بين الغزالي وديكارت: وحدة المنطلق والمنهج والنتيجة

د. مولاي عمر صوصي: دكتوراه بكلية الشريعة – جامعة القرويين فاس

يعيش معظم الناس اليوم، بل وفي كل عصر، في تسليم لما تقتضيه معتقداتهم الجمعية، وفي إذعان لما وجدوا عليه آباءهم، لا يميزون فيها بين الحقيقة والوهم ولا بين الغثاء والنافع.
ولما كان للحقيقة سحرا فقد انجذب لحبها ذوو العقول الثاقبة وانصهر عشقا في هيامها كل ذي نهية ولب، تاركين وراء ظهورهم إرث الآباء وتقاليد الأسلاف حتى وإن كان ذلك تحت طائلة التهديد والعقاب. نمثل بالفيلسوف سبينوزا الذي ترك دينه اليهودي طلبا للحقيقة التي غازلها بقوله: “الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته”.
وكتشبيه للمختلط من الأفكار والمعتقدات والأحاسيس نذكر المثال الآتي: مثل الذي يعرف الإيمان نظريا ولـمّـا تخالط بشاشته شغاف قلبه كمثل الغني يسمع عن الجوع ولم يطعمه: أنّى للمشبَّه أن يتلذذ بالأنس بالله تعالى، وأنّى للمشبه به أن يحس بآلام الجوعى.
لكن السؤال هو: من أين نبدأ وبأي منهج نهتدي؟
نحاول الاقتصار على نموذجين من بيئتين مختلفتين لكن يجمعهما نفس الهم ويسكنهما نفس الهاجس: طرد الأوهام وعشق الحقائق، إنهما حجة الإسلام الغزالي، وأبو الفلسفة الحديثة ديكارت.
1-المنطلق:
يقول الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال): “وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد.”
ويقول ديكارت:” كنت قد انتبهت، منذ سنواتي الأولى، إلى أني قد تقبلت كمية من الآراء الخاطئة على أنها آراء حقيقية وصادقة، وإلى أن ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكدة، لا يمكن أن يكون إلا أمورا مشكوكا فيها وغير مؤكدة، وذلك بحيث كان علي أن أقوم مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيء من جديد ابتداء من الأسس، وذلك إذا ما كنت أريد أن أقيم قدرا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم.”
2-المنهج:
عن الغزالي: ما دامت الحواس تخدعنا فتلتبس علينا الأمور، فلا خلاص إلا بالاستقلال والشك بالموروث، ويعبر عن ذلك في قوله: “الشك أول مراتب اليقين” وتأكيدا أضاف: ” إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال”.
عن ديكارت: يقول في كتابه (مقال عن المنهج): “لا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك”. وهكذا شك في كل شيء إلا في الشك نفسه فقال:
“أنا أفكر، إذاً، فأنا موجود”. ويزيدها إيضاحا بهذه الصيغة الفلسفية:” ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه، بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن من يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذا فأنا موجود، صحيحة.
وقد عثرت على مقالة للفخر الرازي شبيهة بهذه القولة حيث قال في كتابه (أساس التقديس في علم الكلام): ” الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية، في استخراج مسألة معضلة قد يقول في نفسه: إني قد حكمت بكذا (أو عقلت كذا) فحال ما يقول في نفسه: إني (عقلت كذا): يكون عارفاً بنفسه. إذ لو لم يكن عارفاً بنفسه، لامتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم بكذا، أو عرف كذا.”
3-النتيجة:
في رحلة بحثهما عن الحقيقة كابد الرجلان مختلف ألوان المشاق، وكلفهما ذلك التهام كتب السابقين وتمحيص أفكارهم، ونغص عليهما لذيذ طعم النوم وسائر الشهوات لأنهما أدركا منذ البداية أن مهر الحقيقة غال لا يقدر على إصداقه إلا الفرسان النبلاء. فكانت النتيجة –أقصرها على المستوى العقدي تاركا غيرها لأهل التخصصات الأخرى- كالآتي:
عن الغزالي: «الكشف نور يقذفه الله في القلب وهو مفتاح أكثر العلوم ومن أنكره فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة».
عن ديكارت: “إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخيِّر لدرجة لا حدود لها.”
وإذا كان بين العلميْن تشابه كبير في الجملة فقد عزاه بعضهم لاستفادة اللاحق من السابق مثل الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك حيث أنه عثر على نسخة من كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، مترجمة إلى اللاتينية، في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة “الشك أولى مراتب اليقين”، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة “تُنقل إلى منهجنا”. ذلك رغم أن ديكارت لم يُشر إلى الغزالي في أي من مؤلفاته.”
قلتُ: وهذا لا يفسد للود قضية ولا يغض من قيمة الرجال ولا يحط من فخامتهم وعلو كعبهم في تخصصاتهم وفيه “تكامل للعلوم” -كما نافح عنه طه عبد الرحمن- وتراكم للأفكار مع تعاقب الأجيال لأن “العلم واحد في ذاته” كما أشار ابن خلدون في المقدمة، كما يحتمل ألا يكون بينهما أي استفادة إلا الهم الإنساني المشترك في البحث عن الحق والصواب أنى وُجد لأن الإنسانية واحدة في ذاتها.
وعطفا عليه، إن بينهما فروقا في التفاصيل والتضاعيف نذكر بعضها:
-1 سبب الشك عامة عند الغزالي هو أنه قرر أن يتقصى الحقيقة بنفسه ويتوصل إلى اليقين ليصبح إيمانه قائماً على الاقتناع العقلي وليس قائماً على الوراثة أما سبب الشك عامة عند ديكارت فهو فحص المعرفة واستبعاد الأفكار الخاطئة من العقل وتأسيس اليقين على أسس واضحة لامجال للشك فيها بعد ذلك .
-2سبب الشك في العقل عند الغزالي هو أنه ربما تظهر في المستقبل قوة أكبر من العقل تثبت خطأ أحكام العقل أما سبب الشك في العقل عند ديكارت فهو وجود شيطان ماكر منذ وجوده ظل يخدعه ويصور له الوهم على أنه حقيقة لذلك قد تكون الأحكام العقلية خاطئة بسبب هذا الشيطان الماكر .
3- وسيلة اليقين عند الغزالي هي الحدس القلبي أما وسيلة اليقين عند ديكارت فهذي الحدس العقلي المباشر .
4- توصل الغزالي إلى يقين إثبات الله أولاً ثم وجود النفس ثم وجود العالم الخارجي بينما توصل ديكارت إلى يقين وجود النفس أولاً ثم وجود الله ثم وجود العالم الخارجي .
وفي الختام يطيب لي أن أؤكد تكامل العلوم وتراكم المعارف بالقولة المشهورة: “غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون”، وفي قوة الحقيقة وبلوجها بقوله تعالى: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ [الرعد:17] لأدعو المترشحين للكتابة والتصنيف لمواصلة العطاء والإنتاج قصد تنوير الرأي وترشيد السلوك الإنساني وقهر الظلام.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد