د. حسن محمد أحمد محمد: قسم علم النفس، كلية الآداب، جامعة أم درمان الإسلامية
إننا إذا تتبعنا خط سير الإمام المهدي وتأملنا منهج حياته التي عاشها ، ـ ذلك العالم التقي الورع ـ نجد أنه لم يعتمد في دعوته على عصبية القبيلة بقدر ما استند إلى الثقافة والعلم والمعرفة في نشر دعوته التي أسس وخطط لها منذ وقت مبكر من حياته ، فجاءت ثورة بحق ، فقد بدأ حياته في أولها بخطوة هي في غاية الأهمية لكل من أراد أن يكون قائداً عظيماً يستطيع أن يقود الأمم إلى القمم ، ألا وهي تلقي العلوم والمعارف التي ستؤهله وتهيؤه ـ في المستقبل ـ للقيام بعمل ضخم وجليل سيكون له الأثر العظيم في مجتمعنا السوداني بل والعالم كله حينما يتناقل أخباره المؤرخون في كتاباتهم ويروي الناس قصصه في مجالسهم ؛ الأمر الذي جعل من الإمام المهدي شخصية تاريخية فذة تزيد لمعاناً وبريقاً كلما مرت السنوات تقادم العهد عليها ، إنه شخصية لا يستطيع التاريخ تجاوزها أو أن يمحو أثرها من أذهان الناس .
لقد نشأ المهدي في بداية حياته على الشغف الشديد بالعلوم والمعارف فتوجه إلى الخلوة تلك المؤسسة التربوية والتعليمية الكبرى التي كانت صرحاً للعديد من أنواع المعرفة فنهل من فيضها الكثير على يد شيوخ علماء أفاضل سقوه العلم والمعرفة الصوفية كأساً بعد كأس ولكنه ما ارتوى فهو كما قال الشاعر الغارق في بحار الصوفية أبو يزيد البسطامي :
عجبت لمن يقول ذكرت ربي * وهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأس بعد كأس * فما نفد الشراب وما رويت
فهنيئاً لكل واحد منهما بما ناله من المكانة السامية في قلوب العامة من الناس والخاصة من العارفين .
وما إن حصن المهدي نفسه بتلك الثروة المعرفية الغزيرة التي حصل عليها من خلال ترحاله وتجواله بين شيوخ خلاوى القرآن مهاجراً لطلب المزيد من العلم كالشيخ محمد خير شخ خلاوى الغبش بالقرب من بربر ، والشيخ القرشي ود الزين ، الشيخ محمد شريف نور الدائم ، وقد دب بين المهدي وهذا الشيخ خلاف على إثر كشف الأول عن مهديته فربما دبت الغيرة في قلب الشيخ من تلميذه ، غير أن المهدي قد ضرب المثل الأعلى والأروع في الوفاء لشيخه ، فعلى الرغم من ذلك الخلاف الذي نشأ بينهما إلا أن المهدي ظل وفياً للطريقة السمانية ولم يخرج عنها إلى أي طريقة أخرى ، كما لم يجعل لنفسه طريقة خاصة به مع أنه كان بإماكانه أن يفعل لكثرة ما يتمتع به من مريدين ؛ ولكنه لم يغتر بحجم مريديه ولذلك لم يفعل ، وفاءً منه وعرفاناً بجميل أستاذه وشيخ الجليل ، هذه هي سمات العظماء وأخلاق العلماء . بمثل هذه السمات الرائعة والأخلاق الرفيعة هيأ المهدي نفسه للنهوض بثورة دينية لتنقية الدين مما علق به من شوائب ، و فكرية غير بها أفكار الناس , وسياسية لرفع الظلم عن السودانيين فتوافد إليه الناس زرافات ووحدنا ؛ فتمكن من تحقيق أسمى الغايات والأهداف في أربع سنوات هي كل سنوات عمر حركته ، وهو زمن وجيز جداً بالمقارنة بعمره ، إذ لم تتجاوز سنيُّ عمره الأربعين إلا بحام واحد وربما أقل حينما أتم ثورته في يناير 1885م ؛ حيث تمكن من وضع اللبنات والقواعد الأساسية لدولته التي تمثلت في : تطبق الشرع ، محارة الفساد ، الوحدة ونبز العصبية ، المساواة ، الإصلاح الإداري والاقتصادي … . وبذلك سطر المهدي اسمه بأحرف من نور ومداد من ذهب في سجل الخالدين.
أسهمت الخلوة في إعداد المهدي كما أسهمت في تأهيل وتخريج الكثير من الكوادر العلمية والعلماء الأفذاذ الذين أسهموا في بناء حركة التربية والتعليم في السودان قبل أن يأتينا أولئك الخواجات الذين أدركوا ببصيرتهم أثر تلك المؤسسة التعليمية السامية فعملوا على محاربتها بشتى الوسائل ؛ وذلك حينما أنشأوا بعض المدارس على النمط أو الطراز الإنجليزي ـ في أول الأمرـ وقد كان الهدف من إنشاء المدارس هو تخريج موظفين يساعدونهم في إدارة دفة الحكم في البلاد ، وقد نجحوا نجاحاً باهراً بل ومنقطع النظير ؛ إذ لا زالت مؤسساتنا لا هدف لها سوى تخريج الموظفين . أما الأمر الثاني فهو محاربة الخلوة التي أدركوا أثرها فعمدوا إلى تعيين خريجي مدارسهم وإهمال خريجي المعاهد الدينية الذين قبلوا ـ بعد جهد جهيد ـ تعيينهم في سلك الوظائف الحكومية كأساتذة للغة العربية والتربية الإسلامية وقضاة؛ ولكن بمرتب أقل من رصفائهم خريجي المدارس الجديدة .
لقد بذل الإنجليز الكثير من الجهد في سبيل نشر ثقافتهم ؛ وذلك بالعمل على التقليل من مكانة التعليم الديني في حياة السودانيين العامة وسعوا إلى حصر التعليم الديني في مسائل الفقه والعبادات . ولنسأل أنفسنا سؤالاً واحداً ، لماذا بذل الإنجليز قصارى جهدهم للقيام بمثل ذلك العمل ؟؟ .
والإجابة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء وهي : حتى لا يخرج لهم مهدي آخر من بين تلاميذ الخلاوى ، وهي المؤسسة الوحيدة التي اعتمد عليها الإمام المهدي في بناء دولته الوليدة التي استمرت طوال ما يقرب من أربعة عشر عاماً بعد وفاته ، ولم تكن توجد أي مؤسسة تعليمية سواها ، لقد كانت الخلوة هي المعين الوحيد الذي زود الدولة المهدية بالكوادر التي استطاعت أن تقود سفينة الثورة المهدية في خضم بحر تتلاطم أمواجه العاتية المدمرة في زمن كانت فيه العديد من دول العالم في الكرة الأرضية تحت الاستعمار ، فرفع المهدي علم الاستقلال عالياً خفاقاً ، لقد ظلت الثورة المهدية تتلقى من الخلوة الكثير من القادة الحربيين والعسكريين أمثال : النجومي ، والذاكي طمل ، والمحارب والمقاتل الجسور أسد الشرق عثمان دقنة ، الذين استطاعوا أن يزلزلوا أركان الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، فدكوا حصونها بعقيدتهم ـ فقبل سيوفهم وحرابهم ـ التي تشريوها في الخلوة ولم يدرسوها في مدارس الاستعمار ، وهل تستطيع هذه المدارس أن تمدنا بمثل أولئك القادة الذين تخرجوا في مدرسة الإمام المهدي ؟؟ لا أعتقد ذلك .
إن المهدي قد صنع للسودان مجداً لا يدانيه أي مجد من خلال ثورته وهي الثورة الوحيدة الحقيقية في هذا البلد ، إذ لم تقم ثورة بحق قبلها ولا بعدها ، إذ استطاع المهدي بتلك الثورة أن يوحد السودان كله ويجمعه تحت راية واحدة هي راية الثورة المهدية . لقد واجهت تلك الدولة الناشئة ظروفاً قاسية إلى أن توقف نبض تلك الدولة في العام 1898م .
أعتقد أننا قد تنكبنا الطريق وسرْنا على ذات النهج الذي اختطه لنا الإنجليز ـ حتى بعد خروجهم من بلادنا ـ إلى حد كبير ـ إلا فيما ندر، عندما تركنا هذه المؤسسة التربوية العريقة تخوض المعارك وحدها دون سند إلا حب الناس وميولهم العاطفية التي ظلت تشكل جذوتها المشتعلة لتشتعل نيران الخلاوى على الزمان ولا أعتقد أنها ستخبو ـ إن شاء الله تعالى ـ في يوم من الأيام.
لقد كان من الخير للإنجليز أن يتخرج لهم من تلك الخلاوى أكثر من ألف مهدي ومهدي يحمل بين جنبيه الكثير من الوعي والفهم والإدراك ، على أن يخرج ـ وليس يتخرج ـ لهم ظواهري (أيمن الظواهري) واحد يخرب ويدمر ويقتل ويشرد … ـ مثل ما هو حادث اليوم ـ دون مراعاة منه أومن أمثاله لحرمة الحياة الإنسانية وقدسيتها ؛ فكان من الخير لهم مجابهة ألف ألف قائد واع كالإمام المهدي على أن يواجهوا شخصاً همجياً واحداً ـ فعدو عاقل خير من صديق جاهل ـ فما بالك إذا كان العدو هو الجاهل لابد أن الطامة ستكون أعظم وأفدح ، كما هو حالهم اليوم مع أفرزته جماعات الدمار والخراب ؛ الأمر الذي شجع الأمريكان اليوم على محاربة التعليم الديني في كثير من دول العالم الإسلامي ، فسعوا إلى إغلاق المعاهد الدينية في أفغانستان وباكستان وحتى الدول العربية لم تسلم من هذه الحرب الشعواء التي لا تكاد تفرق بين صديق وعدو . لقد خان الأمريكان ذكاؤهم ـ كما في مرات عديدة ـ إذ أنهم لم ينتبهوا إلى حقيقة الأمر التي إن فطنوا إليها لوجدوا أن المدارس أو المعاهد الدينية منذ القدم وإلى الآن لم تسهم ـ ولو باليسير ـ في التخطيط للعمل السياسي على الرغم من العواطف الجياشة والكثرة الغالبة التي يتمتعون بها في نفوس الناس ، إذ تمثل الطرق الصوفية بالإضافة إلى مدارس ومعاهد التعليم الديني الحزب الصامت في حياة المجتمعات العربية والإسلامية . ولكي نتأكد من ذلك علينا أن نتأمل ما يجري على الساحة السياسية في العالمين العربي والإسلامي ، عندها سنفاجأ بأن المؤسسات الدينية التابعة لسلطة الدولة من : جامعات ومعاهد ومدارس وغيرها لا تحرك ساكناً (لا تهش ولا تنش) ـ كما يقول المثل المصري ـ بالرغم من الفظائع التي تكتظ بها الساحة هذه الأيام ، وأكبر دليل على ذلك :
1/ألا يلاحظ المتتبع للنشاط السياسي في السودان أن نشأة الحركة الإسلامية في السودان قد كانت بدايتها في أحضان الجامعات العلمانية وأنها (الحركة الإسلامية ) قد نمت وترعرعت في تلك البيئة العلمانية البحتة ، كذلك نجد أن عدداً كبيراً من كوادرها قد تلقوا تعليمهم العالي (الماجستير والدكتوراه) في الجامعات الغربية ؟؟ كذلك لم يكن للمؤسسات ذات الصبغة الدينية والإسلامية في هذا الصدد دور كبير يضاهي ما تتمتع به تلك المؤسسات من عواطف جارفة وحب متمكن في نفوس السودانيين للإسلام ؟؟ وهناك ملاحظة أخرى ، وهي أن نشاط الجماعات الإسلامية السياسي في أوساط الجامعات العلمانية أعلى منه في أوساط الجامعات ذات السمة الدينية ؛ وذلك عند متابعة حجم النشاط السياسي المكثف الذي نلاحظه في مؤسسات التعليم العالي .
2/ تبذل كثير من الدول العربية والإسلامية قصارى جهدها من أجل فرض سيطرتها على النشاط السياسي الذي تمارسه الجماعات الإسلامية التي تتمتع بنفوذ قوي ـ لو لا التحجيم ـ في أوساط العديد من النقابات المهنية : أطباء ، مهندسين ، محامين ، أساتذة جامعات … إلخ من النقابات المهنية والتي كان من المفترض أن تكون أقرب إلى الدولة بحكم التنشئة والتربية والتعليم والوظيفة … وغيرها من الروابط والصلات التي تجمع بينها . وفي ذات الوقت نجدها غير عابئة ـ في كثير من الأحيان ـ بما تمارسه جماعة حزب الأغلبية الصامت . أليس من الأولى أن لو كان ذلك الحزب الصامت ، والذي يمثل الأغلبية هو المتحرك في الساحة السياسية . لابد أن هناك خللاً جعل قمة الهرم في الأسفل وقاعدته في الأعلى ، ولهذا صار الهرم مغلوباً ومقلوباً أيضاً .
وهذا هو ما جعل الإنجليز منذ القدم والأمريكان اليوم يصوبون سهامهم إلى مؤسساتنا التربوية والتعليمية ؛ الأمر الذي مكنهم من تغيير هوياتنا ومن ثم فرض ثقافتهم ، وأحسب أننا قد ركنا إلى هذا الاستلاب الثقافي والهيمنة الفكرية ، ولم نثر لكرامتنا كما ثار غيرنا من اليابانيين الذين سعوا لتعلم الجانب المفيد من المستعمر دون أن يتخلوا عن ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم العريقة التي ورثوها من الآباء والأجداد ؛ مما مكنهم من تخريج مهدي في كل مجال من محالات المعرفة فصنعوا لأنفسهم ثورة صناعية كبرى يفاخرون بها بين الأمم ـ فهنيئاً لهم ـ وتركونا نعض أنامل الندم حيث لا ينفع الندم على ما فرطنا فيه من تراث فكري جم وغزير ، استلبوه منا حين سلبونا مؤسساتنا التربوية التعليمية وحتى الثقافية فصرنا مسخاً بلا هوية .
اترك رد