د. تالي جمال: أستاذ علم الاجتماع بجامعة جيجل الجزائر
يا ولدي لا تكبر……….
تلميذ يطعن معلمه في مدرسة بعين وسارة
بقدرما يعد الخبر صادما ويعجز كل عاقل عن تصديقه، بقدرما يمتلء القلب حزنا وأسى على تعويم المجتمع بختلف مؤسساته في الفساد بكل أنواعه، وها نحن نجني اليوم الشوك من فلذات اكبادنا فماذا سيصنعون بنا عندما يكبرون.
صدق الشاعر حينما قال في مطلع قصيدته يا ولدي لا تكبر”
من يتحمل المسؤولية؟
الوزيرة؟
نعم الوزيرة ومن المفروض ان تستقيل كأقل شيء لانها اثبتت انها عاجزة تماما عن النهوض بالقطاع أو على الأقل الحد من مظاهر العنف والتطرف بأنواعه التي اجتاحت الوسط المدرسي وجعلت وسطا تروج فيه المخدرات والتدخين والشذوذ الجنسي وغيرها من المظاهر.
لكن الوزيرة بذلت كل ما تملك من جهود ومن خبرة طويلة امتلكتها كباحثة في التربية لعدة عقود، الوزيرة غيرت وكونت واجتهدت بما لا يدعو للتشكيك في نية الإصلاح لديها، لكن مشكلات المنظومة التربوية تتجاوز الوزيرة والوزارة نفسها خاصة وان القرار التربوي رهين القرار السياسي.
المعلم؟
قد يكون المعلم فهو لم يحسن التواصل مع تلاميذه ولم ينزل إلى مستواهم في التفكير بالقدر الذي يساعده على مشاركتهم الحياة المدرسية ويجعله قادرا على توفير البيئة النفسية التي تنّمي مختلف جوانب الشخصية فيهم، قد يكون المعلم لأنه لم يحسَن تكوينه أو لأنّ ضغوطات الحياة ومهنة التعليم جعلته يفقد السيطرة، ويجعل من التلاميذ مجرد رهائن ينتظرون الخلاص منه في أي لحظة.
لكن المعلم هو ضحية إصلاحات تربوية لم يستشر فيها يوما، هو ضحية قرارات عمودية لم ترى فيه يوما شريكا تربويا، المعلم ضحية نظام تربوي لم يعطه مكانته، ضحية نظام سياسي لم يجعل منه القدوة بل صوّره شحيحا وبخيلا وجعله محل سخرية لفئات اجتماعية لا تحسن حتى كتابة اسمها الأول. بل هو ضحية مسار مهني لا ينتهي، هل يعقل آن يمارس المعلم مهنة التعليم 32 سنة، في الوقت الذي يستفيد من التقاعد الكامل فئات مهنية أخرى لمدة خدمة أقل بكثير؟.
المعلم يعيش الاحتراق النفسي بكل مستويات، يعيش الاغتراب بكل مظاهره، المعلم يخرج إلى التقاعد وهو مصاب بكل الأمراض المزمنة، وان نجا منها فان عمره العقلية يتوقف عند 7 سنوات على أكثر تقدير، ألا يحتاج لان ينصف المعلم في مجتمعنا ليس لأجله فقط بل من اجل الأجيال القادمة.
التلميذ؟
لا لن يكون التلميذ وهو لم يكتمل نموه النفسي والوجداني والعاطفي والانفعالي والحسي والحركي والجسمي واللغوي، كيف لتلميذ في 10 سنوات أن يفعل هذا وهو لا يقوى حتى على حمل محفظته المثقلة بكتب لا تسمن ولا تغني من جوع، كتب أعدها معلمون انتهت صلاحيتهم فأصبحوا مفتشين.
لا ليس التلميذ لانه كيان نفسي هش وفئة مستضعفة نالت حقهخا من العنف والاختطاف والاغتصاب والتهويل الإعلامي لهذه الظواهر حتى جعلته يحس انه مهدد في حياته، وقد يكون لقنوات الصرف الإعلامي جزء من المسؤولية في الحادثة.
لماذا التلميذ؟ وهو محروم من ممارسة الرياضة والمسرح والموسيقى والغناء والإنشاد والرحلات المدرسية إلى البحر إلى الجبال إلى الصحراء…، محروم من التفاعل مع بيئته بشكل يضمن له فهم واقعه ومحيطه لا الجهل به.
ثم كيف يعقل ان يكون في السجن طبيب نفسي وأخصائيين نفسانيين ولا يكون في مدارسنا طب نفسي، من يقوم بالرعاية النفسية لابناءنا؟ من يتابع الصحة النفسية للمعلمين؟ ماذا لو أصيب معلم باضطرابات نفسية؟ ألا يكون التلاميذ ضحية؟ وكم من شاب وشابة اليوم، هم من ضحايا هذا النموذج من المعلمين؟ ضحايا غياب من يسهر على الصحة النفسية للمعلمين والمتعلمين على السواء؟
الأسرة؟
نعم الأسرة كيف لا والأب مستقيل من دوره التربوي لا يعرف ابنه في أي مستوى يدرس وحصر التربية في تأمين الحاجيات الاقتصادية، كيف لا والأم أصبحت أما بيولوجية تنجب والروضة والمدرسة والشارع ينوبان عنها في كل مرة، ماذا ننتظر من نموذج اسري مبني على علاقات إنتاج رسمية.
إن هذه الحادثة التي هزت الأسرة التربوية صبيحة الدخول المدرسي من عطلة الربيع بال شك نتيجة لتعفن الوضع في المنظومة التربوية وامتداد للعجز والقصور الذي تعيشه مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية عن آداء أدوارها التربوية، امتداد لسياسة تعويم الفساد وتوزيعه بالتساوي على مختلف الفئات الاجتماعية والمؤسسات، نتيجة حتمية لتعميم الغش وتزوير نتائج الامتحانات الرسمية، فأصبح الطبيب والممرض والمهندس والمعلم والأستاذ والا…..الجميع غشاشا.
ثم ماذا ننتظر من مجتمع لا يعترف بالطب النفسي ويعتبر مجنونا كل من قصد طبيبا نفسيا، ماذا من مدرسة لا تهتم بالصحة النفسية للفاعلين التربوين فيها، الم يحن الوقت بعد لإعطاء الطب النفسي في الوسط المدرسي دوره الحقيقي والفاعل في تنمية مختلف جوانب الشخصية للمتعلمين وتحقيق التكيف النفسي لديهم.
إن الغموض الذي يكتنف فلسفة التربية التي تنطلق منها منظومتنا التربوية أو عدم فهمها وسوء ترجمتها، يظهر واضحا وجليا على عدة مستويات في النظام التربوي، ولعل أهمّها نصوص التشريع التربوي والتي مهمتها توضيح غايات فلسفة التربية من خلال النصوص والمواد التي يتضمنها، وتوجيه القائمين على المنظومة التربوية إلى تحقيق غايات وأهداف النظام التربوي.
إننا بحاجة اليوم في منظومتنا التربوية إلى الاهتمام بالصحة النفسية للمعلم والمتعلم على السواء، كون التعليم مهنة متعبة ولها آثارها على نفسية المعلمين، وكون التعلم عملية معقدة يجب أن تتلاحم الكثير من الوظائف كي يحدث بطريقة جيدة، كما أن المتعلم يتفاعل مع الوسط التربوي والأسري ويتأثر بالعلاقة بينهما، يتعلم قصديا وعرضيا ولكليهما تأثيره، وهو ما يدعو إلى قيام هيئة للمتابعة النفسية يكون الأخصائي النفسي مشرفا ومتابعا ومراقبا وموجها ومرشدا وعنصرا داعما للتعليم والتعلم.
اترك رد