أبو الوليد ابن رشد الحفيد متكلما … محمد سعيد زكري

د. محمد سعيد زكري: باحث في الفلسفة – المغرب

  • بين يدي المقال:

سوف أتجه في هذه المقالة إلى الحديث عن الدور الرئيسي الذي لعبه ابن رشد الحفيد في تجديد المنظومة المعرفية لعلم الكلام، من خلال الإجابة على عن التساؤلات التالية:

كيف فهم ابن رشد علم الكلام؟ وما هي الأمور التي حددت فهمه له؟ وما هي القيمة التي رآها ابن رشد لهذا العلم ؟ وما هي الأسباب التي أدت به إلى هذا الرأي ؟ ماهو البديل الذي اقترحه ابن رشد لهذا العلم، إن صراحة أو إشارة؟ وأخيرا ماهي الأغراض التي أراد تحقيقها بذلك الاقتراح؟.

ولقد قادتني هذه التساؤلات لمناقشة الموضوع انطلاقا من :

  • منطلق الأسباب : أو تشخيص واقع بيئة المتكلمين الذي جعل ابن رشد يتحرك لإنجاز مشروعه الإصلاحي العقدي.
  • منطلق الأغراض : ومن خلاله سوف نتحدث عن الأغراض التي سيسعى ابن رشد إلى تحقيقها في مشروعه من جهة العقيدة .
  • منطلق المنهج : وعبره أيضا سوف نتحدث عن نظرة ابن رشد لعلم الكلام وتعريفه له وعن أهم قضاياه وركائزه، فضلا عن المنهج الذي اتبعه.

إذ ومن خلال هذه المحاور الثلاثة، ستبدو ملامح علم الكلام عند ابن رشد واضحة بينة.

  • منطلق الأسباب أو تشخيص واقع بيئة المتكلمين :

و الذي يظهر في نظرنا أنه لايخرج عن أربعة أسباب رئيسية هي :

أولها: غياب المقاصد الشرعية في فكر مختلف الفرق الكلامية إما لعدولهم عنها مقابل تشبتهم باعتقادات ومقاصد خاصة بهم أو لعدم فهمه المقصد الشرعي الذي يتشوف الشارع تحقيقه على أرض الواقع، يقول ابن رشد ” حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة، كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم و المال”[1] وهذا كله في نظر ابن رشد عدول عن مقصد الشارع وسببه ماعرض لهم من الضلال في فهم مقاصد الشريعة[2].

ثانيا: لجوء هذه الفرق إلى وسيلة التأويل التي استخدمتها دون قانون منضبط، بل نشرت هذه التأويلات بين عامة الناس، فكان لهذا التأويل غير المتقن أثارا سلبية على الشريعة و على الأمة الإسلامية، يقول ابن رشد ” ومن قبل التأويلات والظن بأنها مما يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا…فأوقعوا ( أي الفرق) الناس من قبل ذلك شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق”[3].

ثالثا: غياب الاجتهاد ذلك لأنه عندما تفحص ابن رشد الواقع الديني في بعده العقدي وجد أن هناك طائفه تشبه العوام من جهة و المجتهدين من جهة وهم المسمون بالمتكلمة،وهو إذ يتبع أحوال هؤلاء يجد أن الظاهر من أمرهم أن” مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون”[4]

رابعا : سعي ابن رشد القويإلى التفرقة بين الأقوال الخطابية والأقوال الجدلية والأقوال البرهانية، وسعيه للوصول إلى البرهان الذي يعد عنده أسمى صور اليقين، بل يمكن القول بأن مفتاح علم الكلام عند ابن رشد، إنما يتمثل في هذه التفرقة الجوهرية بين هذه المراتب الثلاثة( الخطابة-الجدل-البرهان)، يقول ابن رشد” الناس على ثلاثة أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا وهم الخطابيون، الذين هم الجمهور الغالب، وصنف هو من أهل التأويل الجدلي وهم المتكلمة بالطبع أو بالطبع و العادة، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع و الصناعة، أعني صناعة الحكمة.”[5]

  • منطلق الأغراض :

أما عن الأغراض التي سعى ابن رشد إلى تحقيقها في مشروعه من جهة العقيدة فهي المحافظة على وحدة الأمة في عقيدتها، وهي الفكرة التي كانت لها السيطرة المطلقة على تفكيره في كتابيه “فصل المقال” و “الكشف عن مناهج الأدلة” إذ وجدناه من البداية في فصل المقال يلتمس أوجه الاتصال بين الشريعة و الحكمة ليرفع بذلك الوهم الذي من أجله صار الناس فرقتين : الأولى انتدبت نفسها لدم الحكمة و الحكماء (الفلاسفة)، وفرقة ثانية انتدبت نفسها لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة.

فأهم مواقف ابن رشد وأكثرها أصالة عنده، هي محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة، إذ يرى ابن رشد أن ماجاء في الكتاب حق وأن الايمان به واجب، وكذلك فإن الدين يوجب النظر الفلسفي لكون الحكمة ( الفلسفة) لاتناقض الدين بل تدعمه وتفسر رموزه، يقول ابن رشد “إذا كان فعل الفلسفة ليس شيئا ّأكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع أعني من جهة ماهي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع وإما مندوب إليه.

فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بين في غير ما آية من كتاب اللهتبارك وتعالى مثل قوله( فاعتبروا ياأولي الأبصار )[6]وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معا، ومثل قوله تعالى ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض وما خلق الله من شيء)، وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات”.[7]

ومعنى هذا أن ابن رشد سعى إلى ممارسة العملية التجديدية بالطريقة التي تشغل اله، وتسعى إلى إنهاء الخصومة بين الشريعة و الحكمة، و الذي يعضد ذلك أنه ما عرضت عليه مسألة من المسائل إلا وسأل لها عن دليل من الكتاب والسنة لأنهما مصدري الشريعة و الأحكام الشرعية و الاجتهاد بصفة عامة، فإن علمه عمل به، وإن لم يعلمه جعله موضوعا للنظر العقلي والاجتهاد المقاصدي، وسؤاله عن الدليل أو النص من الكتاب و السنة لم يكن يعني عنده الوقوف عند حروفها دون النظر إلى روحها ومعانيها الخفية.

ذلك عن الأسباب و الغايات فماذا عن منطلق المنهج و الذي نروم من خلاله تحليل موقف ابن رشد النقدي بالنسبة للمتكلمين من خلال كثير من المشكلات التي بحثوا.

  • منطلق المنهج :

يرى أبو الوليد بن رشد في الكلام أنه قدرة حجاجية، تمكن صاحبها في مجال العقيدة وبواسطة الاعتبار العقلي من تحقيق أمرين متكاملين:

-الاستدلال لحكم أو مجموعة من أحكام من أحكام العقيدة في مواجهة مبطل ذلك الحكم أو تلك المجموعة من الأحكام.

-الاستدلال على حكم أو مجموعة أحكام من أحكام العقيدة في مواجهة مثبت ذلك الحكم أوتلك المجموعة من الأحكام.[8]

وقد حكم على علم الكلام الذي له هذا التعريف بأنه إما واجب أو مندوب، واحتج بدليل مؤلف من عدة مقدمات:

المقدمة الأولى :علم الكلام نظر في المصنوعات من جهة دلالتها على الصانع، ولاشك أن هذا التعريف يشترط مسبقا لزوم الاعتراف بالصانع إما في حالة النظر أو في نهايته، لأن القيود و الحيثيات معتبرة في التعريفات، وأما من لم ينظر من هذه الجهة فهو ليس متكلما وفعله النظري لايقال عنه مناظرة عقدية تحفظ الأحكام الإيمانية الحقة، التي استدل، مما يرد عليها من معارضات وممانعات.

– المقدمة الثانية : المعرفة بالصانع أمر مطلوب، إما واجب أو مندوب، وهذه المقدمة لم يصرح بها، ولكن لابد من تقديرها، ليتم له استنتاج النتيجة التي تتلخص في كون علم الكلام بأنه واجب أو مندوب.

-المقدمة الثالثة: وهي مستنبطة من كلامه وتتلخص في الآتي : كلما كانت المعرفة بالمصنوعات أدق وأعمق، كانت المعرفة بالصانع كذلك.

– المقدمة الرابعة والأخيرة :النظر في الموجودات واعتبارها من تلك الجهة مطلوب شرعا، فلايخفى أنه إنما استعمل لفظ الاعتبار، ليقرب إلى ذهن المتلقي مفهوم القياس الأصولي المعمول به في الشريعة للحكم على الأعمال الفرعية العملية، فإن القياس اعتبار، وقد اشتهر استدلال الأصوليين على حجيته بقوله تعالى ( فاعتبروا ياأولي الأبصار)، والاعتبار : انتقال من المقدمات إلى النتيجة، فلذلك استعمل ابن رشد هذه الكلمة هنا.

ولهذا العلم خصص ابن رشد كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة “، وحاول أن يقيم علم الكلام على منهج جديد عماده البراهين اليقينية المستمدة من النظر الفلسفي والتي يراها ملائمة لما جاء به الوحي، بل إنه يرى أن البراهين الفلسفية هي عين البراهين التي وردت في القرآن الكريم خاصة ما يتعلق منها بالتدليل على وجود الله تعالى، ولكن قبل أن يطرح مسائل علم الكلام على مذهبه، انتقد ابن رشد دليلين قال بهما المتكلمون ( من أمثال أبي الحسن الأشعري- الجويني –الباقلاني) للتدليل على وجود الله تعالى وهما :

دليل الحدوث : إذ أنه يؤمن بقدم العالم أي قدم المادة، وقدم لنا أدلة على وجود الله تعالى لا تتعارض مع القول بقدم العالم.

-دليل الممكن و الواجب : لأنالقول بفكرة الممكن تؤدي إلى القول بأن العلاقات غير ضرورية بين الأسباب و المسببات، في حين أن ابن رشد يقول بالضرورة أي بالتلازم بين الأسباب و مسبباتها.

وبعد أن يفرغ ابن رشد من نقض أدلة المتكلمين على هذا النحو، يعمد ّإلى وضع ضوابط جديدة لعم الكلام قوامها الحكمة و الشريعة لا الجدل السفسطائي، ويذكر أن منهجه هو المنهج الشرعي الذي يعتمد الوحي والنظر العقلي معا ، ثم يحصر قضايا علم الكلام التي ينبغي بحثها في المسائل التالية: (البرهان على وجود الله- الوحدانية- ذات الله وصفاته- التنزيه وتشمل القول في الجهة، والجسمية، والرؤية- بعث الرسل- القضاء والقدر- الجور والعدل-المعاد وأحواله)[9]،

وإذا رجعنا إلى كتابة “فصل المقال” الخاص بالمنهج في بعده العام أمكن القول بأن علم الكلام في بعده المنهجي يقوم على جملة من الركائز نجملها في :

الركيزة الأولى: أن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول ، وأن ظاهر فرض الجمهور، والمؤول فرض العلماء، وأنه لايحلللعلماء أن يفصحوا عن تأويلاتهم للجمهور، ولا أن يبثوها في الكتب المتدوالة بين أيديهم، وأن المتكلم متى غاب عن فكره هذا ظل لامحالة عن الطريق.

الركيزة الثانية: فتتجلى في استحضاره المقصد الشرعي، سواء منه ما كان مقصدا في ذاته أو ماكان وسيلة مبلغة إليه، باعتبار أن المقصد في ذاته يمثل البوصلة الهادية للعالم في كل القضايا وبخاصة منها ما كان مستعصيا، و الوسائل تمثل الطريق المعبد لتحصيله، إذ المقصد لا يتحصل على الوجه المطلوب إلا بها، وإلى ذلك أشار ابن رشد بقوله” ينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق، و العمل الحق، والعلم الحق هو معرفة الله تعالى، وسائر الموجودات على ماهي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية، والشقاء الأخروي” [10]

الركيزة الثالثة: تتمثل في حضور النقل و العقل في مشروعه الكلامي من بداية كتبه إلى نهايتها .

الركيزة الرابعة: تتجلى في ربط النص بالواقع في معادلته الكلامية حيث نجد له عينا على النص وعينا على الواقع في حركيته الفكرية.

أما الركيزة الخامسة والأخيرة : فتتجلى في الشرح والتعليل، حيث نجد ابن رشد حريصا في كل مايقدمه للمخاطب من معان شرعية أو عقلية على السير خطوة تلو خطوة إلى أن يصل إلى النهاية المرجوة، حريصا على تقديم كل فكرة مقرونة بعلتها وسببها، وحريصا في الوقت نفسه على تقريب ذلك إلى المخاطب بطرق مختلفة بضبط المفاهيم، وباستعمال المقابل ، وبضرب الأمثلة إلى غير ذلك.

  • خلاصة عامة :

وتأسيسا على كل ما سبق يتضح لنا أن ابن رشد قد لعب دورا هاما في تجديد المنظومة المعرفية لعلم الكلام، وهذا التجديد الذي حصل لعلم الكلام على يديه استدعى اصلاحات عميقة في العقل الكلامي نفسه، كما أنه كان على أكثر من مستوى ، وعلى أكثر من صعيد مما يمكن ايجازه هنا في :

  • تجدد المسائل : إن قسما من مسائل علم الكلام لم يعد له زمن ابن رشد وجود، وهذا أمر دفع ابن رشد إلى أن يحصر قضايا علم الكلام في المحاور السالفة الذكر.
  • تجدد على مستوى الهندسة المعرفية لعلم الكلام، حيث لم يعد علم الكلام في نظر ابن رشد معزولا عن غيره ، بل أوجد له ابن رشد صلة وطيدة بعلم المقاصد والأصول وحتى الفلسفة… الخ ، فصارت بذلك بنية علم الكلام هي متحولة ومعدلة .
  • تجدد على مستوى المنهج : وهو من أهم أنواع التجديد، فقد كان المنهج المتبع سلفا في علم الكلام هو المنهج الجدلي القائم على القضايا المسلمة و المشهورة لدى الطرفين، ثم حصل تطور في زمن ابن رشد تم على إثرة التزاوج بين الفلسفة و الكلام .فانفتح هذا الأخير ( أي علم الكلام ) على المنهج البرهاني اليقيني.

الهوامش:

[1] ابن رشد الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ص 100تحقيق د مصطفى حنفي إشراف د عابد الجابري ط 2 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2001

[2]: محمد سعيد زكري المناظرة الكلامية و الفلسفية عند ابن رشد الحفيد ص 301 ط1 المكتبة الرقمية وجدة المغرب 2015

[3]: ابن رشد فصل المقال فيما بين لشريعة و الحكمة من الاتصال ص ص 121-122تحقيق د محمد عبد الواحد العسري إشراف د محمد عابد الجابري ط3 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2002

[4]: محمد سعيد زكري ابن رشد و الكلامية الجديدة دراسة في المنهج الرشدي ص250 ط 1 منشورات المكتبة الورقية المغرب 2015

[5]: ابن رشد فصل المقال ص 2

[6]: سورة الحشر الآية 2

[7]: ابن رشد فصل المقال ص 2

[8]: محمد سعيد زكري المناظرة الكلامية و الفلسفية ص 252

[9]: حمادي العبيدي ابن رشد حياته مؤلفاته تأثيره منهجه في الفقه ص 126 مؤسسة المعارف بيروت 2000

[10]: ابن رشد فصل المقال ص121

6 لائحة المصادر والمراجع

  • القرأن الكريم
  • ابن رشد

الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة تحقيق د مصطفى حنفي إشراف د عابد الجابري ط 2 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2001

ابن رشد فصل المقال فيما بين لشريعة و الحكمة من الاتصال تحقيق د محمد عبد الواحد العسري إشراف د محمد عابد الجابري ط3 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2002

  • حمادي العبيدي:

ابن رشد حياته مؤلفاته تأثيره منهجه في الفقه ص 126 مؤسسة المعارف بيروت 2000

  • محمد سعيد زكري

المناظرة الكلامية و الفلسفية عند ابن رشد الحفيد ص 301 ط1 المكتبة الرقمية وجدة المغرب 2015

ابن رشد و الكلامية الجديدة دراسة في المنهج الرشدي ص250 ط 1 منشورات المكتبة الورقية المغرب 2015


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد