حسن محمد أحمد محمد: جامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب – قسم علم النفس
تغوص الحضارة السودانية إلى عهود سحيقة، وتضرب بجذورها في أعماق بعيدة وعهود تاريخية قديمة قدم التاريخ، حيث يرجع تاريخ السودان ـ المدون ـ إلى حوالي سبع ألف سنة ميلادية أو أكثر، كما تحدثنا كتب التاريخ، فقد ورد ذكر بلاد النوبة عند المؤرخ المعروف (جوزيف استرابو) ـ الذي عاش في الفترة ما بين 63 ق.م و24م ـ، الذي وصف سكانها بأنهم شعب عظيم؛ وذلك في كتابه المسمى بـ(الجغرافيا). وإنها لمفخرة لنا (السودانيين) أن يوصف النوبيون بأنهم شعب عظيم، وقد تميز تاريخ السودان بالعديد من الأحداث التاريخية العظيمة التي تجعل كل شخص ينتمي إلى السودان يتيه فخرًا بأمجاد بلاده.
ـ بلاد كوش:
تُعتبر حضارة كوش من أهم الحضارات التي ظهرت في بلاد النوبة، وقد تطورت ـ تلك الحضارة ـ بشكل سريع، وامتدت من القرن الحادي عشر ق.م إلى القرن الرابع الميلادي، حيث أصبحت مركزًا مهمًا للأشغال الحديدية، والتعليم، والتجارة. وقد ساهم ذلك التطور السريع في ظهور قوة سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة؛ الأمر الذي مكن الكوشيين من الاستيلاء على حكم مصر في الفترة ما بين عامي 750 ق.م إلى 670 ق.م. إلا أن تلك القوة الضاربة قد تم تدميرها على يد الملك عيزانا ملك مملكة أكسوم (ش الحبشة)، وهو أول ملوك العهد المسيحي في الحبشة، وقد حدث ذلك إبان عهود الضعف والاضمحلال التي أصابت مملكة مروي، بعد أن عاشت عهود الرخاء والازدهار، إذ كانت تمثل همزة الوصل بين أفريقيا السوداء وحضارة البحر الأبيض المتوسط، وحملت ما انجزته الحضارتان صوب الغرب نحو المحيط الأطلسي، وصوب الشرق نحو المحيط الهندي.
ويجدر بنا هنا أن نقف عند قصة الحرب التي شنها عيزانا على مملكة مروي، وهي قصة تستحق أن تروى لما فيها من مظاهر العظمة والعبر التاريخية.
ـ قصة الحرب:
لقد ترك لنا الملك عيزانا تلك القصة في محفورة عثر عليها العالم الجليل (أنولتمان) أثناء بحثه في مملكة أكسوم الحبشية، ونحن هنا سنتعرض بعضًا من أبيات تلك المنظومة، التي تمت ترجمتها من لغتها الأصل إلى الإنجليزية على يد العالم والباحث المؤرخ، ل.ب كروان، ومن ثم قام الرجل القامة والدبلوماسي السوداني الشهير جمال محمد أحمد (له الرحمة والمغفرة) بترجمتها إلى العربية، ضمن ترجمته لكتاب (أفريقيا تحت الأضواء) للكاتب بازل ديفدسون. تتكون المنظومة أو قل الملحمة الشعرية من حوالي 135 بيتًا، نجتزئ منها الأبيات التالية:
…
أنا عيزانا بن (إلا) عميدا، سليل هالين.
صاحب أكسوم وحمير.
صاحب ريدان وسبأ.
وسلحين وصيامو والبجة.
ملك الملوك حاكم كاسو.
شرعت، ويد الله في يدي، أصارع النوبة.
حين خرجو من طاعتي وصاروا يفاخرون:
يصيح صائحهم، إني لن أعدو التكازي وإن جهدتُ.
ركبو مراكب الغرور يعتدون، ولا يرحمون.
…
وكانوا غلاظًا شدادًا على السود.
حنثو بيمينهم الذي أقسموا، وخاضوا الدماء.
يفتكون بالشعوب الحمر.
ولم تكن هذه أول مرة يخرجون.
كانت الثالثة، وحق عليهم العقاب.
ذهبوا بعيدًا مع الزهو، زبحوا جيرانهم.
لا يستحون أو يخافون.
ألا ترى ـ عزيزي القارئ ـ تلك الشجاعة النادرة والقوة الباسلة، التي اتصف بها الشعب النوبي!!؟، إنها بحق صفات تدعو إلى الفخر والفخار؛ الأمر الذي دعى الملك ـ في البدء ـ إلى الصلح:
ثم أرسلت بادئ الشر: أرجو أن
يثوبوا لرشدهم، وأن يرجعوا عن غيهم.
فانظر إلى ذلك الرد القاسي الذي لاقاه منهم، ـ بعد أن سعى من جانبه إلى الصلح ـ يقول عيزانا:
وكانت الطامة:
نهبوا رسلي، وأخذوا من عليهم.
وكل ثمين يغتنون.
وعزَّ عليهم أن أنصحهم أنا.
ولكني لم أقنط.
بعثت البعوث مرة ثانية.
فسبوا البعوث والباعث.
والشئ الغريب والذي يدعو إلى الكثير من الدهشة والإعجاب في آن واحد، هو أن ما حدث لرسل عيزانا في الأبيات السالفة الذكر، هو ذات المصير الذي لاقاه وفد الحكومة التركية حين توجه من الخرطوم للقبض على الإمام المهدي في الجزيرة أبا، حيث عمد المهدي وأنصاره إلى قتل الوفد، وهو ما يعد إعلانًا صريحًا للحرب. كذلك تكرر ذات المصير بحذافيره مع البطل عبد القادر ود حبوبة؛ حينما قام بذبح المأمور ونائبه في قرية الحلاوين. وكأن التاريخ يعيد نفسه في أزمان متعددة وبطرق متشابهة. ونعود إلى مواصلة قصة الملك عيزانا، فإن ما قام به النوبيون من قتل وسبي لرسل عيزانا الملك؛ ما هو إلا إمعان في التحدي للملك والخروج عن طاعته، وهو أمر لم يكن ليقبله الملك، بل وعده إهانة شخصية له، لاسيما وأنه هو من سعى إلى حقن الدماء والحفاظ على الأروح، إلا أن الثمن كان هو الخضوع الذي يأباه كل سوداني أبي. والمنظومة طويلة يصف فيها الملك كيف اندلعت الحرب ـ بعد ذلك ـ، وما حققه من نصر، وما حصل عليه من الغنائم، فيقول:
لقد أعطاني الرب رب السموات.
214أسيرًا ذكراً، كما أعطاني415أسيرة امرأة.
أي 629رجلاً وامرأة.
وزبحت 602رجلاً، أما النساء والأطفال
فقد أتينا على156، منهم، أعني في الجملة.
أسرت وقتلت1387نفسًا.
وغنمت 10500 بقرة، و60أخرى، 51050شاه.
وعلى الرغم من الهزيمة القاسية التي تلقاها النوبيون؛ إلا إن المنظومة تشكل ملحمة عظيمة تظهر مدى ما تميز به السودانيون، من إباء للضيم والذل فلا يخضعون لأحد ـ مهما كانت قوته ـ. ويمكنك أن تتلمس ذلك في اتفاقية البقط التي أبرمها ـ من قبل ـ عبد الله بن أبي سرح مع ملك النوبة، بعد أن عجز عن تحقيق النصر عليهم، فلجأ إلى الصلح؛ مما جعل السودانيين يدخلون في الإسلام طواعية دون إكراه، وفي هذا إشارة واضحة إلى ما يتمتع به أهل السودان من عزة وكرامة تمثلت في شخصية الإمام المهدي وصحبه الميامين، وما حققوه من انتصارات دونها التاريخ على صفحاته المشرقة والمضيئة بنور الحقيقة، وبمداد من الذهب.
ـ الفضل ما شهدت به الأعداء:
وتأكيدًا على ما استشهدنا به من حقائق أوردناها آنفًا؛ نذكر هنا ـ بكثير من الفخر ـ ما جاء على لسان ـ الإنجليزي ـ (6يوليو1888م) سالسبري الذي قال: (إننا لن نحسن إلى تلك الجهود العظيمة في تبشير هذه البلاد وتمدينها إن نحن اتخذناها سببًا من أسباب الحرب مع … التي تنتشر في الإقليم الطويل العريض الذي يحكمه ـ أساسًا ـ عرب عالجنا نماذج منهم في السودان، يجمعون إلى القوة التي لا ترحم عصبية دينية لا تبصر، إنه جيش فظيع من الخبث لن يقضي عليه سوى انتشار المسيحية وزيوع المدنية بينهم بالتدريج)ا.هـ. وإذا نظرت إلى التاريخ الذي كتب فيه سالسبري رسالته تلك تجده(6يوليو1888م) أي أن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لا زالت تتذوق مرارة تلك الهزائم التي تكبدتها من الثورة المهدية وما خلفه مقتل غوردون من جرح لا يندمل أبد الدهر.
عزيزي القارئ، أشعر بأن في نفسي شيئًا من حتى؛ لم أقله بعد ولابد أن أحدثك به ـ قبل أن أختم حديثي هذا ـ، وهو قصة ذلك الطلب الذي تقدم به نابليون بونابرت إلى محمد علي باشا حاكم مصر والسودان في ذلك الوقت، حيث طلب نابليون إلى محمد علي أن يمده بعدد من الجنود السودانيين الأشداء ليحارب بهم في المكسيك، لأن جنوده قد أنهكتهم الحمى، ولم تكن لهم القوة على مواجهة أهل تلك البلاد. فلم يبخل عليه محمد علي بالجنود السودانيين الذين حققوا له النصر. طافت بذهني هذه الخاطرة عندما تذكرت رواية قرأتها لكاتبة مصرية (لا يحضرني اسمها الآن)، ذكرت الكاتبة أن شخوص وأحداث روايتها حقيقية؛ حيث التقت ـ في القاهرة ـ ببطل روايتها الذي قدم من المكسيك باحثًا عن أصوله السودانية؛ وذلك بعد أن علم أن جده سوداني قدم مع فرقة جنود سودانية إلى المكسيك وتزوج من جدته المكسيكية، وقد توجهت الكاتبة، بصحبة بطل روايتها، إلى السودان. ولكن للأسف، الشديد، أن محاولات ذلك الشاب قد باءت بالفشل، وعاد إلى المكسيك دون أن يدرك مبتغاه. إما بسبب أن أهله قد تناوشتهم الحروب (منهم من مات ومن من نزح)، وإما بسبب أن السودانيين أمة شفاهية، لا تعتمد على التدوين والتسجيل في الاحتفاظ بتاريخها فيضيع ويسقط من ذاكرتنا.
أخيرًا أقول: إن من سوء حظ العرب ومن حسن حظ دولة بني صهيون اليوم؛ أنها لا توجد لها حدود مع دولة السودان، وأن السودان لا يملك من الأسلحة ما تملكه إحدى دول الخليج، وإلا لرأينا خريطة غير تلك التي رسمتها أقلام الخواجات.
اترك رد