د. محمد الناسك: علوم القرآن والتفسير، جامعة محمد بن عبد الله، المغرب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ،وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أخي الحبيب:
لقد ذهبت اليوم إلى المسجد, أكثر من مرة -ولله الحمد- وكنت في كل مرة أبحث عنك بين الصفوف بشوق, وأنظر في وجوه المصلين بلهفة علني أجدك بينهم, فرؤيتك في المسجد تزيدني قوة, وعزما ووجودك بين المصلين يطمئن قلبي, ويريح نفسي, حتى صرت أعتبر وجودك في المسجد حقا من حقوقي ,التي لا يليق بك التقصير فيها ولا ينبغي لك التفريط بها، خصوصا بعدما جرى بيننا من ألفة طيلة شهر رمضان المبارك.
واأسفاه ففي كل مرة كان يخيب ظني, ويضيع أملي, وأفتقدك, نعم أفتقدك. وأين ؟ في المسجد , في بيت الله ,حيث تتنزل السكينة, حيث تحف المصلين الملائكة, وتغشاهم الرحمة, فكيف ساغ لك الغياب عن هذا الحفل، أم كيف لاق بك التفريط في هذا الفضل، وأنت تزعم أنك من أهل الأسلام.
لا شك أنك تعلم أن الصلاة عماد الدين، وأفضل العبادات، من حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الصلاة خير موضوع ، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر”.[1] نعم هي خير موضوع لأنها العبادة الوحيدة التي فرضت في السماء، ونزل بها إلى الأرض خير الأنبياء ،معلنا أنها خمسون في الأجر، وإن كانت خمسا في الأداء.
الحكمة من وجوب إقامة الصلاة :
إن الله تعالى حكيم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، لا يأمرهم إلا بخير واضح، ولا ينهاهم إلا عن شر فادح، وقد حذر عباده المؤمنين من ترك الصلاة، وأمرهم بإقامتها إذ(الصلاة من أعظم العبادات البدنية، وأشرفها، جمع الله فيها لبني آدم أعمال الملائكة كلهم، من قيام، وركوع، وسجود، وذكر، و قراءة، واستغفار، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، و أنواعا مهمة من أعمال بني آدم ، لأنها متوقفة على بذل ثمن ما يستر به عورته، و يتطهر به من الماء، وذلك يجري مجرى الزكاة ،و فيها الإمساك عن الأطيبين، وهو يجري مجرى الصيام، وإمساك في مكان مخصوص، يجري مجرى الاعتكاف، وتوجه إلى الكعبة، يجري مجرى الحج ، ومجاهدة النفس في مدافعة الشيطان، يجري مجرى الجهاد، وذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يجري مجرى الشهادتين، وفيها زائد على ذلك، ما اختصت به من وجوب قراءة القرآن، والسجود، وإظهار الخشوع، وغير ذلك ، ولذلك قيل فيها، إنها من الدين كالرأس من الجسد)[2] .
فانظر رحمك الله، كيف اجتمع لك من الفضل في الصلاة ما تفرق في غيرها من الطاعات، أضف إلى ذلك التشبه بالملائكة، وهي مخلوقات نورانية “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون”[3]ولله در القائل :
تشبه بالكرام إن لم تكن مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
كما أن الصلاة ليست مسألة شخصية، بل فيها حق الله ورسوله، وحق المؤمنين، فمن حافظ عليها فقد أفاد واستفاد، ومن فرط فيها فقد ضيع حقوقا كثيرة، قال القفال رحمه الله تعالى، في فتاويه:( من ترك الصلاة، قصر بجميع المسلمين، لأن المصلي يقول: اللهم اغفر لي وللمومنين و المومنات ،ولا بد أن يقول في التشهد، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون مقصرا في الخدمة لله، وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين، ولذلك عظمت المصيبة بتركها، واستنبط منه السبكي، أن في الصلاة حقا للعباد، مع حق الله، وأن من تركها، أخل بجميع المومنين، من مضى ، ومن يجئ إلى يوم القيامة، لدخولهم في قوله فيها : السلام علينا ،وعلى عباد الله الصالحين).
فضل صلاة الجماعة :[4]
لقد اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعة، ، و قد قال عدد لا يستهان به منهم بوجوبها وجوبا عينيا، وحتى الذين قالوا بسنيتها، دعوا إلى المحافظة عليها ما أمكن ، ومنهم الشوكاني الذي قال بأنه: ( لا يخل بملازمتها ما أمكن إلا محروم مشؤوم) [5] .فهل ترضى لنفسك الحرمان، أو تقبل أن تكون مشؤوما وأنت بين أهل الإيمان والإسلام، لا والله ،لا يقبلون ذلك منك، ولذلك فهم يخاطبونك بلطف وحنان علك تنتبه وتستجيب قبل فوات الأوان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الرجل في جماعة تَضْعفُ على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً ، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد ، لا يُخْرِجُه إلا الصلاة ، لم يخطُ خطوة إلا رُفِعَت له بها درجة ، وحُطّ عنه بها خطيئة ، فإذا صلَّى لم تزل الملائكة تُصلِّي عليه ، ما دام في مُصَلاّه ما لم يُحْدِث : اللهم صلّ عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ).[6]
ففي الحديث أخي الحبيب لصلاة الجماعة فوائد، لا تدرك إلا بها، وهي:
- الزيادة في الأجر بخمس وعشرين درجة، فأيهما أفضل عندك أخي الفاضل، درجة أم خمس وعشرون درجة؟
- قضاء وقت أطول في العبادة، بالذهاب إلى المسجد، مع ما يترتب على ذلك من رفع للدرجات، وحط للسيئات، مع كل خطوة يخطوها المصلي، وهذا أمر لا يتعلق بالذهاب إلى المسجد فحسب، بل حتى الخطوات التي يقطعها المصلي أثناء عودته إلى بيته، ينال بها نفس الأجر، فعن يحيى الغساني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مشيك إلى المسجد ، وانصرافك إلى أهلك في الأجر سواء”.[7]
- لا يزال المؤمن في صلاة ،ما انتظر الصلاة، بمعنى أن الوقت الذي يقضيه المصلي في انتظار خروج الإمام، يحصل به على أجر المتلبس بالصلاة، المشغول بها فعلا، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: انتظرنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، حتى كان شطر الليل يبلغه ، فجاء فصلى لنا ، ثم خطبنا ، فقال : ” ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا ، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة “.[8]
- صلاة الملائكة على المصلي، ما دام في مصلاه، بعد انتهاء الصلاة ما لم يحدث[9].أي مالم ينتقض وضووؤه.
خلاصة القول، إنك تستفيد أضعافا مضاعفة من الأجر بخروجك إلى المسجد، وتخسر أضعافا مضاعفة، بصلاتك في بيتك منفردا،أو حتى في جماعة، فعن أبي موسى ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم ، فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ، ثم ينام”.[10]
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي . قال : يا محمد ! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: نعم ؛ في الكفارات والدرجات ، ونقل الأقدام للجماعات ، وإسباغ الوضوء في السَّبَرات[11] ، وانتظار الصلاة ، ومَن حافظ عليهن عاش بخير ، ومات بخير ، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).[12]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ” من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً ، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بِهِن ، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهدى ، وإنهن من سُنن الهدى ، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته ؛ لتركتم سُنَّة نبيّكم ، ولو تركتم سُنّة نبيّكم لضللتم .. ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا منافق معلوم النِّفاق ، ولقد كان الرَّجُل يُؤْتى به يُهَادَى بين الرَّجُلَين حتى يُقام في الصَّف”[13]. فالتخلف عن صلاة الجماعة في زمن الصحابة كان علامة واضحة على النفاق، ولذلك شعر الصحابة الذين عمروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغربة أبكتهم ، فعن الزهري رحمه الله تعالى قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : ” لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت “[14] .
4- أحوال وأقوال بعض السلف في صلاة الجماعة :
لقد كان للسلف الصالح من هذه الأمة – رضوان الله عليهم جميعا – مع صلاة الجماعة أحوال عجيبة و أقوال فريدة، نورد منها ما تيسر تشنيفا للأسماع، وتحريكا للهمم، وترغيبا في الخير، من باب وذكر، فإن الذكرى تنفع المومنين :
– فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لأن تملأ أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب”[15].
– وقال ابن عباس رضي الله عنهما : “من سمع المنادي فلم يجب لم يرد خيرا، لم يرد به خير”.
– وقال سعيد بن المسيب رحمه الله : “ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد”.
– وقال محمد بن واسع : “ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة :أخا إنه إن تعوجت قومني، وقوتا من الرزق عفوا من غير تبعة، وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها” .
– وقال حاتم الأصم : ” فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا”.
– وروي أن ميمون بن مهران رحمه الله أتى المسجد فقيل له : “إن الناس قد انصرفوا من الصلاة فقال: “إنا لله وإنا إليه راجعون” لفضل هذه الصلاة أحب إلي من ولاية العراق “.
الهوامش:
[1] المعجم الأوسط للطبراني.
[2] الدر الثمين والمورد المعين لمحمد بن أحمد ميارة ص 173.
[3] سورة التحريم الآية 6.
[4] الدر الثمين والمورد المعين لمحمد بن أحمد ميارة ص 173..
[5] نيل الأوطار للإمام الشوكاني ج 3 ص 151
[6] متفق عليه.
[7] المطالب العالية للحافظ ابن حجر كتاب الصلاة باب فضل المشي إلى المساجد بالليل.
[8] صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء.
[9] ما لم ينتقض وضوؤه .
[10] صحيح البخاري – كتاب الأذان أبواب صلاة الجماعة والإمامة – باب فضل صلاة الفجر في جماعة.
[11] السبرات
[12] رواه أحمد والترمذي.
[13] رواه مسلم.
[14] صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة باب تضييع الصلاة عن وقتها.
[15] هذه الأقوال من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص 209.
اترك رد