د. عادل بوديار: أستاذ محاضر بقسم اللغة والأدب العربي، كلية الآداب اللغات جامعة تبسة
تمهيد:
ظهر الإشهار نتيجة الحاجة إلى ترويج السلع، وهو يمثل الإشهار أحد الأنماط التواصلية الأساسية لترويج السلع عبر الوسائط الإعلامية المكتوبة، والمسموعة، والمرئية بأسلوب إعلاني ساخر ومثير قصد استمالة المستهلك وإغرائه بلغة تجارية بسيطة، وموجزة، ودالة؛ لذلك فإنّ الإشهاري يتصل بالحياة الإنسانية بشكل مباشر من خلال تأسيسه لقيم اجتماعية، وأخلاقية، وحضارية، وتجارية.. فهو يخفي في ممارسته اللغوية والثقافية قيمة ثقافية ذات سمة إيديولوجية غالبة تحاول أن ترسخ لدى المتلقين.
1. تعريف الإشهار:
الإشهار هو ذلك الجزء الهام من نظام الإنتاج والتوزيع الجماهيري الذي يترجم في شكل إعلام وتذكير بالسلع والخدمات التي يتضمنها السوق ، فهو وسيلة غير شخصية لتقديم الأفكار والمنتجات والخدمات وترويجها بواسطة جهة معلومة مقابل أجر مدفوع ، والإشهار يمثل أحد الأنماط التواصلية الأساسية لترويج البضائع والسلع عبر الوسائط الإعلامية الشفوية أو المكتوبة أو المرئية، الثابتة أو المتحركة، بأسلوب مباشر وصريح يتجه فيه المعلن (المشهر) بإعلانه نحو الزبون بأسلوب غير صريح قصد الاستمالة والإغراء العاطفي، أو هو مجموع الأساليب الاتصالية التي تختص بإعلام الجمهور من خلال وسيلة عامة عن منتح أو خدمة ما ودفع الجمهور إلى اقتناء السلعة المعلن عنها ؛ أنه « هو لغة تجارية: إنه سيناريو تركيبي مفتوح على التأويل الدرامي، أو هو الدعوة إلى الإسقاط وتحريف الدور والبؤرة التي تحقق فيها الأحلام والرغبات. وبهذا فهو استهامي عمومي، كوميديا ورغبة يجب أن تتحقق. فمن خلال فضائل الشراء يمكن لكل شخص أن يجد انعكاسه ممثلا. حينها سيبث الفرد في المنتج من خلال الربط بين الدوال الاقتصادية (المنتجات) والمدلولات الإشهارية (الصور) قيمة ثقافية. فلكل استهلاك يستوعب المحور اقتصاد/إشهار – باعتباره ثقافة » .
إن الإشهار عملية اتصالية كاملة تتحقق فيها عناصر الاتصال:
* المرسل: أي القائم بالإشهار (المنتج أو الموزع).
* الرسالة: الصيغة التمثيلية والترويجية للفكرة المعلن عنها.
* الوسيلة : كل وسائل الاتصال الجماهيرية بما في ذلك المسرح، والسينما، والملصقات
* المستقبل: الجمهور المستهدف والذي يحدد بناء على معيارين أساسيين: طبيعة المضمون الإشهاري وطبيعة البيئة الثقافية لهذا الجمهور.
* الأثر: ونحدده بقياس معدل بثبات أو تغيير السلوك الشرائي بعد التعرض للرسالة الإشهارية أي قياس فعالية الإشهار.
2 ـ الخطاب الإشهاري:
يتصل الخطاب الإشهاري بالحياة الإنسانية بشكل مباشر من خلال تأسيسه لقيمتين.
الأولى: اجتماعية، وأخلاقية، وحضارية ، والثانية: هي القيمة التجارية المباشرة، فهو يخفي في ممارسته اللغوية والثقافية قيمة ثقافية ذات سمة إيديولوجية غالبة تحاول أن ترسخ لدى المستقبلين (المتلقين)، ونظرا لهذه الطبيعة المتشابكة للخطاب الإشهاري فإنه لا بد أن نميز بيِّن ما هو من الخطاب نفسه بوصفه نسيجا لغويا دالاً يهدف إلى الإقناع ، وبيْن ما هو خارج الخطاب اللساني فيما يتصل من قيم سوسيو اقتصادية.
ويتأسس الخطاب الإشهاري في بعده التأثيري على مبدأ الترويج للسلعة، والفكرة المنوطة بها من خلال عرض خصائصها المميزة بهدف دفع الجمهور المستهلك إلى اقتناء المنتوج، ولما كان الخطاب الإشهاري يجمع نسقين دلاليين: نسق لساني، ونسق أيقوني بصري، فإنه العملية الإشهارية تجسد كفعل اقتصادي اجتماعي وفق العلاقة التالية :
الإشهار (PUBLICISTE) المستهلك (CONSOMMATEUR)
المنتوج (الموضوع) (PRODUIT)
ويمكن التمييز بين نسقين في بنية الخطاب الإشهاري، أحدهما لساني يتمثل في العلامة اللسانية، وثانيها أيقوني يتمثل في العلامة البصرية أداته الرئيسية في عالم الواقع، وحضورهما معًا بهيمنة طرف على آخر مبني على قصد معين يتوافق مع المقام الإشهاري.
ومن عليه فإنّ الحديث عن الخطاب الإشهاري يفرض التميز بين قطبين أساسيين متباينين ومتكاملين في الآن نفسه، هما البعد السوسيو- اقتصادي الذي يوجد خارج الخطاب، والبعد الخطابي بصفته نسيجا تتشابك فيه مجموعة من العلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية، فالمسار السوسيو- اقتصادي يمثل الإطار العام الذي تمارس داخله عملية الإشهار، ويعطي الخطاب الإشهاري لنفسه كمهمة الإخبار عن خصائص ومميزات هذا المنتوج أو ذاك بهدف الدفع بالمتلقي إلى القيام بفعل الشراء. هذه الوظيفة الموضوعية تبقى وظيفته المبدئية، وتتحكم في تكوين المسار السوسيو-اقتصادي العناصر الثلاثة (الإشهار، المستهلك، والمنتوج). أما الثانية: فهو مستوى الخطاب الذي يفترض وجود قائل ينجز مجموعة أقوال ومتلقي يستقبل أساسا خطابًا له مجموعة من المكونات والخصائص التي تجعل منه قارئا ومؤولاً لهذا الخطاب.
3. الصورة الإشهارية:
ظهرت الصورة الإشهارية مع تطور وسائل البث والإعلان ورقيا ورقميا، فمثلت أنموذجا للإعلام الاستهلاكي الذي يوظف الوسائل السمعية والبصرية استجابة لمستلزمات اقتصاد السوق الذي يعتمد على الفلاحة والصناعة والتجارة، وعرض السلع والبضائع والخدمات إنتاجا وتسويقا وترويجا، وبذلك فإن العلامة الإشهارية في الخطاب الإشهاري الصورة بمكوناتها المختلفة من صوت، ولون، وحركة، وموسيقى، وديكور، وهي جميعها تمثل علامات سيميائية تهدف (( إلى إعادة صياغة المعنى اللساني المثبت باللفظ، وإضفاء الحياة والدينامية عليه فيضحي حركة مشهدية نامية، ولعل أهم الوظائف التبليغية التي تحققها الصورة أنها تخرج القيم المجردة من حيز الكمون إلى حيز التجلي فتصبح واقعا ماديا محسوسا في ضوء ما ينتج من مشاهد إشهارية تتخلل أو توازي الخطاب اللساني، وربما حولت الصورة العوالم المجردة والمثالية إلى عوالم ممكنة إن القيمة الإقناعية للصورة في الخطاب الإشهاري لا تتحقق نجاعتها إلا في ضوء النسق اللغوي فأنظمة الحركة واللباس والموسيقى لا تكتسب صفة البنية الدالة إلا إذا مرت عبر محطة اللغة التي تقطع دوالها وتسمي مدلولاتها، وفي هذا السياق يذهب إيريك بويسنس(E.Bryssens) إلى أن الصورة نسق دلالي قائم بذاته، لها وظيفة أساسة في التواصل ، وليست حشوية فيه ،بالنسبة إلى العلامة اللسانية الطبيعية، بل إن اللغة في كثير من الأحيان تحتاج إلى مثل هذه النظم السيميولوجية لتحقق وظيفتها التبليغية فهي وإن كانت دالة دلالة رئيسة إلا أنها لا تستطيع احتكار الدلالة )) .
ويبدو أن ارتباط الخطاب الإشهاري بعوالم المال، والأعمال، والتجارة، التسويق والترويج .. جعله خطابا يقوم على الدعاية والإغراء والقصدية؛ فهو (( لا يشهر من قبيل الصدفة، هو ثقافة مفننة ومقننة، لكنها تراعي ثقافة المرسل إليه أكثر مما تراعي المرسل نفسه، ومن ثم فإن الخطاب الإشهاري موجه أساسا إلى المستهلك أكثر مما هو خاص بالمنتج، وهو بالمعنى التقريري فن، وإبداع .. واع وغير بريء لأنه يكاد يرغم المتلقي إرغاما عل تلقيه بصورة أو بأخرى، نطرا لتضخيم إشكار المنتوج وتجويده، وإضفاء صبغة هائلة من الروعة والجمال )) .. وما يميز الخطاب الإشهاري عن غير من الخطابات الأخرى أنه عندما يكون نسقا إيقونيا (صورة) يراعي ثقافة المستهلك من حيث الدين، والعادات، والتقاليد فما يصلح خطابا إشهاريا في بيئة معينة لها دينها وعاداتها وتقاليدها ولا يصلح في بيئة أخرى مخالفة، لذلك كثيرا ما يجد أصحاب المنتوج المصنع مادة وإشهارا في بيئة أوروبية مثلا مشكلة الإشهار للمنتوج ذاته بالإشهار نفسه في بيئة عربية إسلامية خاصة عندما يتعلق الأمر باستخدام جسد امرأة أو رجل للترويج للمنتوج.
4. مقاربة الخطاب الإشهاري:
يتأسس الإشهاري في بعده التأثيري على مبدأ الترويج للسلعة والفكرة المنوطة بها عبر عرض خصائصها ومميزاتها لدفع المستهلك إلى اقتنائها، وهو ما يجعل من العملية الإشهارية تتجسد كفعل اقتصادي اجتماعي يقوم بالدعوة إلى اقتناء منتج معين عبر مستويين أحدهما تقريري يعتمد في بنيته على الإخبار، وثانيهما إيحائي يعمل على إدماج الذاكرة السياقية في سيرورة الدلالة؛ لأن نجاح إرسالية معينة رهين كثافة الشحنات التي تحملها، وصورها الشاعرية الإيحائية، بحيث تكتسي لباساً أنيقاً من المعاني، وتنتقل من طبيعة مادية إلى عالم من القيم والدلالات بفضل تلك الهالة التي يضفيها عليها الإشهاري، فهو عليم بمواطن الإغراء لدى المستهلك (المتلقي)، لأجل ذلك يوظف ما أمكن من الاستعارة، والتشبيه، والكناية، والمجاز، والموسيقى، والحركة، والصوت المشكل، والفضاء، والجسد.. لسلبه حرية الاختيار.
وعليه فإنه يمكن تحليل الخطاب الإشهار وفق مقاربات عديدة منها المقاربة اللسانية، المقاربة النفسية، المقاربة التداولية، المقاربة الاجتماعية ـ الثقافية.. طريقة تحليل الصورة الإشهارية فتكون بتجزئة بنيته إلى مكوناتها الرئيسية، ثم إعادة بنائها لأهداف تخدم التحليل؛ لأنّ المقاربات المنهجية الحديثة لا تنحصر وظيفتها في تحليل الخطاب بقدر ما تظهر فعاليتها في كشف الأبعاد الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية للخطاب.. ذلك أن الخطاب الإشهاري يحمل إضافة إلى وظيفة إقناع المستهلك بالمنتوج، قدرة عالية على بلورة الرأي وتشكيل الوعي، والتأثير في الثقافة، لذلك فإن المقاربة السيميائية تعد في رأينا الأنسب لتحليل مثل هذه الخطابات.
5. المقاربة السيميائية للخطاب الإشهاري:
وهي أهم المقاربات وأنسبها لتحليل الخطاب الإشهاري، لأنها تجمع بين الصوت، والصورة، والموسيقى، والحركة، والأداء، واللون، والإشارة، والأيقونة، والرمز، واللغة، والديكور .. الشيء الذي يجعلنا نقول إن الخطاب الإشهاري، وخصوصاً السمعي ـ البصري، عبارة عن فيلم قصير جداً يقوم بإنجازه أعوان كثيرون من مهندسين في اختصاصات مختلفة. ثمَّ إننا نزعم أن المقاربة السيميائية تشمل كل المقاربات السابقة وخصوصاً التداولية منها؛ لأن (( افتراض منهجية متكاملة لتحليل الرسائل البصرية تبدو معقدة وصعبة وعلى القارئ ( المشاهد ) أن يكون مجهزا بترسانة من الأدوات الإجرائية التي تمكنه من اكتشاف خبايا الصورة، لأن شروط إعداد وتكوين واستقبال هذه الرسائل تشترك فيه معارف وثقافات من النوع التاريخي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والنفسي )) .
تتفرع السيمياء إلى فرعين كبيرين هما: سيمياء التبليغ وسيمياء الدلالة ولها اتجاهات كثيرة منها: الاتجاه الإيطالي الذي يتزعمه أمبرتو إيكو ولاندي (Umberto Eco et landy)، والاتجاه الروسي الذي يشمل الشكلانية الروسية ومدرسة تارتو والاتجاه الفرنسي بمختلف تفرعاته، والاتجاه الأمريكي بزعامة بيرس وهو المؤسس الحقيقي للفكر السيميائي الغربي الحديث في نظر بعض الدارسين.
تتأسس النظرية السيميائية على عدة عناصر عند بيرس، وهي التطورية الواقعية والبراغماتية وانسجاماً مع هذه العناصر يؤسس بيرس فلسفته على الظاهراتية التي تعنى بدراسة ما يظهر ، وهو بهذا يوسع من نطاق العلامة لتشمل اللغة وغيرها من الأنظمة التبليغية غير اللغوية، فكل ما في الكون بالنسبة لبيرس علامة قابلة للدراسة، خاصة إذا علمنا أن الصورة الإشهارية تهدف إلى إيصال رسالة معينة فهي إذن اتصالية بالدرجة الأولى، وهي موجهة إلى القراءة العامة (destinée la lecture publique) فهي بهذا المنظور حقل مناسب لملاحظة ميكانزمات إنتاج المعاني (production des sens) عن طريق الصورة .
ولهذا يعد منظور بيرس الأنسب والأصلح لدراسة الخطابات البصرية ومنها الإشهار؛ فلقد عملت الثورة التقنية في مجال تمثيل وإعادة إنتاج الواقع على قلب تاريخ التمثيل البصري التقليدي… فمن جانب سوف تحتكر الصورة الفوتوغرافية مجموعة مجالات التعبير التي كانت من نصيب الفنون التشكيلية من مثل رسم الطبيعة والصور الشخصية إلى غير ذلك، ومن جانب آخر فإن السينما، والتلفزيون والصورة كمنظومة بصفة عامة ستعمل على تطوير استعمال الطرائق الفوتوغرافية وبخاصة فيما يتعلق بتمثيل الوقائع والمشاهد المتحركة موسعة بذلك من مفهوم الفرجة والعرض اللذين كانا مقتصرين على المسرح فقط، وهذا يعني أن الخطاب الإشهاري بوصفه خطابا يسعى إلى الترويج للمنتوج سوف يمرر رسائل تجد لها متلق يتلقفها دون وعي أو إدراك ويلون بها حياته الثقافية والاجتماعية.. وهنا يكون هذا الخطاب قد تجاوز الوظيفة التجارية إلى صناعة الثقافة.
اترك رد