إعداد: حامد رجب عباس (باحث دكتوراه فى النظرية السياسية والفكر السياسي – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – مصر)
جدل النص (كـ أثر) والمفكر (كـ ذات) واقع إشكالي فى ذاته ، فالنصوص أصبحت منذ زمن، تُعامَل كوقائع خطابية لها منطقها وقوانينها، أو كأحداث فكرية لها أثرها ومفاعليها، بصرف النظر عن مراد مؤلِّفيها. ولم يعد النص مجرد ناطق باسم المؤلف أو مجرد مرآة تعكس الواقع، بل أصبح هو نفسه واقعة تخضع للدرس والتحليل، ليس فقط من حيث منطوقه وطرحه، بل كذلك من حيث بنيته ومنطقه وآلية عمله، والتى لا تنفك بدورها عن سياق .
ويعد العقل الأركونى عقل تركيبي مزدحم بالمنهاجيات كما بالمفاهيم والإشكاليات ، عقل بارع فى إثارت التساؤلات ، وفتح ورش عمل متعددة ، عقل يحاول استعادة الماضي – وإن بصيغة نقدية – مع وعي بأنه لا أمل في مستقبل من دون ربط جسوره بالماضي. عقل عمل على التراث فأنجز أجندة مزدحمة بالموضوعات ، وأجري عمليات نقد وتفكيك وحفر أركيولوجي لهذا التراث فى مشروع امتد لما يزيد عن أربعين سنة من عمر أركون (من بدايات السبعينات حتى وافته المنية فى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين) ، ومن ثم ففهم إشكالية التراث لدي أركون يعنى الإصغاء له وللنقود التى قدمها كما للحلول والأدوات التى رأاها ناجزة .
ومن الصعوبة بمكان الإحاطة بإشكالية التراث بتعقيداتها لدي أركون فى ورقة كهذه ، ولكن يمكن الحفر على الحفر الأركيولوجي الأركوني فى التراث فى واحد من أبعاده ، وفى هذا المنحي يمكن الوقوف على أشكلة أركون للتراث مع العلمنة ، وهي أشكلة لا تنفك بدورها عن أشكلة أركون للتراث مع العقل اللاهوتى- السياسي ، وثنائية الروحي/والزمنى ، وكذا ثلاثية جدل الدين/والدولة/والدنيا، كما لا تنفك عن اهتمام أركون بدراسة الآليات العقلية التى ساهمت فى إنتاج الأنظمة اللاهوتية والعقيدية المتنوعة ، واهتمامه بـ”آليات التمفصل والتقاطع بين اللاهوتى والسياسي وتأثير هذا فى ذاك أو العكس” . واعتمد أركون قراءة تاريخية منفتحة لدراسة الفكر الإسلامي والبحث فى إشكالية العلمنة وإمكانية حصولها فى المجتمعات الإسلامية ، وبرهن على أن هذه المجتمعات عرفت العلمنة سابقاً ، وهى اليوم تسير نحوها من دون أن تشعر.
وإذا كانت العلمنة لدى أركون”موقف للروح وهى تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة” أو هى ذلك “الموقف الحر والمفتوح للروح أمام مشكلة المعرفة” ، فإن ذلك يعنى أن العلمنة لدي أركون خيار إبستمولوجي (معرفي) أكثر من كونها خيار أيديولوجي ، ومن ثم فنحن أمام مقاربة كتلك التى صاغها ميشل فوكو بين المعرفة والسلطة ، ولكن فى سياق مغاير لسياق “فوكو” وذلك من أجل “إعداد نظرية شاملة للروابط بين الدين والسياسة من خلال النموذج الإسلامي”
وقد بني أركون مقاربته للعلمنة على فرضية أساسية وهي “أنّ العلمنة لا يمكن لها أن تكون غائبة عن التجربة التاريخية لأيّة جماعة بشرية حتى ولو تجلت في صور ضعيفة وغير مؤكدة”. ورأى أركون إمكانية مناقشة هذه الفرضية من منظور تداخل الساحات (الدينية ، والفكرية ،والسياسية) ، والساحة الدينية لدي أركون تعنى تجاوز الدين الواحد (يهودى أو مسيحي أو إسلامي) إلى فضاء ديني عمومي ، باعتبار كل الأديان (سماوية أو غير سماوية ) تقدم أجوبة وتفسيرات وإيضاحات فيما يخص علاقة الإنسان بالوجود والأخرين والمحيط الفيزيائي الذى يلفه ، بل وحتى الكون كله وفيما وراءه (أى ما فوق الطبيعة). أما الساحة الفكرية ، فتهتم بالجدلية المثارة بين اللاهوت من جهة والعقل والمخيال من جهة أخرى ، والأكراهات أو الحدود المفروضة على العقل والمخيال ، والساحة السياسية تهتم بالدو الذى يلعبه السياسي/الحاكم/الخليفة فى ضبط كلا الساحتين(الدينية والفكرية) وتوجيههما أو استغلالهما . والإشكال الذى يطرحه أركون هنا هو إشكال تراتبية تلك الساحات ، أى ما هي طبيعة العلائق بين الدين والسياسة ، وبمعنى أخر هل القوة السياسية هى التى فرضت تشكيلة ما للساحة الفكرية والساحة الدينية أم العكس؟
وناقش أركون هذا الإشكال فى التاريخ السياسي للإسلام ، فالإسلام – كما يراه أركون – ليس منغلقًا في وجه العلمانيّة فقد شهدت المجتمعات الإسلامية تجارب علمانية عدة عبر التاريخ.
ويمكن الرجوع للقرون الأربعة الأولى من الهجرة ، حيث عرفت حركة ثقافية مهمّة استطاعت الخروج عن القيود التي فرضتها السلطة الدينية. فالعلمانية كانت موجودة خلال فترة حكم المأمون أكثر مما هى اليوم فى معظم الدول العربية والاسلامية ، حيث عالج المعتزلة مثلاً مسائل فكرية مهمة انطلاقًا من ثقافتهم المزدوجة المرتكزة على الوحي الإسلامي والفكر اليوناني واستطاعوا إدخال مسائل لها أبعاد ثقافيّة ولغويّة مغايرة للسائد عند طرحهم مسألة “خلق القرآن”، وعند اعترافهم بمسؤولية العقل ودوره في فهم النص القرآني وامتلاكه. بيد أنّ هذا التيّار العلمانيّ سرعان ما وُئد وتمّت مواجهته من قبل الاتّجاه الأشعري الممثل يومها للسياسة الرسميّة للدولة. وعلى خلاف الكثيرين يري أركون فى “محنة ابن حنبل” وموقفه من مسألة “خلق القرآن” ومواجهته للسلطة أيام “المأمون” برهاناً على العلمنة ، ونوعاً من الفصل بين الروحي والزمني أو الديني والدنيوي ، يقول أركون ” فى الواقع أن ابن حنبل إذ رفض إطاعة أمر الخليفة فى إحدي مسائل العقيدة قد ثَبَّتَ صلاحيات الخليفة التى ينبغي ألا تتعداها . فموقف ابن حنبل يعني عملياً ما يلي: الخليفة لا يطاع إلا فى ما يخص السلطات الخاصة بجهاز الدولة . أما العقائد الدينية المحصنة فهى من اختصاص ومسؤولية الأمة المستنيرة التى يقودها علماء مستقلون عن السلطة ومعترف بهم من قبل الجمهور العام علي هذا النحو ، ومن واجب الخليفة حماية القانون الديني والسهر على تطبيقه ، ولكن لا يحق له أن يحدد مضامينه أو يفرضها” .
كما ذهب أركون إلى أنّ المُجتمع الإسلامي عرف نوعاً من العلمانية البدائية قبل المعتزلة وبعد ثلاثين عام فقط من وفاة النبي ، عندما استولى معاوية بن أبي سفيان على السلطة السياسية، ونصّب نفسه خليفة أو “أميرًا للمؤمنين”، وبعدها قام أنصاره بإلباسه رداء الشرعية الدينية وأضفوا على أعماله طابع القداسة والتعالي ، وبذلك تشكّلت إيديولوجيا التدبير التي تعطي للحاكم الحق في كل شيء باسم الدين.
أيضاً اعتبر أركون أن انتشار الثقافة العلمية والفلسفية التى نقلت عن الإغريق أدي إلى “ظهور علائم للعلمنة الجنينية فى البيئة الإسلامية ، أبرز هذه العلائم إضعاف هيبة الخلافة من قبل الأمراء البويهيين ، ثم ازدياد أهمية الدور الذى يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات المتكررة والحاصلة بين الطوائف ، والمذاهب والعقائد ، والتراثات العرقية – الثقافية”. فتحجيم الخلافة وتهميشها من قبل البويهيين يعني – كما يراه أركون – البدء بالتقدم نحو علمنة مؤسسة السلطة العليا ، بخاصة أن الخلافة كانت لها قيمة رمزانية دينية عليا فى المخيال الجمعي الإسلامي ، كما رأى فى نمو العقل الفلسفي على حساب العقل الديني الأرثوزكسي إشارة إلى علمنة الفكر فى الساحة العربية الإسلامية ، حيث انبثاق معالم إنسية عربية إسلامية مبكرة تبلورت فى طروحات عدد من أعلام الفكر وقتئذ أمثال التوحيدي ومسكوية.
كل هذه الشواهد التى ساقها أركون حاول من خلالها يبرهن على أن السلطة بعد وفاة النبي ، في الإسلام وفي تاريخه كله، كانت سلطة زمنيّة لا دينية موجّهة من قبل السيادة الدينية ، كما كانت تعتمد على القوة وليس على القانون أو الشرع. بخلاف الفترة النبوية “تجربة مكة والمدينة” التى استجمعت الروحي والزمني ، وهذا ما دفع أركون للتمييز بين ثلاثة مصطلاحات: الإمامة والخلافة والسلطة، فإذا كان المصطلح الأوّل والمصطلح الثاني يقومان بدور روحيّ وزمنيّ في الحضارة الاسلامية ، فإن المصطلح الثالث “السلطة” يلعب دورًا دنيويًا خالصًا. ولتبيين ذلك تناول أركون أبعاد التجربة النبوية وبيّن كيف أنّ النبيّ نهض بأدوار عديدة منها دور القائد والمُوجّه، وهي أدوار تجعل من التجربة النبوية ثرية الأبعاد تؤكد مجتمعة أنّ للنبي دورًا دينيًا ودنيويًا معًا، ونتيجة لذلك طُرحت المشكلة بحدّة واضحة بعد وفاة النبي.
والجدير بالملاحظة حول هذه المقاربة الأركونية لإشكالية العلمنة وجدل الروحي والزمني أو الديني والدنيوي ، أن أركون قدم تأويلاً للتاريخ السياسي فى الإسلام ، إلا أن هذا التأويل كان انتقائياً فعمد على انتقاء أحداث بعينها وتأويلها ولي عنقها أحياناً وإسقاط أخري ، فأسقط مثلا فترة الخلفاء الأربعة (أبي بكر وعمر وعثمان وعلى) من تحليله وانتقل مباشرة إلى فترة معاوية ، على الرغم من أن التيار الأرثوزكسي (السني) يعتبر بداية حكم معاوية تحولاً من منطق الخلافة إلى منطق الملك العضوض (أى الحكم القائم على القوة) ، ومن ثم يعتبرون ذلك انحراف عن الجادة ، فى الوقت الذي بني أركون تحليله على هذا الملك العضوض . وفى تحليل أركون لموقف المعتزلة وابن حنبل من قضية “خلق القرآن” أَيّد الشئ ونقيضه ، فرأى فى موقف المعتزلة دلالة على جراءة فكرية فى طرح قضايا جدية ومغايرة للسائد فى مجال الفكر وقتئذ ، ورأى فى موقف ابن خنبل فصلاً بين الروحي والزمني ، وعلى الرغم من اعتبار أركون العلمنة “مصدراً للحرية الفكرية وفضاءً تنتشر فيه هذه الحرية” وهذا ما جعله يحمل على الخليفة القادر بالله والعقيدة القادرية (التى قضت بأن من يقول بخلق القرآن فدمه حلال) ، إلا أنه فى ذات الوقت غيب الدور الذى لعبه رموز المعتزلة فى محنة أحمد ابن حنبل وتماهيهم مع السلطة (أى مع المأمون وبعده المعتصم ثم الواثق) .
عندما تناول أركون الخطاب السياسي فى السياقات الإسلامية انتقد بشدة القراءة الإسقاطية التى قام بها بعض المتحمسين من أجل إضفاء الحداثة على الخطاب القرآني ، كما انتقد أصحاب القراءة التبجيلية الذين حاولو إثبات أن هذا الكتاب يحوي أهم مكتسبات الحداثة (كمفهوم الديمقراطية ، وحقوق الإنسان …) ، إلا أن أركون وقع فى نفس الخطأ المنهاجي حينما أسقط على الخطاب القرآني مفهوم العلمنة وعلى الصراع السياسي الذى نشب بعد مقتل عثمان وممارسات الخلفاء الأمويين والعباسيين التى تفهم فى سياق الصراع السياسي والمصلحة السياسية أو العصبية – كما فسرها ابن خلدون – ومن ثم يكمن الخطأ فى إسقاط مفاهيم تنتمي إلى انجازات عصر متأخر فى الزمن على عصر سابق له ، كما أن لتلك المفاهيم حمولات فكرية قد لا تتطابق مع السياق الذى أسقطت عليه ، وهذا ما دفع أركون فى بعض حواراته لاتهام اللغة العربية والترجمات بعدم استيفائها بالغرض فى شأن عدد من المفاهيم والاصطلاحات منها العلمنة وكذا القداسة والمقدس والأسطورة.
إذا كنا قد قدمنا بأن العلمنة لدي أركون لا تنفك عن السيادة العليا والقداسة ، فإن التحليل السابق يفضي بأنها كذلك لا تنفك عن الحداثة ومحاولة توظيف علوم الإنسان والمجتمع فى الحفر فى التراث وطبقاته المتراكمة وهو حفر لم يخل من هاجس أنسي ومعرفي وعقلاني ظل أركون مسكوناً به ، وهذا ما جعل أركون يفتح نقده على كلا الجبهتين الإسلاميين كما جبهة الحداثيين محاولاً إبراز المنحي الروحي وقيمة السعي الدائم نحو المطلق فى حضارة همشت الدين وعزلته عن دائرة بحثها.
لا يمكن فهم تحليل أركون للعلمانية وتاريخها في الإسلام بعيداً عن السياق الثقافي العام، وبخاصة ما يعرف منذ الثلاثينيات من القرن العشرين (تاريخ نشأة جماعة الإخوان المسلمين) وحتى اليوم بـ (الإسلام السياسي)، وما يطرحه من مشكلات ومنها الموقف من العلمانية .ويبدو واضحاً أنّ إحدى غايات أركون هي كتابة تاريخ للعلمانية في الفكر الإسلامي، وإجراء نوع من التأصيل لهذا المبدأ، وذلك وفقاً لمبدأ المماثلة والقلب. فإذا كان الإسلام السياسي ينكر وجود عملية فصل بين السياسي والديني في الإسلام، فإنّ أركون قد عمل ما بوسعه لإثباتها. ولكن ما يجب ملاحظته هو أنّ هذه العملية قد لا تحتاج إلى كل هذا الجهد النظري، وإلى تلك العدة المنهجية التي استحضرها لإثبات قضية الفصل أو على الأقل الطابع الدنيوي للحكم. لأنه إذا كان خطاب أركون موجهاً في جزء منه على الأقل إلى الإسلاميين، فإنّ هؤلاء وعلى اختلاف مشاربهم إنما يميزون مثل ما يميز أركون المرحلة التأسيسية أو تجربة المدينة التي ارتبطت فيها السياسة بالدين أو السيادة العليا بالدولة، وأنّ الفصل قد حصل منذ قيام النظام الملكي، وبالتالي فإنّ الاختلاف بينه وبينهم إنما يتمثل في الموقف. ففي الوقت الذي يرى فيه الإسلاميون أنّ ذلك الانفصال كان علامة على الانحراف عن الدين ومقاصده، فإنّ أركون يرى أنّ ذلك من طبيعة الأمور، وأنّ إمكانية العودة إلى تجربة المدينة من خلال نموذج مثالي هو وهم وأسطورة.
مراجع البحث:
– محمد أركون ، الفكر الإسلامي نقدا واجتهاد ، ترجمة : هاشم صالح ، الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، 1989 .
– محمد أركون ، العلمنة والدين :الاسلام، المسيحية،الغرب ، ترجمة : هاشم صالح ، بيروت ، دار الساقي ، 1996 .
– محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ترجمة : هاشم صالح ، ط2 ، بيروت ، مركز الإنماء القومي ، 1996.
– محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ط2، ترجمة : هاشم صالح ، بيروت ، المركز الثقافى العربي ، 1996 .
– محمد أركون ، الاسلام الاخلاق والسياسة ، ترجمة : هاشم صالح ، بيروت ، دار النهضة العربية ، 1990.
– محمد أركون ، نزعة الأنسنة فى الفكر العربي :جيل مسكوية والتوحيدي ، ترجمة : هاشم صالح ، بيروت ، دار الساقي ، 1997.
– حوار أركون على فضائية “فرانس 24” ، برنامج “حوار” ، رابط الحلقة : https://www.youtube.com/watch?v=uC2bRxzSjPU
اترك رد