د. حسن محمد أحمد محمد: جامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب – قسم علم النفس
العلاقة بين الدين والسياسة علاقة قديمة لم ولن تنفصم عراها في أي وقت؛ لأن ذلك أمر من الصعب بل يمكننا القول بأنه مستحيل تماماً على الرغم الصراع الذي كثيرا ما ينشب بينهما. فكلاهما في حاجة للآخر، فالسياسة تحتاج إلى سند ديني لتبقى في الحكم والدين في حاجة للسياسة لكي ينتشر ويسود، وقديماً قيل (الناس على دين ملوكهم)، ففي الولايات المتحدة وعلى الرغم من الاعتراف بسياسة فصل الكنيسة (الدين) عن الدولة فإن هذا لم يؤد إلى فصل الدين عن السياسة، كما أن تأثير الدين في الحياة الأمريكية امتد ليمتزج بالتعليم والطب والأعمال والفنون والسياسة. وليس ثمة شئ ينجو من قبضة الدين وأن جميع الجهود قد ذهبت هباءً أدراج الرياح، فعن طريق الدين يمكن القيام بكل شئ ولا يقتصر الأمر على أمريكا وحدها، فبالإمكان رؤية أثر الدين في الحياة الأوربية أيضاً من خلال أعلام (رموز) الدول الأوربية: إنجلترا، السويد، الدنمارك، النرويج، سويسرا، اليونان … فعلامة الصليب واضحة ولا تكاد تخفى على الناظر , ولا يقف أثر الدين عند هذا الحد بل يتعداه إلى الأحزاب الحاكمة في: ألمانيا، إيطاليا، هولندا، النمسا، على سبيل المثال لا الحصر، ومنذ أقدم الأزمنة والعصور والملوك يعملون على استقطاب العلماء والتودد إليهم ويخطبون ودهم، والأخيرون يتمنعون ويقتربون منهم على شئ من الوجل والخوف، لأن الساسة كثيراً ما يبطشون بالعلماء عندما يرهبون سطوتهم، والتاريخ يزخر بقصص الاضطهاد السياسي والديني، يقول عبد المنعم الحفني: عندما تسنى لي أن أراجع عدد الذين استشهد عبر التاريخ في مختلف البلاد الإسلامية، بحسب ما ورد في المراجع العلمية، فلم يزيدوا عن ثلاثة وعشرين ومائتين فرداً، في حين أن عدد من أحصتهم المراجع الأوربية من شهداء الفكر في النصرانية كان ستة وثمانون وأربعمائة وثلاثة آلاف .الأمر الذي يؤكد أن الحرية في الدولة الإسلامية كانت أكثر توفراً.
ونجد أن بني أمية قد استند، في تدعيم موقفهم السياسي من الخلافة الإسلامية، على مبدأ القول بالجبر، وكرسوا ذلك لتبرير ما ارتكبوه من أعمال اتسمت بطابع العنف في كثير من الأحيان، كانت موضع استنكار من جانب الضمير الديني، حيث نسبوا كل ما قاموا به إلى الله من أجل تبرئة ساحتهم أمام العامة أولاً وأمام أنفسهم ثانياً. وفي هذا الصدد يقول القاضي عبد الجبار: إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية ، وأنه أظهر أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعله عذراً فيما يأتيه ويتوهم أنه مصيب فيه ، وأنه جعله إماماً وولاه الأمر, وفشا ذلك في ملوك بني أمية . لقد احتاج النظام الأموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ (الحاكمية) الذي غرسه فكانت مقولة (الجبر) التي سادت كل ما يحدث في العالم، بما في ذلك أفعال الإنسان، إلى قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة . وقصة الحجاج بن يوسف الثقفي وقسوته على سعيد بن جبير تعبر عن مدى اضطهاد المخالفين السياسيين وخاصة إن كان من العلماء ذوي النفوذ الديني أو قاد حركة تعتمد على حق ديني مثل ما حدث بين الأمويين والعباسيين والعلويين من بعدهم ، وقد ذكر كل من ابن الأثير وابن خلدون: أن الموصل ثارت على أبي العباس (السفاح) فأرسل أخاه فأعلن: أن من دخل المسجد فهو آمن فأسرع الناس إلى المسجد ، وبعد ضبط الأبواب و ضع فيهم السيف. أما أكثر ما يعبر عن الصراع السياسي الديني في التاريخ الإسلامي فهي قصة الرشيد مع المعتزلة ، فعند ما أرسل ملك السند إلى الرشيد رجلاً سمنياً (بوذي) يقول له: إن كنت على ثقة من دينك فأبعث إلي بمن أناظره، فبعث الرشيد رجلاً محدثاً ، فأكرم من قبل الملك ثم سأله السمني: هل معبودك قادر على كل شئ؟؟ قال المحدث نعم . قال السمني: أهو قادر على أن يخلق مثله؟؟ قال المحدث هذه مسألة من علم الكلام وهو بدعة. ثم عاد إلى الرشيد فاستاء وقال أما لهذا الدين من ينافح عنه؟؟ فقيل له بلى يا أمير المؤمنين، هم الذين نهيتهم عن الجدال وأودعتهم السجون، فأطلق الرشيد سراحهم.
فالسياسة لا تستطيع العيش بمنأىً عن الدين، لاسيما في العالم الإسلامي، حيث صارت جميع قضايا الفكر الإسلامي مسكونة بهواجس السياسية مما جعل الفرق الإسلامية المتصارعة، في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، تجد نفسها في حاجة لتبرير شرعيتها، بل تراها تذهب إلى أبعد من ذلك : إنها تنظم نوعاً من المسرحية السياسية من أجل أن تقنع الناس بأنها تتبع الحق .
إلا أن هذا لا يعني أن الدين الإسلامي لم يستفد من السياسة، فإن أول من دون الحديث الشريف (محمد بن شهاب الزهري) كان على صلة بالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وابنه هشام … ومن المعروف كم كان التنقيب عن الحديث الشريف والأخبار المتعلقة به وسيلة فعالة في الصراع السياسي الدائر آنذاك, وتؤكد الروايات التاريخية أن الرواة، سواء الذين قاموا بجمع الأحاديث كابن شهاب أو الذين سجلوا أخبار الرسول الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، ومغازيه كابن إسحاق ، قد فعلوا ذلك بإيعاز من السلطة أو بغرض التقرب إليها عند ما كان المتوكل في أمس الحاجة إلى العون والمساعدة قام بالتقرب إلى أصحاب الحديث والفقهاء على حساب المعتزلة الذين سيطروا على ثلاثة من الحكام العباسيين وما كان لهم أن يبقوا في السلطة ولو لفترة وجيزة دون أن يحظوا بالدعم الفعلي والسند النفعي من طرف برجوازية البصرة وبغداد من جهة ومن قبل شخصيات كبرى ذات سلطة وجاه من جهة أخرى كالمأمون والمعتصم والواثق، إلا أنها سلطة زائلة بحكم ارتباطها بالظرف التاريخي والصراع السياسي، ولا أدل على ذلك من انتكاسة المعتزلة أيام المتوكل، حيث قضى المتوكل على معضلة خلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة ليكسب جانب أهل السنة ، وأيضاً عندما كان الوزير السلجوقي يتلهف حماسة إلى الدفاع عن المذهب السني، سعى وبشدة للقاء الإمام الغزالي فصادف ذلك هوىً في نفس الغزالي مما أحدث تغييراً جذرياً في حياته .
تعد السياسة واحد من أبرز الموضوعات والمباحث الفلسفية؛ وذلك لأن الفلسفة تهتم بالإنسان وهو كائن اجتماعي، ومدني بطبعه وغريزته، والمجتمع ظاهرة طبيعية يتجلى فيها نزوع الطبيعة الإنسانية إلى كمالها. يرى ابن خلدون: أن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه … قال تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال: 63.
ولكن هل الإسلام يمثل دين (عقيدة) ونظام حكم سياسي؟؟ أم هو دين(عقيدة) ليس أكثر؟
حول هذا السؤال تجد فئتين من المفكرين، فئة تناصر الجزء الأول من السؤال، أما الفئة الثانية فتتبنى القسم الثاني، وهذه طائفة من أقوال القائلين بأن الدين الإسلامي هو دين ودولة، أي أنه دين عبادة وسياسة في آن واحد .
أ/ الإمام الماوردي: عقد الإمامة لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
ب/ الإمام ابن تيمية: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين.
ج/ الإمام الغزالي: إن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع.
د/ ابن خلدون: إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بالإجماع.
وقد كان هذا الرأي هو السائد حتى مطلع القرن العشرين 1905م عندما نشر المدعو نجيب عازوري كتاباً بالفرنسية سماه (يقظة الأمة العربية) دعا فيه إلى انفصال العرب عن الإمبراطورية العثمانية، وتكوين مملكة دستورية، وأن تكون منطقة الحجاز مملكة مستقلة على رأسها حاكم هو خليفة المسلمين. وبذا يكون عازوري أول من دعا إلى فصل الدين عن الدولة, وأيضاً نادى الشيخ علي عبد الرازق بنفس الدعوة في كتابه الإسلام وأصول الحكم، وهو على العكس مما نادى به الأفغاني، والكواكبي، والإمام محمد عبده.
ومن الواضح أن الفئة الأولى ترى ضرورة الخلافة والإمامة، وأنها تمثل رمزاً لوحدة الأمة الإسلامية بل تدعو حتى إلى العودة إلى عصر الخلافة الراشدة بما فيه من أفكار ومسميات: الشورى، وأهل الحل والعقد، وأولي الأمر، وديوان المظالم … إلى آخر تلك المصطلحات الدينية الإسلامية، في حين ترى الأخرى أنه لا أهمية لها وإن كانت ممكنة، يقول محمد سعيد العشماوي: إن الخلافة لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد .
وبنظرة سريعة يتجلى للناظر أن كلا الرأيين قد جانبه الصواب، وأنهما على شئ من التطرف البيّن والواضح للعيان، وأن الأصلح والأوفق هو العمل على التوفيق بين الدين والسياسة مع مراعاة المتغيرات في كل عصر، وكذلك استيعاب ثقافات الشعوب والحفاظ عليها في حدود الشرع؛ لأن في ذلك خدمة وأي خدمة للإسلام والمسلمين في عالم ملئ بالصراعات والمنافسة القوية، سياسياً واقتصادياً …، وهو ضرورة للحفاظ على خلود الدين الإسلامي، في ظل التيارات السياسية والفكرية التي تشكل عدداً من الفرق: بعضها يدعو إلى غرس تعاليم الإسلام، والبعض يريد أن يعود بالإسلامية إلى عهده الزاهر، مما دعاهم إلى حمل لواء المعارضة للحكومات السياسية في الوطن العربي، بدعوى أنها لا تتفق وحكم الشرع، وغير هؤلاء وأولئك هناك من حمل السلاح وكفر الحكام.
و خير من هذا وذاك أن يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، دون خوف أو وجل من حرية الرأي والاجتهاد، وهذا هو الإمام أبو حنيفة النعمان يقول: إن القوم اجتهدوا، فاجتهد كما اجتهدوا. وقال : إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته وما لم أجده فيه آخذ بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول أصحابه فآخذ بقول من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من أقوالهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم الشعبي، والحسن بن سيرين، وسعيد بن المسيب…، أجتهد كما اجتهدوا .
وما الاجتهاد إلا إفراز من إفرازات العقل ونشاط من نشاطات الفكر النظري الموجه نحو المعرفة. إنه البحث عن الأسس المعرفية من أجل تبرير الأحكام الشرعية… وإن تجديد الاجتهاد سيؤدي حتماً إلى تصويب العادات الأكثر رسوخاً وإلى مراجعة العقائد الأكثر قدماً، لأن الاجتهاد هو عمل من أعمال الحضارة وجهد من جهودها، قد مثل من خلال فكر المفكرين المسلمين، طيلة القرون الهجرية الأولى، حيوية خلاقة لحقل فكري كبير ولثقافة ونظام محدد معروف .
اترك رد