د. أحمد عبدالكريم شوكه الكبيسي: أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بكلية الشريعة / جامعة الشارقة
يسعى الإسلام دائمًا إلى تحقيق حياةٍ منهجية معتدلة؛ لإيجاد التوازن في حياة الإنسان الرُّوحية والمادية, وفق فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ لأنَّ الإسلام دين عقيدة ترتكز على المادة والرُّوح معًا فذلك منهج اكتملت أصوله في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم, كما رسمها القرآن الكريم ولم تحدث ظاهرة زيادة شيء جديد له من بعد، وليس فيه سرٌّ ولا نقصان ولا ما يصدم العقل أو العلم أو الفطرة. فالاعتدال مزيّة فريدة للإسلام حتى يطمع كثير من الناس أن تحقق للبشريَّة عملاً مهماً .
يقول هاملتون جب : ” أؤمن بأنَّ الإسلام لا تزال له رسالة يؤدّيها إلى الإنسانيّة جمعاء, إذ يقف وسطاً بين الشرق والغرب، وإنه أثبت أكثر ممّا أثبت أيّ نظام سواه, مقدرة على التوفيق والتأليف بين الأجناس المختلفة، فإذا لم يكن بدّ من وسيط يسوّي ما بين الشرق والغرب من نزاع وخصام, فهذا الوسيط هو الإسلام ” .([1])
والإسلام قد عنى عناية كبيرة بالترغيب في عمل الخير بشتى أنواعه فممَّا يؤكد مشروعية الأعمال الخيرية التطوعية قوله تعالى: “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ” ([2]) البقرة:١٤٨ والخيرات تشمل جميع أنواع البر والإحسان، وكذلك كل عمل يقدم لمنفعة الآخرين، بدءًا من إدخال السرور إلى نفوسهم وانتهاءً بتفريج كربهم وقضاء حوائجهم. فكما أنَّنا مطالبون بالركوع والسجود والعبادة لله وحده لا شريك له؛ فنحن مُطالَبون كذلك بفعل الخير “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” الحج:٧٧ ؛ بل مُطالبون بالمشاركة في فعل الخير، يقول جلَّ وعلا : ” وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” المائدة:٢ ومطالبون أيضًا بدعوة الآخرين وتشجيعهم على فعل الخير، قال جلَّ وعلا: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” آل عمران:١٠٤ ” يأْمر الله المؤمنين – بعد استكمال إيمانهم في أَنفسهم – أَن يمتد خيرهم، ويتجاوز برّهم إلى غيرهم “.([3])
ثمَّ إنَّ العمل الخيري التطوعي المنظَّم والذي تقوم به المؤسسات والجمعيات الخيرية الوطنية له أهمية كبرى خاصة في هذا العصر، إذ تعد الأعمال التطوعية الخيرية من أهمِّ العوامل التي تهتم بها الدول؛ لأنَّ تلك الجمعيات والمؤسسات الخيرية تنظم تلك الأعمال، وتسهل تطويرها، واستمرارها، وحمايتها من الانحراف أو الاستغلال، في عصرٍ قلَّ فيه أثر الاجتهادات الفردية، وحل محلها العمل الجماعي المنظَّم، ممَّا يُهيئ فرصًا واسعة لترشيد أعمال الخير وحمايتها، لاسيِّما وأنَّها تتمتع بالثقة والنَّزاهة والسُّمعة الحسنة حيث إنَّ القائمين على هذه الجمعيات والمؤسسات الخيرية يتمّ اختيارهم بعناية فائقة، جعلتهم محل ثقة .
والمتابع لمناشط الجمعيات والمؤسسات الخيرية الوطنية يدرك الدور الكبير الذي تقدِّمه هذه الجمعيات في تخفيف المعاناة عن المحتاجين والفقراء والمساكين – الذين هم عرضة للمتطرِّفين والمنحرفين- في كثير من دول العالم .
وما وصل إليه العمل الخيري التطوعي من تطور، تحقيقًا لمبدأ التكافل الاجتماعي وخدمة للمجتمع، فلا شكَّ أنَّه ستنتج حالة إيجابية اجتماعية تدعو إلى التعاون والتآلف والتآزر تُسهم في تحقيق الأمن والاستقرار لأبناء المجتمع. لا سيما وأنَّ العمل التطوعي يلعب دورًا مركزيًّا في بناء مجتمع متماسك ومترابط. ينطوي على المشاركة الشعبيَّة العريضة لأفراد المجتمع، ويقدم شبكة من العلاقات الاجتماعية تربط الأفراد بمجتمعاتهم المحليَّة يمثل رابط حيوي وضروري لبناء مجتمعات ديمقراطية سليمة آمنة معتدلة قادرة على البقاء والاستمرار.
وبالتالي ندرك أنَّ العمل الخيري التطوعي أساسٌ في سدِّ حاجة المحتاجين، وجوعة الجائعين، وعلاج المرضى، التي ربما أدت هذه الأمور إلى الغلو والتطرف بسبب العوز والحاجة والانتقام.
إنَّ ظاهرة العوز أو الفقر واحدة من أهمِّ المعضلات التي واجهتها المجتمعات منذ أقدم العصور، ويمكن التأكد أنَّ الفقر بمفهومه النّسبي الذي يرتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد وهو ظاهرة خطرة على([4]) :
1) العقيدة: فالعوز والفقر قد يكون مدعاة للتشكك في حكمة التنظيم الإلهي للكون والارتياب في عدالة التوزيع الإلهي للرزق وقد يؤدي لنظرة جبرية تدعوا لقبول الواقع وعدم العمل والكدح والسَّعي للرزق.
2) خطرٌ على الأخلاق والسلوك: فقد يدفع البؤس والحرمان الذي يعيشه الفقير خاصة إذا كان إلى جواره مترفون قد يدفعه لسلوك غير سوي وتشكيك منه بالقيم الأخلاقية والنظام العام للمجتمع.
3) خطر الفقر على الفكر الإنساني: فأثر الفقر يمتد للجانب الفكري كما هو في الجانب الروحي والأخلاقي للإنسان لذا روي عن بعض كبار أئمَّة الفقه الإسلامي قوله: ” لا تستشر من ليس في بيته دقيق لأنَّه مشتت الفكر ومشغول البال فلا يكون حكمه سديدًا ” .([5])
حينئذٍ سيودي الفقر – أحيانًا- بصاحبه إلى الانحراف والعنف الاجتماعي والغلو، بل قد يتعدَّى خطره إلى قتل النَّفس التي حرَّم الله بسبب الفقر وهي حقيقة قرآنية ذكرها تعالى بقوله: “وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” الأنعام: ١٥١ ، “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا” الإسراء: ٣١ وفي بعض الصحف تظهر أخبار تشير لبيع بعض الأسر لأولادها بسبب ضيق الحال أو انتحار الأب أو الأم مع الأولاد بسبب الفقر.
إنَّ التطرُّف يؤثر بصاحبه سلبًا بعدم الاعتراف بالمجتمع والانحراف والتمركز حول الذات، ويصل إلى فرض الأفكار الخاصة على الآخرين وإقصائهم وربما تتطرف الأفكار، فتتحول إلى ممارسة العنف تجاه الآخرين وإرهابهم والتضحية بهم في سبيل تحقيق أهدافهم، ما يؤدي إلى القطيعة مع المجتمع.
وهذا ما يُهدِّد الأمن الاجتماعي ويُقوِّض أركانه، الأمر الذي سيؤدي للفوضى والتطرّف والانحراف والاضطراب والخوف على النَّفس والمال في المجتمع. فالفترة الرَّاهنة تتطلب العمل في إطار ترابط الشأن الاجتماعي والثقافي لتحقيق تنمية شاملة للنُّهوض بالمجتمعات، وتكثيف العمل الخيري التطوعي بما يُلبي احتياجاتهم وتطلعاتهم من أجل بث روح الوسطية أو الاعتدال والعدالة الاجتماعية.
في حين لابدَّ من تفعيل العمل الخيري التطوعي الذي يُشكِّلُ عنصرًا فعَّالاً من عناصر تكوين المجتمع وأحد الأدوات الأساسية لترتيب علاقاته البينية بين أفراده باعتباره حالة إيجابية تحدث التوازن بين أطراف المجتمع وهو ناشئ من إرادة طوعية لحاجات لمسها أفراد المجتمع ممَّا يُحدث توازنًا وانعكاسًا تفاعليًا بين جميع الأطراف.
إنَّ التوعية بأهمية العمل الخيري التطوعي يعود على أفراد المجتمع كلهم إذ يزيدُ أواصر الأخوة والمحبة بينهم، ويُخفض مستوى الفراغ لدى الشباب، وإبعادهم عن شبح ومساوئ الفراغ فيُقلل من مستوى الانحراف والتطرف ويجعل الدولة في مصاف البلدان المتقدِّمة التي تثمِّن العمل التطوعي وتربطه بالتنمية الاجتماعية. لذا من الضروري علينا جميعًا دعم المحتاجين وإشراكهم في صلب العمل التنموي والحوار ووضع آليه لتمكينهم من المشاركة الاقتصادية والاجتماعية التي تسهل انخراطهم في المجتمع، فضلاً عن ضرورة إدراك احتياجاتهم وتفعيل دورهم في عملية التنمية، وبناء آليات تمكنهم من اتخاذ القرارات التي تهمّ مستقبلهم.
الهوامش:
[1]– ينظر: عالمية الإسلام : 37 .
[2]– ” أَي فليسبق كل منكم غيره إلى فعل الخيرات. وهي تتجلى – في أسمى معانيها – في شريعة الإِسلام التي جاء بها القرآن. (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا): أي إلى الله – لا إِلى غيره- مصيركم ومعادكم أَيها الناس “. التفسير الوسيط للقرآن الكريم: 2/1087.
[3]– التفسير الوسيط للقرآن الكريم: 2/1087 .
[4]– ينظر: الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي: ص45 ؛ الآثار المترتبة على عدم إشباع الحاجات الأساسية الإنسانية: ص1-3 .
[5]– الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي: ص45.
اترك رد