موضي علي الجنوبي: باحثة دكتوراه بقسم أصول تربية – جامعة الملك سعود
ملخص:
نتيجة لاتساع الحضارة الإسلامية وتطورها وتنوعها؛ تنوعت الاتجاهات والمذاهب والأفكار، فظهر الفكر التربوي الصوفي مقابل ظهور الفكر التربوي العلمي الإسلامي، ولكل منهما اتجاهه ورؤيته وطرقه وأساليبه في التربية ونقل المعرفة، وقد اتفقا في بعض الجوانب، إلا أن الاختلاف كانت كبيرة وفي جوانب عدت قد تجعلهما على النقيض من بعضيهما.
ويظهر هذا التباين قوة الاتجاه العلمي وأفضليته في التربية ونقل المعرفة من الاتجاه الصوفي، وفي جميع الجوانب مما كان له الدور الكبير في نهضة وتطور الحضارة الإسلامية.
مقدمة:
إن التصوف من أهم مظاهر الحياة الروحية في الإسلام إلى جانب انقطاع أفرادٍ لحياة العلم والبحث، ولذة التفكر والمعرفة. فقد استطاع بالفعل أن يلعب دوراً كبيراً في تكوين الفكر التربوي الإسلامي، وكذلك في توجيه بعض مظاهر الحياة التربوية في العصور الإسلامية، نقول ذلك بغض النظر عن الاعتقاد بصحة النهج الصوفي أو خطئه.
ولقد كانت الحقيقة عند الصوفية هي المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة، ومن هنا كانوا يخالفون الفقهاء في طريقة فهم الشرع ومناهج تفسيره والنظر إلى ماهية الأحكام الشرعية، وبدأ الصراع بين الفقهاء والصوفية([1]).
وأهل التصوف يؤثرون العلوم الإلهامية دون التعليمية، ويعدونها المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية التي يستحيل معها إمكان الخطأ؛ ولذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون، والبحث عن الأقاويل والأدلة، بل قالوا إن الطريق إلى تحصيل تلك الدرجة بتقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى… فطريق الصوفية يرجع إلى تطهير محض وتصفية وجلاء ومحاسبة للنفس ثم استعداد وانتظار للتجلي([2]). إلا أن النظرة العلمية الإسلامية للتربية ونقل المعرفة تختلف على ما ذهب إليه الفكر الصوفي.
فقد جاء الإسلام يحمل في طياته الدعوة لإشاعة العلم في الناس. فحقائق ّالكون فيه هي آلاء الله، الإنسان فيه مدعو إلى النظر في حقائق الكون في سبيل معرفة الله عن طريق آلائه: العلم في الإسلام عبادة، وهو فريضة، جعلت فدية الأسير تعليم عدد من صبيان المسلمين، ولم يقم في الإسلام كهنوت يحتكر العلم، فالمسلم ليس بينه وبين ربه واسطة ولا حجاب. ومن ثم فلم تقم في الإسلام مدرسية علمية، وإن ظهر فيه علماء أفذاذ. وذلك أن الكتاب الكريم يقول “وفوق كل ذي علم عليم”([3]).
ولقد أطلقت كلمة (العلم) في تاريخ الحضارة الإسلامية على الأنساق المعرفية المختلفة، وهكذا أطلقت على علوم القرآن والحديث والفقه والكلام.. فالعلماء يراد بهم المشتغلون بالعلوم الطبيعية والرياضية والعملية، وبعض العلوم الإنسانية التي تنحو نحو الضبط العلمي مثل التاريخ والجغرافيا.
وقد أخذ العالم الإسلامـي بالدليل التجريبي، إلى جانب الدليل الاستنتاجي، ولم يقم فيه اعتراض على مبدأ التجربة والاختبار. فالـقـرآن الكريم يدعو الناس إلى النظر والمشـاهـدة فـي الأرض والسماء والأحياء، وفي أنفسهم بحثا عن آلاء الله، لتكون أدلة على وجوده. فلما التفتوا إلى العلم كان أول ما عنوا به الكيمياء والفلك والتنجيم، وهذه تحتاج إلى آلات وتجارب وعمليات وأرصاد، ولقد مارسوا الجراحة والكحالة والطب، وذلك أيضا يتطلب تجارب واختبارات. فلم يقم على شيء من ذلك اعتراض، وإن قام فليس على مبدأ التجربة والاختبار، ولا على فكرة التنجيم: أصـادق
هو أم كاذب? وعلى فكرة الكيمياء: أصحيح أمر تحويل المعادن الخسيسة؟([4]).
وننظر إلى جهد العلماء في بيان أهمية التفكير العلمي ووضع ضوابطه وقواعده وخطواته، كجهد تربوي، بدرجة عالية لأنه ينصب هنا على «المنهج» و «الطريقة» إنه يتجه إلى كيفية التفكير.
كذلك يعتبر جهد العلماء في الكشف عن الأخلاقيات التي يجب أن يتحلى بها العالم، جهداً تربوياً بالدرجة الأولى، فالأخلاق على وجه العموم تكاد تشكل لب وجوهر العمل التربوي.
ونحن نعتبر حرص كثير من العلماء المسلمين على جوانب (التطبيق والتنفيذ) و (المنفعة) لما يصلون إليه من نتائج العلم، تعبيراً عن إضافة حقيقية للفكر التربوي الذي يستهدف أصلاً، تغيير السلوك.
مما سبق يتبين أن هناك اتجاهان في الحضارة الإسلامية في التربية ونقل المعرفة، الاتجاه الصوفي والاتجاه العلمي، وبينهما اتفاق واختلاف، لذا تسعى الباحثة إلى المقارنة بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي في مجالات مختلفة، للوقوف وإبراز أهم جوانب الاتفاق والاختلاف فيما بينهما.
الإشكالية:
إذا كانت المهمة الرئيسية للتربية هي أن تصل بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة عن طريق نقل التراث الثقافي، فهي لا تكتفي بهذا، وإلا ساهمت في (تجميد) الجماعة البشرية، وتجميد الجماعة البشرية إن هو إلا المقدمة الضرورية لفنائها.
ومن أجل هذا حرصت الجماعة البشرية على أن تعهد للتربية بمهمة أخرى ألا وهي «التجديد» و«التطوير» تجديد الجماعة وتطويرها، والطريق إلى هذا يكون بتجديد المعرفة وتطويرها؛ ولكن المعرفة يستحيل أن تقوم بدور التجديد والتطوير إلا إذا ارتبطت بحركة الحياة نفسها، توفر هذا التوجه الوظيفي في تناول المعرفة العلمية.
لذا ظهرت اتجاهات عديدة ومختلفة في الفكر التربوي بحسب التوجه الفكري أو الثقافي أو الديني لفئة معينة من البشر، ومن بين ذلك المسلمين التي تنوعت أفكارهم وتعددت بحسب تنوع وتعدد أفكارهم ورؤيتهم للتربية وللإنسان ولطريقة توصيل المعرفة وتجديدها وتطويرها، وظهر اتجاهين بارزين في الحضارة الإسلامية في الفكر التربوي تمثل الأول في الفكر التربوي الصوفي وتمثل الثاني في الفكر التربوي العلمي الإسلامي.
إن كلا الاتجاهين الصوفي والعلمي بينهما تباين كبير، ويعود ذلك إلى اختلاف منحى كل منهما، فنجد أن أوجه التوافق بينهما محدودة، والواضح أوجه الاختلاف بينهما كبيرة.
ولقد تناولت عدد من الدراسات والمراجع كل اتجاه على حده وتناولت الفكر التربوي لكل مهما كجزئية بسيطة ضمن كتابات عامه حو الاتجاهين؛ لذا تسعى الباحثة إلى إجراء مقارنة فيما بين الاتجاهين “الصوفي والعلمي” فيما يخص التربية ونقل المعرفة وإبراز جوانب التوافق والاختلاف فيما بينهما، معتمدة في ذلك على المنهج الاستقصائي القائم على جمع المعلومات من مصادرها المختلفة واستقصائها للوصول إلى رؤية واضحة حول اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي.
ويمكن تحديد الإشكالية في السؤال الرئيس الآتي:
ما أوجه التشابه والاختلاف بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي؟
ويتفرع من السؤال الرئيس الأسئلة الفرعية الآتية:
1. ما أوجه التوافق بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي؟
2. ما أوجه الاختلاف بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي؟
الأهداف:
تهدف هذه الورقة إلى:
1. التعرف على أوجه التوافق بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي.
2. التعرف على أوجه الاختلاف بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي.
الأهمية:
تكمن أهمية هذه الورقة في إبراز الجوانب المختلفة للفكر التربوي من وجهة الاتجاه الصوفي ومن وجهة الاتجاه العلمي الإسلامي يسترشد بها الباحثين والمهتمين في ذات المجال في كتاباتهم ودراساتهم، كما تبرز درجة اهتمام الحضارة الإسلامية في التربية ونقل المعرفة في جميع توجهاتها ومذاهبها وأفكارها.
المصطلحات:
الصوفية:
إن كلمة التصوف وصوفية مأخوذة من الصوف لأن الصوف كان منذ زمن قديم اللباس الغالب على الزهاد([5]). أن هذا الانشقاق أليق لغةً وأظهر نسبة فيقال تصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقنص إذا ليس القميص و النسبة إليه صوفي([6]).
وفي الاصطلاح:
قال خليل أحمد خليل: ” الصوفية أو التصوف: طريقة روحية دينية مذهب فلسفي خاص قوامه القول إن المعرفة اتصال مباشر بين الروح و المطلق، دون استعانة بالعقل العملي؛ أما الصوفية مذهب ديني يرمي إلى اتحاد الإنسان بخالقه من طريق التأمل و التوحد و الوجود و الفناء”([7]).
وتعرف الباحثة الفكر التربوي الصوفي بأنه الطريقة والأسلوب التي تعتمد عليه الصوفية في نقل المعرفة بالاعتماد على الروح والتفكر دون الاستعانة بالعقل العملي، ويشتمل على الحياة الروحية ولذة التفكر والمعرفة.
الفكر التربوي العلمي الإسلامي:
تعرفه الباحثة إجرائياً بأنه الطريقة والأسلوب الذي استخدمه المسلمين في الحضارة الإسلامية للتربية ونقل المعرفة باستخدام العقل والتجريب والبحث العلمي، ويشتمل على العلوم الطبيعية والرياضية والعملية، وبعض العلوم الإنسانية التي تنحو نحو الضبط العلمي مثل التاريخ والجغرافيا.
المقارنة بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي والفكر التربوي العلمي الإسلامي:
بعد الرجوع لعدد من الدراسات والكتابات التي تناولت الاتجاهين بالدراسة والتحليل والنقد والبحث العلمي في كل من الاتجاهين استخلصت الباحثة عدد من النقاط التي من خلالها يمكن اجراء مقارنة فيما بين الاتجاهين وسيكون ذلك بإبراز أوجه التوافق فيما بينهما، ثم إبراز أوجه الاختلاف فيما بينهما، بشكل محدد ومختصر دون إطالة أو اسهاب، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: أوجه التوافق بين الاتجاه الصوفي والاتجاه العلمي:
أ- من حيث الجهد في طلب العلم:
يتفق الاتجاه الصوفي والعلمي على أن من أراد أن يكون عالمًا أو متصوفًا، يجب عليه أن يبذل الجهد الكبير والإخلاص والانقطاع للعمل بكل جدٍّ وعزمٍ بدون توقف.
ب- من حيث جذور العلم:
§ الاتجاه الصوفي يوجد في الإسلام وديانات سابقة كالمسيحيين والديانات الوضعية كالبوذية، ولكن لا يوجد ترابط بين تلك الاتجاهات والاتجاه الإسلامي من حيث البحث عن الحقيقة، وإنما الانقطاع عن الناس والعزلة.
§ وكذلك الاتجاه العلمي له جذور في علوم اليونان والرومان والفرس وهناك ترابط بين جهود المسلمين وجهود العلماء السابقين كاليونانيين، ويكون عن طريق الرجوع إليها ودراستها وتمحيصها بغرض البحث عن الحقيقة.
ج- اخلاقيات العلم:
كلا الاتجاه الصوفي والعلمي يركز على الجوانب الأخلاقية، ويدعو لها في أخلاقيات العلم نفسه، وفي أخلاق العالم والمتعلم، ويعتبرها من المبادئ الأساسية الموصلة للعلم.
د- مكانة العالم:
يتفق الاتجاه الصوفي والعلمي على مبدأ هام وأساسي، هو مكانة المعلم واحترامه وتقديره، وإن كان في الاتجاه الصوفي يصل إلى التقديس له.
هـ- طالب العلم وصفاته:
§ يتفق الاتجاه الصوفي والعلمي على أن على طالب العلم أن يتعرف علي عيوب نفسه، ويصلحها، ويكتشف النوازع والأهواء الخالية من التعقل، ويتغلب على الهوى ومحبة النفس؛ لكي يستطيع أن يكون سيدًا في علمه، متحكمًا فيه، وليس يتحكم فيه هوى النفس.
§ اتفاق الاتجاه الصوفي والعلمي على مجموعة من الصفات الذميمة التي على طالب العلم الابتعاد عنها، وهى العُجب والغضب والكذب وخداع النفس والتكبر.
و- خدمة الناس:
يتفق الاتجاه الصوفي والعلمي على دور المتصوف والعالم في خدمة الناس ومساعدتهم، وعدم الترفُّع عنهم، وذلك كله فيه نوعًا من التقرب إلى الله، وهو خدمة عباده، فقد حباه الله القدرة والفهم والعلم الذى يميزه عن غيره.
ثانيًا: أوجه الاختلاف بين الاتجاه الصوفي والاتجاه العلمي:
أ- المفهوم في كلا الاتجاهين:
§ الغموض وتعدد التعريفات في مفهوم الاتجاه الصوفي.
§ الوضوح وتطابق التعريفات إلى حدٍّ كبيرٍ في مفهوم الاتجاه العلمي.
§ الجدل والنقاش والرفض من بعض العلماء تجاه الاتجاه الصوفي لما تغلف به من مفاهيم غريبة وأحيانًا متطرفة.
§ الإقبال والتأكيد من العلماء للاتجاه العلمي كما لمسوا فيه من فوائد علمية.
ب- من حيث الوصول الى الحقيقة:
§ الوصول إلى الحقيقة في الاتجاه العلمي عن طريق الاستقراء والمشاهدة والملاحظة، ثم التجربة والاختبار والنقد.
§ الوصول إلى الحقيقة في الاتجاه الصوفي عن طريق المعنى الباطن المستتر في النفس فالحقيقة شعور داخلي، يشعر به المتصوف، ويدركه، ويجعله في حالةٍ من الرضا والتسليم والسكون.
§ في الاتجاه العلمي محدودية الطرق في الوصول إلى الحقيقة، فهي مبنية على العلم والملاحظة والتجربة.
§ في الاتجاه الصوفي طرق الوصول إلى الحقيقة تختلف من متصوفٍ إلى آخر، فكل واحدٍ له طريقته الخاصة التي يتحفظ عليها، ويرى أنها شأن خاص به.
ت- مصدر الحقيقة:
§ في الاتجاه الصوفي كانت الحقيقة مصدرها التفكير العميق للعالم، وما يعتقد أنه انسكب في داخله من أنوار المعرفة هبة من الله.
§ في الاتجاه العلمي كانت الحقيقة مصدرها الواقع، والمقارنة بين ما شاهده الرحالة المسلمين من أحوال المسلمين وغيرهم، وما توصل إليه العلماء من التجارب المختلفة التي تطابق ما توصل إليه العلماء قبلهم أو تخالفها، فالغاية لديهم الوصول إلى اليقين.
ث- مصدر المعرفة
§ في الاتجاه العلمي تتعدد أوجه المعرفة والبحث عن الحقيقة، من خلال السؤال والخبرات السابقة والملاحظة.
§ في الاتجاه الصوفي مصدر العلم والمعرفة لدى المريد هو شيخه، ولا يلجأ لغيره.
§ لقد وافق الاتجاه الصوفي المتطرف عصر انحطاط المسلمين وضعفهم واستكانتهم.
§ الاتجاه العلمي كان في عصر قوة المسلمين وعلمهم ونهضتهم العلمية، وتواصلهم بالعلوم الأخرى.
§ تميَّز الاتجاه العلمي بالنظرة الوظيفية للعلم، بينما في الاتجاه الصوفي هناك النظرة الباطنية والنفسية للعلم.
§ في الاتجاه الصوفي مصدر العلم العالِم، وما يقوله ويوجهه للمتعلم.
§ في الاتجاه العلمي مصدر العلم الكتب وقراءتها مرات، وتمحيصها، والخروج بفكرةٍ متكاملةٍ عن تلك الكتب.
ج-البحث عن المعرفة:
§ المعرفة في الاتجاه العلمي يقوم على البحث والتنقل والمعاينة؛ وذلك لكشف الحقيقة كمشاهدة الطبيعة، والتجول في المدن والبلدان.
§ الوصول إلى المعرفة في الاتجاه الصوفي تكون عن طريق الخلوة والجلوس والركون المنفرد مع النفس؛ ليعرف أنوار الحقيقة.
§ طرق الاتجاه العلمي في الوصول إلى العلم والمعرفة طرق علمية واضحة مبنية عن طريق التفكير العلمي.
§ طرق الاتجاه الصوفي في الوصول إلى العلم ومعرفة الله طرق منوعة ومختلفة وملتوية، فهي تختلف من شيخٍ إلى آخر، ومن مريد إلى آخر.
ج- العلوم المدروسة:
§ الاتجاه الصوفي كان ثمرة علومه عقلية بحتة، دون أن يكون له ثمرة عملية، وإنما غلب على فكرهم التواكل.
§ في الاتجاه العلمي كان ثمرة علومه تطور في العلوم والمعارف العلمية كالجغرافيا والطب والصيدلة وغيرها مما ينفع البشرية.
ح- مكانة العالم:
§ العالم في الاتجاه الصوفي يعتبر منزهٌ عن الخطأ والزلل، ومسددًا في أقواله وأفعاله، ومحل إجلال وتقديس من مريديه.
§ العالم في الاتجاه العلمي لا ينزه نفسه عن الخطأ والزلل، ويحاول أن يراجع عقله؛ ليكتشف الناقص ويكمله، فهو يثري عمله ويطوره باستمرار.
خ- اتفاق العلماء:
§ علماء الاتجاه الصوفي بينهم اختلاف وفرق تصل إلى حد التناقص بينهم، فهناك من يرى أن الدرجة العليا من التصوف تعفي الشيخ من التكاليف الشرعية، واتجاه معتدل آخر يرى أن ذلك خطأ وكفر، ولكنهم يركزون على غلبة الباطن على الظاهر والنية على العمل.
§ في الاتجاه العلمي ليس هناك اختلاف بين العلماء في ضرورة استخدام أسلوب التفكير العلمي، وإنما الاختلاف في تنوع العلوم التي يطرقون من تاريخ وطب وجغرافيا وعلم البحار وعلوم الفلك وغيرها مما أثرى علوم المسلمين.
د- اتجاه العلوم:
§ في الاتجاه الصوفي يدعو العالم المتعلم إلى الانقطاع عن علوم الدنيا، والاقتصار على علوم الآخرة، وعلل النفس وأدواتها.
§ في الاتجاه العلمي يدعو العالم المتعلم الى الاستفادة من كافة العلوم ذات الصلة بعلمه، فهي تقوده إلى الصواب مثل معرفة الطب للصيدلة، والفلسفة والمنطق؛ لكي يعزز علمه ويقل خطأه.
ذ- التفسيرات والتأويل:
§ في الاتجاه الصوفي هناك التفسيرات والفلسفة في تحليل الأمور للوصول إلى حقائق الأمور.
§ في الاتجاه العلمي التفسير والتحليل قائم على الاتجاه العلمي في الانتقال من المحسوس إلى اللامحسوس عن طريق الاستقراء والتعميم.
ر- النقد والمراجعة:
§ في الاتجاه الصوفي لا وجود للنقد من قبلهم لمشايخ الصوفية، وإنما التوقير والتسليم لهم، والأخذ من علومهم بكل ثقة وخضوعٍ وتلقي.
§ في الاتجاه العلمي هناك النقد والمراجعة للعلوم السابقة، حيث يشجع علماء المسلمين على الاستقلالية في التفكير، فقد اشتهر ابن النفيس بالشك وقوة النقد.
§ في الاتجاه الصوفي يتضح انفصال المشايخ عن بعضهم، فكل شيخ له طريقة ومريدين له، يكون هو مورد علمهم ومرجعهم.
§ في الاتجاه العلمي يتضح حرص العلماء على الرجوع إلى العلماء السابقين لهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهذا لا يجعلهم أسيرين لآرائهم، بل إكمال ما يكون قد وصلوا إليه من علوم.
ز- العلاقة بين المعلم والمتعلم:
§ في الاتجاه الصوفي العلاقة بين المعلم والمتعلم علاقة عليا، فعلاقة المتعلم بالمعلم علاقة انقياد وتسليم إرادته لشيخه، يوجهه كيف يشاء، فهو عارف به وأحواله أكثر من نفسه، فهو كالطبيب المعالج للمعلول يسلمه نفسه.
§ في الاتجاه العلمي العلاقة بين المعلم والمتعلم علاقة إجلال، وتقدير للمعلم، وطاعة في المجال العلمي فقط، دون سائر شئون الحياة العلمية للمتعلم، فلا يتحكم في حياته ووقته بالكلية.
س- مكانة الدنيا في الاتجاهين:
§ في الاتجاه الصوفي يدعو المتصوف إلى الإعراض عن الدنيا، ورفضها، والزهد فيها حتى في الحلال منها.
§ في الاتجاه العلمي يدعو الطالب العلم إلى التوسط والاعتدال، فلا يكون مقبلًا على الدنيا كليةً، ولا معرض عنها بالكلية.
§ هناك سمة معينة للمتصوف من حيث اللباس والسلوك، والانقطاع عن الدنيا، والابتعاد عنها، والزهد فيها.
§ في الاتجاه العلمي هناك إقبال من طالب العلم على الدنيا، والبحث في جوانبها الطبيعية، وكافة ميادينها بقصد معرفتها على أسس علمية والاستفادة منها.
ش- الثبات والتجديد:
§ في الاتجاه الصوفي الثبات على عقائد الصوفية الأصلية يعتبر مطلبًا لديهم، واعتبروا أن هناك تجديدات أضرت بالصوفية كالتواكل لدى البعض والاحلال.
§ في الاتجاه العلمي يرون الثبات على القديم جمود، وضرورة التجديد والتطوير.
الخاتمة:
يتبين من المقارنة بين اتجاه الفكر التربوي الصوفي واتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي جوانب الاختلاف كبيرة ومتباينة بدرجة عالية، ويبرز قصور وضعف اتجاه الفكر التربوي الصوفي مقابل بزوغ ونبوغ وتطور اتجاه الفكر التربوي العلمي الإسلامي.
في الوقت الذي اتفق كلا الاتجاهان في جانب الجهد في طلب العلم، وجذور العلم، وأخلاقيات العلم والعالم والمتعلم، ومكانة العالم وصفات طالب العلم، وخدمة العلم للناس، إلا أن هناك جوانب اختلاف كثيرة تتمثل في: المفهوم نفسه، وطريقة الوصول إلى الحقيقة، ومصادر الحصول على المعرفة، وطرق البحث عن تلك المعرفة، والعلوم المدروسة من قبل كل اتجاه، ومكانة العالم، واتفاق العلماء، والاتجاه نحو العلوم الدنيوية والأخروية ، والتفسيرات والتأويلات، والنقد والمراجعة سواء للعلماء أو للمعرفة، وكذلك الاختلاف في تنظيم العلاقة بين المعلم والمتعلم، ومكانة الدنيا والاهتمام بها، وأخيراً الثبات للمعرفة والتجديد لها.
ويتضح أن لك اتجاه دوره في الحضارة الإسلامية، فقد انتشر اتجاه الفكر الصوفي في مراحل انحطاط وضعف الحضارة الإسلامية وقد يكون هو أحد أسباب ذلك الضعف، بينما اتجاه الفكر العلمي كان في فترات تطور ورفاهية الحضارة الإسلامية بل كان أهم أسباب تطورها وعظمتها.
الهوامش:
([1]) أنظر: ماسينيون، وعبد الرزاق، مصطفى(1984). التصوف، كتب دائرة المعارف الإسلامية، (16)، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، بيروت، لبنان.
([2]) ماسينيون، وعبد الرزاق، مصطفى(1984). مرجع سابق، ص69-70..
([3])سعيدان، أحمد سليم(1988). مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، عالم المعرفة، العدد (131). المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، ص59.
([4]) سعيدان، أحمد سليم(1988). المرجع نفسه، ص68.
([5])عمــر، فــروخ (1970). المــنهج الجديـــد فــي الفلســفة العربيـــة، دار العلــم للملايــين، ط 1، بيـــروت، ص180. أنظر ايضاً: مولاي، ناجم(2012). مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد (7)، ص 137.
([6])عجيبــة، الحســني (1999). مصــطلحات التصــوف ، ترجمة: عبــد الحميــد حمــدان، ط1، مكتبــة مــد بــولي، القــاهرة، ص 3 . و أنظــر أيضــاً : حنــا، الفــاخوري، والجــر، خليــل (1993). تــاريخ الفلســفة العربيــة ، ط3،ج1 ، دال الجيل ، بيروت ، لبنان.
([7])خليل، خليل أحمد(1995). معجم المصطلحات الفلسفية، ط 1، دار الفكر اللبناني، ص103.
المراجع:
حنا، الفاخوري، والجر، خليل (1993). تاريخ الفلسفة العربية، ط3،ج1، دال الجيل، بيروت، لبنان.
خليل، خليل أحمد(1995). معجم المصطلحات الفلسفية، ط1، دار الفكر اللبناني.
سعيدان، أحمد سليم(1988). مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، عالم المعرفة، العدد (131). المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت.
عجيبة، الحسني (1999). مصطلحات التصوف، ترجمة: عبد الحميد حمدان، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة.
عمر، فروخ (1970). المنهج الجديد في الفلسفة العربية، دار العلم للملايين، ط1، بيروت.
ماسينيون، وعبد الرزاق، مصطفى(1984). التصوف، كتب دائرة المعارف الإسلامية، (16)، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، بيروت، لبنان.
مولاي، ناجم(2012). مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد (7).
اترك رد