د. حماد محمد إبراهيم منصور: أستاذ الفقه والأصول بجامعة الطائف – السعودية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وأصحابه والتابعين، وبعد،،،،
فإن الشريعة الإسلامية الغراء شريعة مبنية أساسا على الحكم والمقاصد ،ولا يوجد بها حكم واحد ليس له حكمة ؛ لأن أفعال الحكماء منزهة عن العبث فكيف بأحكم الحاكمين عز وجل ؟!
وإن الهدف العام للدين الإسلامي –عقيدة وشريعة – هو جلب المصالح ودرء المفاسد وإسعاد العباد في المعاش وفي المعاد ؛مصداقا لقوله تعالى : ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ”
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إحسان العبادة حيث علمنا هذا الدعاء: (اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) وإن من إحسان العبادة إدراك مقاصدها ومعانيها والعمل على تحقيقها ، فإن المقاصد أرواح الأعمال وثمراتها ،وأعمال بلا مقاصد أعمال بلا أرواح أو ثمرات.
هذا، وإن للصوم مقاصد نبيلة وفوائد جليلة ، منها :
1-التعبد لله والتقرب إليه :
إن المقصد الأساس من العبادات عامة هو التعبد لله عز وجل والتقرب إليه بامتثال أمره والخضوع له ،وفي الصيام يظهر التعبد لله والتقرب إليه بترك محبوبات النفس وقمع شهواتها وملذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته ، وفي الحديث القدسي : ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي..” [متفق عليه]
2-تحصيل التقوى :
ذكر القرآن الكريم أن مقصود الصيام هو تحصيل التقوى ، قال تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” والتقوى هي الخوف من الله عز وجل ،وأن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وقاية ، ويكون ذلك عن طريق فعل الطاعات وترك المحرمات ، والصيام من أهم وسائل تحقيق التقوى ، فهو يغرس في نفس الصائم مراقبة الله تعالى في السر والعلن واستشعار قربه عز وجل منه واطلاعه عليه ، وفي الصيام تكثر الطاعات وتقل السيئات .ويقل ميل النفس إلى المعاصي ؛فإن النفس إذا شبعت تشوفت إلى المعاصي والمخالفات، وإذا جاعت وظمئت تشوفت إلى الطعام والشراب.
3-تحسين الأخلاق:
من مقاصد الصوم تهذيب الأخلاق ، قال صلى الله عليه وسلم :” «الصِّيَامُ جُنَّةٌ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِماً، فَلاَ يَرْفَثْ ، وَلاَ يَجْهَلْ. فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ».[متفق عليه] وقال أيضا:” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه “[ رواه البخاري]
وقال جابر رضي الله عنهما : «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً»
فالصوم الحق يربي المسلم على ضبط النفس والتحلي بمكارم الأخلاق مثل الصبر والحلم والرحمة والرفق ،والترفع عن مساوئ الأخلاق مثل السفه والجهل والبذاءة والكذب ،مهما كانت دوافع الاستفزاز.
4-كسر الشهوات :
من مقاصد الصوم إصلاح النفوس بتهذيب شهواتها؛ فإن الجوع والظمأ يكسران شهوة المعاصي، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أن قال :”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج …ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ” و” الوجاء “كما ذكر العز بن عبد السلام هو رضّ أنثيي الفحل ،فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوم في كسر الشهوة منزلة رضّ الأنثيين في حسم الشهوة.وقد جاء في الحديث : ” إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ” وزاد بعض الرواة : فضيقوا مسالكه بالجوع .
5-شكر المنعم :
إذا صام العبد وشعر بالعطش والجوع عرف نعمة الله عليه في الري والشبع ، فشكر الله على ذلك ؛ فإن النعم لا يعرف قدرها إلا بفقدها.
6-التكافل وتكثير الصدقات:
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله :”فإن الصائم إذا جاع تذكر ما عنده من الجوع فحثه ذلك على إطعام الجائع ،فإنما يرحم العشاق من عشقا”
7-صحة الأذهان وسلامة الأبدان:
من حكم الصيام وفوائده أن فيه فوائد صحية كثيرة وشفاء لكثير من الأسقام وتنشيطا للعقول والأذهان ؛فإن المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : “”مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتْ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ، فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ” [رواه الترمذي]
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:” صوموا تصحوا ” [ رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي بسند ضعيف ]
والحديث وإن كان ضعيفا فإن معناه صحيح كما أكد ذلك الأطباء.
8-تقوية العزيمة وتحقيق الصبر:
الصيام يقوي العزيمة ويعلم الصبر ،يقول ابن رجب : ” وَمِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ: الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ الصَّبْرَ عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَبْرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتْرُكُ شَهَوَاتِهِ لِلَّهِ وَنَفْسُهُ قَدْ تُنَازِعُهُ إِلَيْهَا… وَفِيهِ أَيْضًا صَبْرٌ عَلَى الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ لِلصَّائِمِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي شَهْرَ الصِّيَامِ شَهْرَ الصَّبْرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الرَّجُلِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ»
9-رفع الدرجات:
الصيام وسيلة عظيمة لرفع الدرجات ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه عز وجل :” “كل عمل ابن آدم له، إلا الصِيام، فإنه لي، وأِنا أجِزي به….” يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : أضافه إليه إضافة تشريف؛ لأنه لا يدخله رياء لخفائه،ولأن الجوع والعطش لا يتقرب بهما لأحد من ملوك الأرض ،ولا التقرب إلى الأصنام. وقوله (وأنا أجزي به) وإن كان هو الجاري على جميع الطاعات معناه:تعظيم جزائه بأنه هو المتولي لإسدائه ”
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:” “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ،قَالَ اللَّهُ:إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ،يَدَعُ الطَّعَامَ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ الشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ أَجْلِي. ِ”رواه ابن خزيمة
10-تكفير السيئات:
الصيام من أهم أسباب تكفير السيئات ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :” من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ”
أي : إيمانا بوجوبه واحتسابا لأجره عند ربه.
فعلى المسلم الصائم أن يستشعر ويراعي هذه المقاصد والمعاني في صومه حتى يكون صومه صوما حقيقيا لا شكليا .
والحمد لله أولا وأخرا
اترك رد