نشأة القول بالقدر … منقذ عدنان محمد العيثاوي

الدكتور منقذ عدنان محمد العيثاوي: مدرس مادة العقيدة في كلية العلوم الاسلمية جامعة بغداد سابقا

الحديث في مسائل القدر قديم قدم البشرية لتعلقه بالحرية الانسانية وحرية العبد في ان يفعل الفعل او لا يفعل ولتعلقه بنسبة الافعال الاختيارية الى البشرفهي مسالة لطالما شغلت العقل الانساني وانشغل بها الفلاسفة واهل الفكر على مدى تاريخ البشر الموغل في القدم واستوى البحث فيه عند الموحدين من اهل الديانات الالهية وعند من لم يؤمن بوجود الباري فكلهم خاضوا في هذه المسألة وبحثوا فيها وان اختلفت طريقة بحثهم والنتائج التي توصلوا اليها تبعا للاسس الفكرية والمنطقية والعقدية التي انطلقوا منها فمن يؤمن بوجود الله تعالى قطعا بحثه سيختلف من حيث المنطلقات والاسس والقواعد عن من لا يؤمن بوجود الباري سبحانه وتعالى ولكن تبقى هذه المسالة فعالة ومدار البحث عند الجميع وكذا الحال بالنسبة للكلام في مسائل القدر في الإسلام فهي مسألة قديمة منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم و في حياة النبي صلى الله عليه وسلم اذ ورد انه حصل نقاش بين الصحابة رضي الله عنهم في هذه القدر في حياته صلى الله عليه وسلم ، وهي وان حصل النقاش فيها بين الصحابة فان هذا النقاش لا يعد بالضرورة ان يكون نقاشا يؤسس لبدعة او خلافا مع هدي النبوة صلى الله عليه وسلم بل كانت عقيدتهم تبعا للعصر الذي عاشوه كله نقاء وصفاء تبعا للتربية التي تلقوها من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فالمتابع للروايات النبوية يجد ان هناك روايات تتحدث عن حوادث تدل على وجود نقاش في مسألة القدر1 وعلى سبيل المثال ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب واحمر وجهة حتى كأنه فقيء في وجنتيه الرمان فقال : ( أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم لا تنازعوا فيه)2

فهذه الحادثة دالة على وجود الخلاف في القدر في عهد الصحابة لكن هذا الخلاف لم يستمر ولم يؤسس لقول مخالف بل توقف الصحابة في أمره من ذلك الحين ولم يخوضوا فيه استجابة للامر الذي صدر من النبي صلى الله عليه وسلم بترك الخوض في القدر بخلاف من جاء بعدهم من اهل البدع الذين خاضوا في القدر فكان الصحابة رضي الله عنهم أسلم الناس قلوباً واصحهم عقيدة بل إنهم ندموا على فعلتهم تلك فقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بعد تلك الحادثة كما في رواية ابن ماجه ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه [3] وهذا يشير بشكل واضح وجلي الى ان مسالة القدر والخوض فيها لم تكن تشكل مشكلة كبرى في عصر الصحابة رضي الله عنهم أو أن بذرة القدرية كانت من الصحابة ، فهم رضي الله عنهم لم يعرف عنهم بدعة ، ولم يكونوا على خلاف منهج النبي صلى الله عليه وسلم كما يصور بعض الكتاب ذلك او يحاول البعض ان يسعى الى اثبات ذلك ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى ( وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الاحكام وهم سادات المؤمنين واكمل الامة ايمانا ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الااسماء والصفات والافعال ) [4].

وأما حدوث بدعة نفي القدر فقد حدثت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم فقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن يعمر قال : ( كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوقف لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الأمر إلي فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم …..وأنهم يزعمون ألا قدر وأن الأمر أنف )[5]

فهذا الحديث دال على أن معبداً هو أول قائل بالقدروقال الامام الاوزاعي رحمه الله تعالى ( اول من نطق في القدر رجل من اهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فاسلم فاخذ عنه معبد الجهني وكان ينشر بدعته في دمشق فقتله عبد الملك بن مروان سنة ثمانين ( يجب التاكد من التاريخ ) واخذ عن معبد الجهني غيلان الدمشقي )[6] .

يقول الشهرستاني :” فحدث في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر ….)[7]

فواضح مما سبق ان اول من قال بالقدر هو معبد الجهني وبغض النظر عمن اخذها معبد الا ان اصحاب هذا الراي اتفقوا على ان معبد هو من نشر هذا القول الا ان هناك من يقول من العلماء ان اول من احدث القول بالقدر قبل معبد الجهني في الحجاز انما حصل بعد حرق الكعبة في القتال الذي حصل بين عبد الله بن الزبير بن العوام وبني امية فقال الناس احترقت بقدر الله وقال اخرون لم تحترق بقدر الله [8]

ويرى فريق الاخر من الباحثين ان اول من قال بالقدر هو عمرو المقصوص وكان معلما لمعاوية بن يزيد فتاثر به معاوية هذا فلما تولى الخلافة قيل ان من شدة تاثيرعمرو المقصوص هذا على معاوية بن يزيد اعتزل الخلافة [9].

وارجح الاقوال واقواها في اول من قال بالقدر هو القول الاول لتضافر وتوافر الادلة الصحيحة واتفاق اغلب من كتب في القدر وتاريخ هذه المسالة فمعبد الجهني هو اول من قال بالقدر ثم اخذ عنه غيلان الدمشقي ثم انتشر القول هذا بعد ذلك وتفرق الناس بين مؤيد ومعارض لهذه القول او من اتخذ طريقا وسطا بين الجبر والاختيار بالاعتماد على الادلة النصية والعقلية واحثت هذه الخيارات العقدية في الامة حراكا عقديا يخبو تارة ويعلو ويشتد تارة اخرى مما ادى في نهاية الامر الى تقديم ثروة هائلة من التراث العقدي مما يشير وبشكل واضح الى حيوية الامة وقدرتها على التصدي للاخطار الداخلية منها والخارجية .

الهوامش:
1 انظر القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة للمحمود ص 147 ، القدرية والمرجئة للدكتور ناصر العقل ص 22.
2 رواه الترمذي في السنن 4/443 ، وله شاهد عند ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده 1/33 رقم (85).
[3] – السنن 1/33 .
[4] – اعلام الموقعين 1/ 49 .
[5] – رواه مسلم 1/36 رقم (8)
[6] – ابو داوود 4695 وينظر الايمان لابن منده 8/118 , الشريعة 232 , شرح اصول اعتقاد اهل السنة والجماعة 2/298 .
[7] – الملل والنحل 1/30 تحقيق سيد كيلاني ، وانظر القضاء والقدر في الإسلام لفاروق دسوقي 2/91
[8] – ينظر القضاء والقدر للمحمود 165 .
[9] – ينظر المصدر السابق 166 – 167 .


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد