اللغة وسبب الانغلاق السلبي داخل المجتمعات العربيّة

د. رمزي بن دبكة: باحث جزائري مقيم في ماليزيا

لغةُ التواصل أصل وظيفتها البناءُ والتشييد. فالبناء مُنسجمٌ مع بيئةٍ ثقافيةٍ يخدمها ويُخرجها من الانغلاق السلبي إلى الانفتاح الهادف. نقصد بالانغلاق السلبي ذلك التقوقع على الذّات بما فيها من مكوّنات ضعيفة لم يستطع الأفراد تطويرها أو استحضارها فعليّاً. فهي –أي المكوّنات- إمّا في عالم التجريد أو في مخيّلة النخبة فقط. ولكنّ الخطر يكمن في أنّ الانغلاق على الذات مملوءٌ بالفراغات الثقافية، المجتمعيّة والعلمية. وهكذا يسهل الإختراق والتغلغل الخارجي اللغوي المحمّل بمكوّناتٍ ثقافيةٍ جديدة قد تُهدّم التصورات المتبقية داخل تلك البيئة المنغلقة السلبية.
إنّ السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن الآن، هل هناك شيءٌ قد يسمّى بالانغلاق الإيجابي مادام هناك الحديث عن السلبي؟ نقول بأنّ الانغلاق الإيجابي هو حفاظ على موجودٍ غنيّ وثري مع إشباعه بعوامل أخرى خارجيّة ولكن لا تتفاعل تلك المكنونات إلاّ مع وجود حافز حتّى تنبثق منع تصورات في إنشاء دولة متحظّرة أو مشروع مفيد للشعب وللأمّة. أمّا الانغلاق السلبي فلا يحرّكه الحافز لأنّه فارغ من التصورات المطلوبة ومستهلكٌ فقط لبعض المعاني الفارغة بدورها من محتواها كمسألة الهوية، أو البعيدة عن تطبيقها الفعلي كالدّين.
لقد أسهمت النخبة القوميّة في ترسيخ هذا الانغلاق السلبي من خلال التعامل الأفقي مع اللغة العربية. إذ إنّ الأفكار المطروحة غالباً ما تكون متداولةً بين نفس الإنتماءات النخبويّة ومن دون أن تصبح هذه الأفكار مشاريع يتبنّاها المجتمع ويتعامل معها على أنّها نتاج للتفكير بتلك اللغة.
إنّ اتهام المجتمع بالقصور هو أسهل طريق لرفع المسؤوليّة عن النخبة. فالنخبة جرّبت وتكلّمت ولم يصغي إليها أحد على حدّ قولها وتبريراتها. إنّ هذا ما أحسبه رأس المشكلة وسبب تأزّم التفكير عند النخب العربية. فالعوام هم عوام لأنّ فهمهم للأفكار متفاوتٌ ومحدودٌ بحسب درجة ومستوى التعليم والفهم. ومنه فإنّ اتهامهم بعدم الفهم هو إخبار بمعلوم لم يأتي صاحبه بجديد. ولكن كان من المفترض أن ترتقي الأفكار إلى درجة مشاريع قابلة للتطبيق وتستحق السير خلفها لأنّ العموم حيناها هو فهم الأدوار والواجبات في ذلكم المشروع وهذا مايحسنه المجتمع ، أي القيام بالأدوار الواضحة داخل المشروع. وليس بأن نطرح الأفكار المجرّدة على المجتمع وعلى الدولة ثمّ نطلب من الجميع الالتزام بها من باب كونها حلول للأزمات وإنّما أعتبرها –أي الأفكار- هي أزمة بحدّ ذاتها لأنّها تبعث على التراكمية المفرطة عند النخبة.
إنّ الإساءة الحقيقية واقعة بسبب رفع اللغة العربيّة عن القضايا المجتمعيّة والوطنيّة وجعلها أسيرة في يد نخبة ثقافية لا تُحسن الخروج بهذه اللغة إلى مجتمعها وتحسب أنّها تقدّمية وفي رُقي وشعبها غارقٌ في الانحطاط والتخلّف. وما هي في الحقيقة إلاّ تخلّف للنخبة التي لم تستطع الارتقاء إلى درجة العمل. لقد أصبحت اللغة رمز صراعٍ بين المثقفين لعقود طويلة، وصارت اللغة العربية هي لغة استهلاك ثقافي مُتخم وسياسي بارد. أمّا حقيقتها كأداة للتواصل فإنّها استبدلت بتصورات بسيطة ومركبة وواردة من خارج البيئة العربية الإسلامية.
إنّ النخبة لم ترتقي إلى درجة الإرتباط اللاّزم بمشاريع مجتمعيّة خادمة بقدر ارتباطها بلغة أفقيّة تصارعيّة قاتمة. فمن أصبح يهتمّ بالكتابات الأدبيّة والمقالات والروايات في العالم العربي؟ اللهم إلاّ رواياتٍ تُقرّب بعض الواقع المعاش وتعبّر عن مكبوتات الشباب والمراهقين في صورة لا تعكس حقيقة لغة التحضّر بقدر ما تعكس الاستهلاك الفاسد والمؤزّم لها. بل ومن يستطيع الآن من أفراد المجتمع العادي تسمية خمسة كتّاب أو أدباء قرأ لهم ولو كتاباً واحداً؟
فالمعضلة ليست في اللغة العربيّة بل في النخبة التي تستخدمها ولم ترتقي بها إلى درجة المجتمعيّة. أقول درجة المجتمعيّة هي أرقى من النخبة لأنّها شاملة لها أوّلاً، ولأنّ اللغة العربية هي مجرّد أفكار عندهم ثانياً. ومنه فإنّ وصول تلك الأفكار إلى المجتمع وجب أن يكون في صورة مشاريع خادمة وهادفة. فالفكرة هي أساس المشاريع، ولكنّ المشاريع هي مرحلة أرقى من الفكرة لأنّها تطبيق لها وفتح لأفق أفكارٍ غيرها من خلال عمليّة النّقد والتطوير. وفوق الفكرة والمشروع تقبع اللغة التي هي منطلقُ كلّ شيءٍ داخل المجتمع. فهي تواصلٌ منشىء للفكرة، كما أنّها أسلوبٌ للتعبير عن المشروع المجتمعي وما يتبعهُ من خطواتٍ أخرى.
لعلّ من أبرز الحلولِ لمسألة الانغلاق هو العمل على الانفتاح اللغوي الهادف. ونقصد به تطوير استعمالات اللغة العربية لتشمل المجالات التي بقيت بعيدة عن الرؤية وبعيدة عن المجال المغلق. ولكن هذا الاستعمال وجب أن يكون على صلة بالبيئة المجتمعية المستهدفة ومستوفياً للمكوّنات المجتمعيّة وخادماً لها. وما اعتقاد بعضهم بأنّ اللغة العربية هي لغة شعر وقراءة القرآن فقط إلاّ بسبب ذلك الانغلاق الذي دخلت فيه اللغة وانحصارها في نخبتها. فالاعتقاد والإيمان بأنّها لغة شعر وقرآن لا يختلف عن إعتقاد العجم من المسلمين المتمسكين بلغتهم الأم والمستعملين للعربية في المسائل التعبّدية فقط. وهذا التشابه بين العرب والعجم في استعمال اللغة لهو دليل على الضعف الكامن في التواصل داخل البيئة العربية الواحدة ممّا نتج عنه المحدودية والقصور.
والخلاصةُ هي أنّه كما وجب للعلم أن يتبعه العمل، فإنّ الفكرة وجب أن يتبعها مشروع يستفيد منه المجتمع. العمل هو ثمرة العلم وهدفها، والمشروعُ هو خلاصةُ الفكرة وتطبيقها. وأحد أهمّ عوامل قلّة احترام اللغة العربية في مجتمعاتنا هو غياب خلاصة أفكار النخبة عن التطبيق، واستصعابها في حالة العلم الذي لا يُعمل به. ومنه فإنّ المشكلة ليست في اللغة العربيّة المتعامل بها بقدر ما هي مشكلة غياب إعمال ما يُتوصّل إليه من خلال التفكير بها.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ حبيب
    حبيب

    بارك الله فيك أستاذنا الفاضل

  2. الصورة الرمزية لـ حبيب
    حبيب

    بارك الله فيك أستاذنا الفاضل

  3. الصورة الرمزية لـ د.بلحيارة
    د.بلحيارة

    شكرا استاذي الفاضل على هذا الطرح.فلا بد من وجود حلول لأعماله في المجتمع العربي للخروج من الهوة التي صنعها المثقف بينه وبين مجتمعه،وبالتالي غياب دوره كمسؤول اول عن اعطاء العربية دورها الحقيقي في التواصل والتغيير وبناء الانسان حضاريا.نحتاج الى مشاريع حضارية،فكرية تناسب البيئة الاسلامية والعربية وترقى بالانسانية في محاولة تغيير الراهن الثقافي والاجتماعي.ولا يكون هذا الامر الا بتكاثف جهود جبارة تعي خطورة بقائنا في هذا الحال.

  4. الصورة الرمزية لـ د.بلحيارة
    د.بلحيارة

    شكرا استاذي الفاضل على هذا الطرح.فلا بد من وجود حلول لأعماله في المجتمع العربي للخروج من الهوة التي صنعها المثقف بينه وبين مجتمعه،وبالتالي غياب دوره كمسؤول اول عن اعطاء العربية دورها الحقيقي في التواصل والتغيير وبناء الانسان حضاريا.نحتاج الى مشاريع حضارية،فكرية تناسب البيئة الاسلامية والعربية وترقى بالانسانية في محاولة تغيير الراهن الثقافي والاجتماعي.ولا يكون هذا الامر الا بتكاثف جهود جبارة تعي خطورة بقائنا في هذا الحال.

اترك رد