويعتمها لأنه يخاطب بها الكينونة البشرية لأنهم ليس لهم علم سابق يعتمدون عليه و لأن العقيدة هي الوسيلة الأولى في حياتهم و التطور التأثيري عنها وهو الذي يحدد علاقاتهم وتعاملاتهم مع الأخر ين وطريقة عملهم المستيقن لأن كل ما عداه هو معرفة ظنية ونتائج محتملة لا قطعية حتى العلم التجريبي فإن الوسيلة الوحيدة هي القياس لا الاستقراء والاستقصاء وهذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر والعلم المستيقن هو العلم الذي يأتيهم من رب العالمين ومن أجل ذلك تتلقى الكينونة البشرية هذا الحق وله سلطانا ليس لغيره وهذا أحد أسرار القران المعجزة و من الناحية الموضوعية
2 -ـ وأنه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات العلمية والتأملات الفلسفية والومضات الفنية فهو لا يفرد كلاما فعندما تناول حقيقة العلم ألاهى ومجلاته قال :« و عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو و يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في الظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين »
وبهذا الصدد شمول علمه و قربه إلى الأذهان يبين سيد قطب أن هذه الآية إذا نظر إليها من أي جانب رؤى الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن فمن حيث الموضوع لا يرتاد الفكر البشري هذه الآفاق من شمول العلم و إحاطته كأنه ينتزع تصوراته من اهتماماته في الفكر البشري في رأيه لا يتتبع ويحصي الورق الساقط في أنحاء الأرض وكذلك لا تنكشف للعين البشرية هذا المشهد الشامل وإنما تنكشف لله المحيط بكل شيء صغيرا أو كبيرا. ومثل هذا المشهد لا يخطر على القلب البشري كما لا يتأتى له مثل هذا التعبير وهذه الآيات كسائر الآيات تكفي لمعرفة مصدر هذا الكتاب.
ا/ الإعجاز في النظم والمناهج:
يرى سيد قطب أن وجوه الإعجاز وتصورات البشر للوجود والأشياء وللنظم والمناهج وما وصلوا إليه من نظريات فلسفية واجتماعية هي كلها شيء آخر ليس من مادة ما جاء به القرآن مستوى وعمقا وروحا …كما يقول سيد قطب وهو يفسر آية سورة يونس ثبت هذا التحدي وثبت العجز عنه وما يزال ثابتا ولن يزال ويرى وجوه الإعجاز في البلاغة والجمال الفني والتناسق المعجز والنظم الاجتماعية والأصول التشريعية والذي جاء به القرآن والفطرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة … كل أولئك اكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد أو مجموعة العقول في جيل واحد . أو في جميع الأجيال وكذلك حال من يدرسون وسائل القرآن وأساليبه فيدركون عجز البشر عن بلوغ مراميه فليس إعجاز القرآن إذا في اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحدها ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء أو العلماء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها …
ب/ الإعجاز التشريعي:
كما أشار سيد قطب إلى الإعجاز التشريعي في تفسيره لأية الدين في سورة البقرة أطول آيات القرآن الكريم فقال ( إن الإعجاز في آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه بل هو أقوى لان الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد ولا ينوب عنه لفظ عن لفظ ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون كما يعترف الفقهاء المحدثون ﴾
ج/ الإعجاز الحركي:
أما الإعجاز في مهمة القرآن الدعوية و طبيعته الحركية والذي قد أطلق عليه اسم الإعجاز الحركي فلسيد قطب هنا حديث قد أشار إليه في الظلال وكان حديثه عن بيان القرآن و طبيعته المعركة بين المسلمين وأعدائهم المستمرة على اختلاف الزمان والمكان حيث بين ذلك القرآن الكريم تبيانا شافيا واضحا و معجزا سواء طبيعة هذه المعركة أو أهدافهم منها من علامات الإعجاز في القرآن الكريم هذه النصوص نزلت لتوجه معركة معينة لا تزال هي بذاتها تصور طبيعة المعركة الرائدة المتجددة بين الجماعة المسلمة في كل مكان وعلى توالي الأجيال وبين أعداءها هم التقليديين الذين ما يزالون هم وما تزال حوافزهم هي هي في أصلها وإن اختلفت ظواهرها وأسبابها الغريبة واستعداد القرآن للعمل والتربية والإعداد وتنشأة وإخراج أجيال جديدة من هذه الأمة :﴿ أما الإعجاز القرآني فيتجلى في أن هذه الوجيهات وهذه الأسس التي جاء بها القرآن لكي ينشأ الجماعة المسلمة الأولى هي هي ما تزال التوجيهات والأسس لقيام الجماعة في كل زمان و مكان و أن المعركة التي خاضها القرآن ضد أعداءها هي ذاتها المعركة التي يمكن أن يأخذها في كل زمان و مكان … وتحتاج الأمة المسلمة في كفاحها إلى توجيهات هذا القرآن خاصة الجماعة المسلمة الأولى كما تحتاج في بناء تصورها الصحيحي وإدراك موقعه بين الكون و الناس إلى ذات النصوص و ذات التوجيهات و نجد فيها معالم طريقها واضحة كما لا نجد في أي مصدر آخر من مصادر المعرفة و التوجه …و يظل القرآن كتاب هذه الأمة في حياتها و قائدها الحقيقي في طريقها الواقعي و دستورها الشامل الذي يستمد منه مناهج الحياة و نظام المجتمع و قواعد التعامل الدولي و السلوك الأخلاقي و العلمي ..و هذه هو الإعجاز﴾ .
خلاصة:
القرآن الكريم معجز في كل شؤونه، وهو كذلك في مجاله التصويري فهو معجز بكل المقاييس الفنية، من حيث الأداء اللفظي والخيالي.. مما يصدع بأنه معجزة خارقة تحدى بها العرب قديمًا وحديثًا، بل كل البشر، وإلى يوم الدين. والتصوير الفني بما فيه أساليب ووسائل أحد السمات البارزة التي استخدمها القرآن الكريم، لإحالة المعاني المجردة والذهنية، والمشاهد، والمواقف، والوجدان. إلى صور تنبض بالحياة من خلال ما تكتنف من حركة وأصوات وألوان لتبدو ظاهرة محسة لها بالغ الأثر، يفيد منها السامع, ويستخلص منها المفسر صوراً حيّة متجددة, يمكن تعدد تطبيقاتها, مع الحفاظ على وحدة الهدف, وقد بلغ القرآن الكريم أقصى درجات التصوير التعبيري، من خلال ما جسده من صور ظهر فيها الإعجاز التعبيري التصويري الحسي عن المعاني المجردة, والحسي عن الحالات النفسية, والحسي عن الحالات المعنوية, والحسي القصصي, والإيقاعي. ليصل إلى أهداف سامية في هداية الناس بالترغيب والترهيب وغيره من الأساليب.
إن الأستاذ سيدا –رحمه الله تعالى-قد جاء في كتابه “في ظلال القرآن” بمباحث لغوية لطيفة وجليلة وافق فيها الأقدمين لكنه جاء بها على هيئة جديدة وثوب جميل كسا به تلك المباحث رونقا وروحا تناسب العصر.
أما الذي تفرد به الأستاذ سيد –رحمه الله تعالى-في باب الإعجاز اللغوي هو نظرية التصوير الفني في القرآن، وهي جزء من الإعجاز البياني ، لكنه جزء جديد أو الأصح أن يقال إن الأستاذ أبرزه وأظهره حتى ساغ القول بأنه شيء جديدي لم يعرف من قبل على هذا الوجه الجامع الشامل الرائع، وخصائص نظريته تلك تقوم على التخيل الحسي، وتجسيم المعنويات حتى تصير كالمحسوسات، والتناسق الفني ، هذه هي الأركان الثلاثة لنظريته الجديدة كل الجدة باعتبار إنشائها وتقريرها.
ويمكن القول أيضا إن حديثه عن القصة القرآنية كان حديثا متفردا أيضا جاء فيه بجوانب رائعة يمكن عد بعضها تقريرا للإعجاز.
وفي الجملة يصح القول إن الأستاذ سيد كان من المجددين لقضية الإعجاز اللغوي على وجه يجعله سيد المتأخرين في هذا الباب، والله أعلم، وقد فاق الرافعي –في هذا الشأن-لأسباب منها:
1- سلامة ألفاضه وظهور معانيها ظهورا لا لبس فيه، على العكس من الرافعي، رحمهما الله تعالى.
2- ربطه في كثير مما جاء به بين ما يريد إظهاره من إعجاز وبين واقع الناس وأحوالهم، وهذا ما تفرد به الأستاذ سيد –رحمه الله تعالى-تفردا بعيدا لا يلحقه فيه أحد، ولا يبلغ مبلغه كاتب، والله أعلم.
اترك رد