أنس القرباص: باحث بماستر الفكر الاسلامي والحضارة بالمغرب، كلية أصول الدين، تطوان
تمهيد:
اشتهرت بيئة الأندلس بالتنوع الثقافي والفكري، حيث تعددت فيها المدارس الفكرية، والاتجاهات الأصولية، والمذاهب الفقهية.
وكما لايخفى أن التعدد بطبعه يؤدي إلى الاختلاف الذي يشكل أرضيةً مناسبةً لظهور الحوارات والنقاشات بين الأطراف المتضادة والمختلفة، وهذا بالذات ما كان حاصلاً في الأندلس، إذ المناظرات بلغت فيها أوجها، كما برزت فيها شخصيات عديدة غلب عليها طابع الحجاج والجدال، على رأسهم مجدد المذهب الظاهري أبو محمد بن حزم، الذي نشأ في هذه الظروف التي أسهمت في تكوين شخصيته المعرفية والمنهجية.
ولئن كان ابن حزمٍ ظاهريَّ المذهب أو المنهجِ، في هذا الجو الحافل بمختلِف المذاهب، فإن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن الباحث هو : كيف استطاع ابن حزم أن ينافح عن المذهب الظاهري ويجادل عنه في هذه البيئة ذات الصبغة التعددية والتنوعية ؟
هذا ما سيحاول البحثُ أن يجيب عنه عبر الكشفِ عن أهم الأسس التي استند إليها ابن حزم أثناء جداله الفقهي، وذلك وفقَ الخطة التالية:
– تمهيد: وهو ما نحن بصدده.
– المبحث الأول: ابن حزم، ترجمته، ومذهبه الفقهي.
– المبحث الثاني: منهج ابن حزم في الجدل الفقهي.
– خاتمة: وفيها أهم النتائج
المبحث الأول: ابن حزم، ترجمته، ومذهبه الفقهي.
1. ترجمة ابن حزم.
هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه، المجتهد المطلق، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموي، أصله من فارس، ويكنى أبا محمد. وُلد بقرطبة في آخر يوم من شهر رمضان، سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة كما حكى هو عن نفسه، كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه، متواضعاً ذا فضائل جمة، وتواليف كثيرة في كل ما تحقق به في العلوم(1).أبرزها:
– المحلى بالآثار في الفقه الظاهري.
– الإحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه.
– الفصل في الملل والأهواء والنحل، في مقارنة الأديان ونقدها.
– علم الكلام على مذهب أهل السنة والجماعة.
– التقريب لحد المنطق.
– الجمهرة في أنساب العرب.
– طوق الحمامة في الإلفة والألاف (2).
وغير هذا كثيرٌ، ومصنفاته المتنوعة والمتعددة دالةٌ على رسوخ قدمه وعلو كعبه في علوم شتى، ومن ثمَّ قال عنه ابن بشكوال:” كان أبو محمد بن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة، والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار”(3)، وقال فيه تلميذه الحميدي:”وما رأينا مثله في ما اجتمع له مع الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين”(4).
ولما انتقد الإمام ابن العربي المعافري، الإمام ابنَ حزمٍ رحمه الله، وسخر منه، ووصفهُ بما لايليق، أنصفهُ الذهبي بقوله:
“لم ينصف القاضي أبو بكر – رحمه الله – شيخ أبيه في العلم، ولا تكلم فيه بالقسط، وبالغ في الاستخفاف به، وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد، ولا يكاد! “( 5).
وفي الجملة، فلم يوجد في تاريخ علماء المغرب والأندلس مثله، وقَلَّ في المشرق شبيهه ونظيرهُ، لما كان له من التبحر والتوسع والرسوخ، والتأليف والتصنيف في مختلِف العلوم.
وكانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة(6).
2. مذهبه الفقهي:
اتجه ابن حزمٍ رحمه الله في بداية أمره إلى دراسة الفقه المالكي، باعتباره المذهب السائد بالأندلس، فقد ثبتَ عنه أنه درس الموطأ على أبي عبد الله بن دحون، كما حكى هو عن نفسه بقوله:” قلت للأستاذ – أي الذي رباه- ، دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون، فدلّني فقصدته من ذلك المشهد وأعلمته بما جرى فيه، وسألته الابتداء بقراءة العلم واسترشدته فدلّني على «كتاب الموطأ» لمالك بن أنس رضي الله عنه، فبدأت به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام وبدأت بالمناظرة”(7). ومعلوم أن الموطأ هو كتاب جامع بين حديث رسول الله ﷺ، وبين فقه الإمام مالك، فلا شك أن ابن حزمٍ اطلعَ على المذهب المالكي وفَقِهَهُ أثناء دراسته للموطأ.
ثم انتقل بعد ذلك رحمه الله إلى مذهب محمد بن إدريس الشافعيّ، وناضل عن مذهبه وانحرف عن مذهبِ سواه، حتى وسم به ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء وعيب بالشذوذ(8).
ويبدو أنه وجد في المذهب الشافعي ما يتماشى مع منهجه في تعظيم النصوص، والتمسك بها، فانتقل إليه وتبناهُ، وفي هذا يقول أبو زهرة:” ولعل الذي أعجبه في المذهب الشافعي شدة تمسكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصا أو حملا على النص، وشدة حملته على مالك عندما كان يفتي بالاستحسان والمصالح المرسلة، وكتابته كتابا خاصا في إبطـــال الاستحسان(9).
إلا هذا الانتقال سرعان ما تبعهُ انتقال آخر إلى المذهب الظاهري، وكان آخِرَ ما استقر عليه في حياته، يقول ياقوت الحموي:” ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقّحه ونهجه وجادل عنه ووضع الكتب في بسطه وثبت عليه إلى أن مضى لسبيله، رحمه الله”(10).
وفي السياق ذاته يقول الذهبي:” إنه تفقه أولا للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتبا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه”(11).
وهذا التطور الذي عاشهُ ابن حزمٍ من المالكية إلى الشافعية فالظاهرية، هو تطورٌ يخضع لتسلسل منطقي ولتدرج معقول؛ إذ أننا إذا قارنا بين هذه المذاهب الثلاثة، لوجدنا أن الفارق بينها يكمنُ في شيئين:
1. في مدى تعليل الأحكام، والوقوف على ظواهرها.
2. في مدى الالتزام بالنصوص والعمل بها.
فالناظرُ في أصول المالكية وقواعدهم، يجد مذهبهم مذهباً مقاصديا معللا بامتياز؛ إذ إن من أصولهم المعتمدة: القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع..، فهم لا يقفون على ظواهر النصوص، فالأحكام معللةٌ عندهم. كما أنهم قد يتركون النص الحديثي ويعدلون عنهُ إلى عمل أهل المدينة كما هو معلوم.
وأما الشافعية فهم يتفقون مع المالكية في تلك الأصول – عدا تقديم عمل أهل المدينة على الخبر الآحاد- لكن بدرجة أقل من الناحية العملية، أما من الناحية النظرية، فهم يبطلون الاستحسان، والمصالح المرسلة ولا يرون بسد الذرائع، وفي المقابل يقبلون الحديث المرسل، فهم من هذا الوجه أشد تمسكاً بالأثر والخبر من المالكية.
وأما الظاهريةُ فهم يرفضونَ ويبطلونَ جميع ما تقدم، فهم يتسمكون بالنصوص وحدها ويعظمونها ويقدسونها.
وهكذا، انتقل ابن حزم بين هذه المذاهب الثلاثة، باحثاً عن أكثرها تعظيماً لنصوص القرآن والسنة، وعن أبعدها اجتناباً للعقل والرأي، فوجد ضالتهُ في المذهب الظاهري، الذي سيضطر للدفاع والجدال عنه فيما بعدُ.
المبحث الثاني: منهج ابن حزم في الجدل الفقهي.
تبنى الإمام ابن حزم رحمه الله المذهب الظاهري في بيئة عرفت مذاهب متعددة ومتنوعة، فالأندلس في وقته كانت غنية بالتنوع المذهبي والفقهي، يقول هو في ذلك:” ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الأندلس وإفريقية، وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة قائلون بالحديث أو بمذهب الظاهر أو مذهب الشافعي وهذا أمر مشاهد في كل وقت”(12).
فهذه البيئة ذات المذاهب المختلفة والاتجاهات الفكرية المتعددة، لابدَّ وأن ينتج عنها مناظرات ونقاشات فيما بين أصحابها، إلا أن بعض هذه التيارات كان يرى أنه لا مسوغ للجدل في الدين(13)؛ ولذا استهل ابن حزم مقدمة كتابه الإحكام بإثبات مشروعية الجدال، وبيان ما هو محمود منه وما هو منه مذموم(14).
ونظراً لانفرادِ ابن حزم بالمذهب الظاهري، فإن منهجه في الجدل وأسلوبه في الذب عنه سيتخذُ منحىً خاصاً، تبعاً لاختلاف المدرسة الظاهرية – في أسسها الفكرية والمنهجية في تعاملها مع نصوص الوحي- ، عن باقي المدارس المذهبية الأربعة الأخرى؛ إذ إن قواعد المذهب وأصوله يشكلان المنطلق الأساس الذي يقوم عليه الجدال، وتنبني عليه المناظرة.
وقد وضح معالم المنهج الجدلي الحزمي، أبو زهرة رحمه الله بقوله:” وابن حزم في كتاباته الإسلامية عموماً، ينهج في الاستدلال منهاج الجدل، يناقش الآراء، فيسرد أدلة الخصم دليلاً دليلاً، ثم يناقش هذه الأدلة، مبيناً بطلانها وبعدها عن الأصول في نظره، ويسرد من الحجج ما يثبت دعواه ويبطل دعواهم، ثم ينتقل إلى مرتبة ثانية من مراتب الجدل، وهي إبطال أقوال خصومه من أقوالهم، فيسلك مسلك الإلزام والإفحام، بعد أن سلك مسلك الحجة والبرهان(15).
فانطلاقاً من هذا النص، يمكنُ إجمال معالم منهج ابن حزم الجدلي في أربعة معالم:
الأول. استعراض أدلة المخالف.
أول ما يبتدئ به ابن حزم رحمه الله في أي جدل فقهي، ذكر أدلة الخصم كاملةً.
من ذلك ما فعله أثناء مناقشته لمن يحتجون بالرأي، يقول رحمه الله: ” وأما الرأي فإنهم احتجوا في تصويب القول به، بــــــــ:
1- قول الله عز وجل: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين﴾(16).
2- ﴿والذين ستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون﴾(17).
3- ومن الحديث بالأثر الصحيح في مشاورة النبي ﷺ المسلمين، فيما يعملون به لوقت الصلاة قبل نزول الأذان فقال بعضهم نار وقال بعضهم بوق وقال بعضهم ناقوس(18).
4- وبما روى عن الزهري من حديث مشاورة النبي ﷺ أصحابه في القتال يوم الحديبية، فقال الزهري: فكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاور لأصحابه من رسول الله ﷺ(19).
5- وبما رواهُ عن عبد الله بن أبي حسين قال سئل رسول الله ﷺ عن الحزم فقال: تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى ما أمرك به(20).
6- وبما رواه عن أبي عبد الله بن عمرو بن العاص بسنده، قال: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله ﷺ فقال لي يا عمرو اقض بينهما قلت أولى بذلك مني يا نبي الله، قال وإن كان قلت على ماذا أقضي قال إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة(21).
7. وبما رواه بسنده عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله ﷺ لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن، قال كيف تقضي إذا عرض لك القضاء، قال أقضي بكتاب الله عز وجل قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله ﷺ قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله ﷺ صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله(22).
8- وبما رواه بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد(23).
9. وبما رواه بسنده عن ابن غنم أن رسول الله ﷺ، قال لأبي بكر وعمر، لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشاورة أبدا(24). (25)
ثم يتابع ابن حزم سرد باقي أدلتهم، من الأثر ومن عمل الصحابة وأقوالهم إلى أن قال: هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شيئا غيره (26)، مما يعني أنه يتتبع أدلة المخالف، ويأتي بها كاملةً.
الثاني: مناقشة أدلة المخالف.
بعدما يستعرض ابن حزم أدلة المخالف له، يشرع بعد ذلك في مناقشتها ونقدها ونقضها، فيقول عن الأدلة السابقة: وكل ذلك لا حجة لهم في شيء منه.
– فيجيب عن آيتي الشورى بأن “ذلك ليس من شرع الدين، ولو أن أحدا يقول
إن الصلاة فرضت برأي ومشورة أو قال ذلك في الصيام أو الحج، أو في شيء من الدين، لكان كاذبا آفكا كافرا”(27).
– ثم ينتقد الأحاديثَ التي أوردوها، إما:
أ- ببيان عدم فهمهم لها، كما في حديث مشاورة الأذان، من أن ذلك كان مباحاً في بادئ الأمر؛ لأنه لم ينزل في شيء منه إيجاب ولا تحريم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ في ذلك بشيء من آراء الصحابة،بل أخذ بما صوبه الوحي مما أريه في منامه عبد الله بن زيد.
وكما في حديث عمرو بن العاص، إذ المقصود منه في نظر ابن حزم، أن الحاكم المجتهد قد يخطىء وقد يصيب، فإذا كان كذلك، فحرام الحكم في الدين بالخطأ، وما أحل الله تعالى قط إمضاء الخطأ، فيبطل تعلقهم به(28).
ب- وإما بانتقاد سندها أو متنها، كما فعل مع بقية الأحاديث:
– فحديث الزهري عن أبي هريرة مرسل، لأنه لم يلقه.
– وأما الخبر الذي فيه ما الحزم ؟ فمرسل من حيث السند، وباطلٌ من جهة المتن، لأنه قد يختلف عليك الرجلان ذوا الرأي فلأيهما تمضي ؟!
– وأما حديث علي فهو موضوع مكذوب.
– وحديث ابن غنم: فيه ثلاث بلايا: إحداها أنه مرسل، والثانية عبد الحميد بن بهرام وهو ضعيف، والثالثة شهر بن حوشب وهو متروك، ثم على سبيل الإفحام يقول: ولو صح، فإنه لاحجة لهم فيه، لأنه ليس فيه إلا قبول رأي أبي بكر وعمر، فقط لا قبول رأي غيرهما وهذا خلاف عملهم !
– وأما حديث معاذ المشهور، ففي نظره أنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، إذ فيه مجاهيل، وعلى فرض أنه صحيح، لكان معنى قوله أجتهد رأيي، أستنفذ جهدي حتى أرى الحق في القرآن والسنة، ولا أزال أطلب ذلك أبدا، إلى آخر ما ذكره من مناقشتهم(29).
وهكذا يتضح أن ابن حزم رحمه الله، كان يناقش أدلة المخالفين دليلاً دليلاً، ويجيب عنها ويعترض عليها بأكثر من اعتراض، مفنداً إياها، سواءٌ من جهة دلالاتها، أو من جهة ثبوتها.
والملاحظ هنا، أنه ذكر أدلة الخصوم كلها، ثم بادر بعد ذلك إلى نقدها، وقد يتخذ منحى آخر في جداله، بحيث يذكر دليل الخصم، وينقضه، ثم دليله الثاني وينقضه، ثم الثالث وهكذا كما فعل في إثبات مشروعية الجدال(30).
الثالث: إثبات رأيه بالأدلة.
لما انتهى ابن حزم من مناقشة أدلة المخالفين، وبيّن فسادها وبطلانها، يسوق لنا مجموعة من الأدلة الدالة المتنوعة على ذم الرأي، لكي يثبت دعواه ويؤكدها، منها:
– قوله تعالى:﴿مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء﴾(31).
– وقوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾(32).
– قوله ﷺ “من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار”(33).
– وقوله ﷺ “لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بموت العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فقالوا بالرأي”(34).(35)
فظاهر هذه الأدلة في نظر ابن حزم، يدل دلالةً قويةً على ذم الرأي والنهي عنه.
الرابع: إفحام الخصم، وإلزامهُ بأدلته.
بعدما أثبت ابن حزم وجهة نظره في أن إعمال الرأي ممنوع في الشريعة، عن طريق الأدلة التي استعرضها، ينتقل بعد ذلك إلى إفحام الخصوم بإظهار تناقضهم، وإلى إلزامهم بما هو مسَلّمٌ عندهم، وبما يحتجون به.
– فمثلاً، يبرز ابن حزم تناقض الجمهور، في كونهم يحتجون بخبر عمر رضي الله عنه فيما بعثه إلى القاضي شريح(36)، إلا أنهم يعملون بخلافه، في ذلك يقول ابن حزم:
– “وأما الرواية عن عمر، فإن فيها نصا تخييره بين اجتهد رأيه أو الترك ورأى الترك خيرا له، فصح أنه لم ير القول بالرأي حقا لأن الحق لا خيار في تركه لأحد.
– ثم هم مخالفون لما فيه أيضا مما ذكرنا من أنهم لا يبدؤون بالطلب في القرآن كما في ذلك الخبر ثم بالسنن بل يتركون القرآن لما يصح من السنن ولما لا يصح وهذا خلاف أمر عمر في ذلك الخبر فكيف يحتجون بشيء هم أول مخالف له “(37).
كما يستدل ابن حزم عليهم بمجموعة من أقوال الصحابة التي يحتجون بها ويعتمدون عليها إفحاما لهم ومبالغةً في دحض دعواهم، منها:
– قول أبي بكر : “أية أرض تقلني وأي سماء تظلني، إن قلت في كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم”(38).
– وقول عمر ، “يا أيها الناس إنما الرأي إنما كان من رسول الله مصيبا؛ لأن الله عز وجل كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف”(39).
– وقوله أيضاً: “اتقوا الرأي في دينكم”(40). إلى آخر ما ذكره ابن حزم من أقوال الصحابة التي تلزم – في نظره- المخالفين(41)، يقول رحمه الله:”ولسنا نوردها احتجاجا بها، إذ لا حجة في أحد إلا في رسول الله ﷺأو في إجماع متيقن لا خلاف فيه، وإنما نوردها لتلزمهم ما أرادوا إلزامنا، وهو لازم لهم لأنهم يحتجون بمثله، ومن جعل شيئا ما حجة في مكان ما، لزمه أن يجعله حجة في كل مكان، وإلا فهو متناقض متحكم في الدين بلا دليل !!” (42).
هذا هو منهج ابن حزم في الجدل الفقهي بشكل عام، لا يكاد يخرج عن هذه المعالم الأربعة.
خاتمة:
من خلال هذا البحث الموجز، يمكن التوصل إلى النتائج الآتية:
1. التنوع الفكري في الأندلس كان السبب الرئيس في تكوين الشخصية الجدلية لابن حزم.
2. اختيار ابن حزم للمذهب الظاهري لم يكن اعتباطاً، وإنما اختاره لتوافقه مع ميوله وفكره.
3. يتسم جدال ابن حزم بالموضوعية وبالإنصاف العلمي، إذ إنه يأتي بأدلة الخصم كاملة.
4. نقد ابن حزم لأدلة المخالف يتنوع ما بين نقد الثبوت ونقد الدلالة.
5. ينتقل ابن حزم في جداله من مرحلة التفنيد والإثبات إلى مرحلة الإلزام والإفحام.
6. يقوم جدال ابن حزم على نسق منهجي متكامل.
7. تعصبُ ابن حزمٍ لرأيه قد يؤدي به إلى سبّ المخالف وشتمه، بل وتفسيقه وتكفيره أيضا.
الاحالات والهوامش:
(1) انظر: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، 1/308، للحميدي (ط: الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة، 1966م)، والصلة في تاريخ أئمة الأندلس، لابن بشكوال، 1/395، (تحقيق: السيد عزت العطار الحسيني، ط: مكتبة الخانجي، ط2، 1374 هـ 1955م)، وبغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، للضبي، 1/415، (ط: دار الكاتب العربي القاهرة،1967م).
(2) كل هذه الكتب مطبوعة ومتداولة.
(3) الصلة، لابن بشكوال، 1/395، ووفيات الأعيان، لابن خلكان، 3/326. (تحقيق: إحسان عباس
ط: دار صادر، بيروت، ط 1، 1994م).
(4) جذوة المقتبس، للحميدي، 1/309.
(5) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 18/190. (تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ – 1985 م).
(6) معجم الأدباء، لياقوت الحموي، 4/1650، (تحقيق: إحسان عباس، ط، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1414 هـ – 1993م).
(7) معجم الأدباء، لياقوت الحموي، 4/1652-1653، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 18/199.
(8) انظر: معجم الأدباء، 4/1655، وسير أعلام النبلاء، 18/186، ولسان الميزان، لابن حجر، 5/488. (تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط: دار البشائر الإسلامية، ط2، 2002م)
(9) ابن حزم، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، لأبي زهرة، ص:35. (ط: دار الفكر العربي).
(10) معجم الأدباء، 4/1655.
(11) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 18/186.
(12) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، 4/183. ( تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، ط: دار الآفاق الجديدة، بيروت)
(13) انظر: ابن حزم، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، ص: 179.
(14) انظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، 1/19، وما بعدها.
(15) انظر: ابن حزم، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، ص: 179.
(16) [سورة آل عمران: 159]
(17) [سورة الشورى: 38]
(18) أخرجه البخاري، في كتاب الأذان، باب بدء الآذان، رقم: 604، (تحقيق: محمد زهير بن ناصر، ط: دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب بدء الأذان، رقم: 377. (تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط، دار إحياء التراث العربي، بيروت).
(19) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، باب حديث المسور بن مخرمة الزهري، رقم: 18928، (تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ – 2001 م)، والترمذي في سننه، باب ما جاء في المشورة، رقم: 1714. (تحقيق: أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي، ط: مكتبة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط2، 1395 هـ – 1975م)، وحكم عليه الألباني بالضعف. انظر: ضعيف سنن الترمذي، 1/196، (ط: المكتب الاسلامي، بيروت، ط1، 1411 هـ – 1991م)
(20) أخرجه ابن وهب في الجامع، رقم: 278، (تحقيق: مصطفى حسن حسين ، ط: دار ابن الجوزي، الرياض، ط1، 1416 هـ – 1995م)، وضعفه الشيخ الألباني، انظر: السلسلة الضعيفة، 10/446. (ط: دار المعارف، الرياض، ط1، 1412 هـ – 1992م)
(21) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، باب بقية حديث عمرو بن العاص، رقم: 17824. قال المحقق: إسناده ضعيف جدا. نفسه، 29/357.
(22) أخرجه الإمام أحمد، في مسنده، رقم: ،22061 وغيره. وقد اختلف الناس في الحكم على هذا الحديث اختلافا شديداً، ينظر ذلك في عارضة الأحوذي، لابن العربي، 1/175-176، (ط: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، بدون تاريخ).
(23) أخرجه ابن عبد البر، في جامع بيان العلم وفضله، 2/852. (تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، ط: دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1414 هـ – 1994م). قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد، ولا أصل له في حديث مالك عندهم والله أعلم ولا في حديث غيره. المصدر نفسه، 2/853.
(24) فتح الباري، لابن حجر، وقال: إسناده لابأس به. 13/341. (تحقيق: محب الدين الخطيب، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار المعرفة، بيروت، 1379م)
(25) انظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، 6/25-27، باختصار، والنبذة الكافية، له أيضاً، 1/60. (تحقيق: محمد أحمد عبد العزيز، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405)
(26)الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، 6/30.
(27) المصدر نفسه، 6/30، باختصار.
(28) المصدر نفسه، 6/32، بتصرف.
(29) المصدر نفسه، 6/32-37، بتصرف واختصار.
(30) انظر: الإحكام، لابن حزم، 1/19، وما بعدها.
(31) [سورة الأنعام: 38]
(32) [سورة النساء: 59]
(33) أخرجه الترمذي في سننه، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، رقم: 2952، وقال: حديث غريب. 5/200. والنسائي في السنن، باب من قال في القرآن بغير علم، رقم: 8031، (تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط: مكتب المطبوعات الإسلامية حلب، الطبعة: الثانية، 1406 ه– 1986م) وغيرهما، وفي مسند الإمام أحمد بلفظ:” بغير علم”، رقم: 2069، 3/496. وضعفه الشيخ الألباني، انظر: ضعيف سنن الترمذي، 1/360.
(34) أصل الحديث في الصحيحين، بلفظ :”إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”. صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، رقم: 100، ومسلم في كتاب العلم، باب رفع العلم، رقم: 2673.
وباللفظ الذي ذكره لم أقف عليه في مصدر حديثي.
(35) انظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، 6/38-39، والنبذة الكافية، له أيضاً، 1/59.
(36) نص الخبر: أن عمر كتب إلى شريح “إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك”. انظر: أخبار القضاة، لوكيع البغدادي، 2/190، (تحقيق: عبد العزيز مصطفى المراغي، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة: الأولى، 1366هـ-1947م)، وجامع بيان أهل العلم وفضله، لابن عبد البر، 2/846 بلفظ:”اجتمع”، وفي سنن النسائي بلفظ:” بما قضى به الصالحون” 8/231.
(37) انظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، 6/40.
(38) رواه الإمام مالك في الموطأ، دون لفظ “الرأي”، باب ما يخاف من اللسان، 2/166، رقم: 2079، (تحقيق: بشار عواد معروف، ومحمود خليل، ط: مؤسسة الرسالة، 1412 ه)
(39) أخرجه أبو داود في سننه، باب قضاء القاضي إذا أخطأ، 5/439، رقم: 3586. (تحقيق: شعَيب الأرنؤوط، ط: دار الرسالة العالمية، ط1، 1430 هـ – 2009م)
(40) أخرجه البيهقي في المدخل، باب ما يذكر من ذم الرأي، 1/189، رقم: 210. (تحقيق: د. محمد الأعظمي، ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، بدون تاريخ).
(41) المصدر السابق، 6/42، وما بعدها.
(42) المصدر السابق، 6/41.
——————————
لائحة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم.
1. ابن حزم، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، لأبي زهرة، (ط: دار الفكر العربي، دون تاريخ).
2. الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، ( تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، ط: دار الآفاق الجديدة، بيروت).
3. أخبار القضاة، لوكيع البغدادي، (تحقيق: عبد العزيز مصطفى المراغي، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة: الأولى، 1366هـ-1947م).
4. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، ط: دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1414 هـ – 1994م).
5. الجامع لابن وهب، (تحقيق: مصطفى حسن حسين ، ط: دار ابن الجوزي، الرياض، ط1، 1416 هـ – 1995م).
6. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لناصر الدين الألباني، (ط: دار المعارف، الرياض، ط1، 1412 هـ – 1992م)
7. عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، لابن العربي، 1/175-176، (ط: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، بدون تاريخ).
8. جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، للحميدي، (ط: الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة، 1966م).
9. الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، لابن بشكوال، (تحقيق: السيد عزت العطار الحسيني، ط: مكتبة الخانجي، ط2، 1374 هـ 1955م).
10. بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، للضبي، (ط: دار الكاتب العربي القاهرة،1967م).
11. سنن أبي داود، (تحقيق: شعَيب الأرنؤوط، ط: دار الرسالة العالمية، ط1، 1430 هـ – 2009م).
12. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ – 1985م).
13. صحيح البخاري، (تحقيق: محمد زهير بن ناصر، ط: دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ)،
14. صحيح مسلم، (تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط، دار إحياء التراث العربي، بيروت).
15. فتح الباري، لابن حجر، (تحقيق: محب الدين الخطيب، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار المعرفة، بيروت، 1379م).
16. لسان الميزان، لابن حجر، (تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط: دار البشائر الإسلامية، ط2، 2002م).
17. المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي في المدخل، (تحقيق: د. محمد الأعظمي، ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، بدون تاريخ).
18. مسند الإمام أحمد، (تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ – 2001 م)،
19. سنن الترمذي، (تحقيق: أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي، ط: مكتبة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط2، 1395 هـ – 1975م).
20. ضعيف سنن الترمذي، لناصر الدين الألباني، (ط: المكتب الاسلامي، بيروت، ط1، 1411 هـ – 1991م).
21. معجم الأدباء، لياقوت الحموي، (تحقيق: إحسان عباس، ط، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1414 هـ – 1993م).
22. موطأ الإمام مالك، (تحقيق: بشار عواد معروف، ومحمود خليل، ط: مؤسسة الرسالة، 1412 ه).
23. النبذة الكافية، لابن حزم، (تحقيق: محمد أحمد عبد العزيز، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405)
24. سنن النسائي، (تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط: مكتب المطبوعات الإسلامية حلب، الطبعة: الثانية، 1406 ه– 1986م).
25. وفيات الأعيان، لابن خلكان، (تحقيق: إحسان عباس، ط: دار صادر، بيروت، ط 1، 1994م).
اترك رد