محمود البازي: باحث دكتوراه سوري في القانون الخاص – جامعة الشهيد بهشتي
مقدمة:
سلمان العبيدي منفذ هجوم «مانشستر أرينا» وبتاريخ 22/أيار 2017 قام بتفجير عبوات ناسفة داخل قاعة حفلات في مجمع «مانشستر أرينا» شمالي بريطانيا عندما كان الجمهور يهم بمغادرة قاعة الحفل الموسيقي، الذي أحيته المغنية الأمريكية «أريانا غراندي».
راح ضحية هذا الهجوم «22 قتيل» وما يقارب ستين جريح أغلبهم من الأطفال والمراهقين الذين لم تتجاوز أعمارهم 18 عاماً. ويُعد هذا الهجوم هو الأخطر والأكثر دموية في بريطانيا منذ تفجيرات لندن تموز 2005.
هو ليبي الأصل بريطاني المولد، وكذلك كان من قبله البريطاني «خالد مسعود» منفذ هجوم البرلمان البريطاني بتاريخ 22/ آذار 2017 من حیث جنسیته البریطانية. والكثير من الهجمات المشابه والتي يتعرض لها الأقباط المصريين بين الفينة والأخرى.
تعيش الأمة الإسلامية والعربية واقعاً صعباً منذ ظهور القاعدة إلى اليوم ومع ظهور داعش وأخواتها، وتعاني هذه الدول من عجز دائم أمام مقاومة هذه التنظيمات فكرياً. فالشيوخ وعلماء المسلمين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إما نائم ولا يدري ما يدور حوله، وإما مؤيد لهذا الفكر ولديه شبهات أن الدين الإسلامي لديه نص ديني يؤيد هذه الأفعال التي يقوم بها داعش أما النوع الأخير فهم علماء أمضوا حياتهم في الدفاع عن هذا الدين ويسعون لفهم صحيح ويسعون دوما لتجديد الخطاب الديني ليلتحق بركب الأمم المتقدمة وتكون دولنا أحد العناصر المهمة التي تشكل المجموعة الدولية.
لعلنا دوما نلقي باللوم على الغرب وعلى تدخلهم بحياتنا وفي بلداننا (وعلى رغم صحة هذا الطرح في بعض الأحيان) إلا أننا نتناسى أصل المشكلة وهي فهمنا للنص الديني. فالنص الديني ثابت وعقولنا هي التي تفسر هذا النص تفسيراً متحركاً.
داعش تسرح وتمرح وتفسر النص الديني كما يحلو لها في غياب واضح لعلمائنا ومفكرينا. هذه الحرب اليوم هي حرب فكرية أكثر منها ميدانية. تحتاج لدعم فكري وجهد هذه الدول لمجابهة هذا الفكر الضال المتطرف إما بتجديد الخطاب الديني أو حتى في بعض الحالات نتجرأ وننتقد النص الديني ونُعمل قطيعة مع هذا الخطاب.
لقد عانت هذه الدول من تكفير المفكرين والمبدعين العرب أمثال «نصر حامد أبو زيد» وقتل آخرين من أمثال «محمود محمد طه» في تلك الفترات الزمنية التي علا فيها صوت المتطرفين، لتعود هذه الفترة اليوم في عجز تام أمامها.
كل مشاهد الرعب التي ارتسمت في عيون الأطفال الهاربين من قاعة الاحتفال في مانشستر وكل ذلك القهر والظلم والقتل الذي تمارسه داعش ضد الأقباط المصريين وضد دول أوربا ودول العراق وسوريا وأفغانستان، تقتل أخوتنا بالإنسانية هنا وهناك، يدفعنا إلى التحرك أسرع في مواجهة هذا الفكر، والبحث عن حلول مناسبة لمحاربتهم فكريا وبنفس النص الديني الذي أساؤوا استخدامه. كل ذلك يدفعنا إلى تجديد الخطاب الديني ونقده في بعض الحالات.
في تراكم كل هذا الزخم يُطل علينا رجلٌ بأمة، أستاذ قدير يُعتبر من المجددين في الخطاب الديني، استاذٌ أفنى عمره في التدريس وبناء الأجيال وتعليمهم. ملمٌ بعدد لا يستهان به من العلوم (فلسفة، تاريخ، فقه، قانون، أصول الفقه والعقيدة)، ليعيد صياغة التفكّر والبحث عن حلول فكرية مناسبة لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد البشرية جمعاء، بعيداً عن التعصب المذهبي والديني بتركيبةٍ فكرية ليست جديدة في الطرح ولكنها كانت مغيبة، هي مزيجٌ بين النص الديني وحقوق الإنسان. لا تنظر إلى علاقات الأديان والدول على أنها علاقة تسامح، لإن التسامح فيه نوع من الاستعلاء (أنا أنظر إليك متسامحا أي أنا أفضل منك ولكنني أتسامح معك)، بل ينظر إليها على أساس المساواة بين جميع الدول وجميع الأديان.
الدكتور السيد محقق داماد يبحث ونبحث معه في موضوع مهم يناسب هذه الفترة العصيبة التي نمر بها، وهذا الموضوع هو: أصالة الحرب أم أصالة السلم في الإسلام.
ما من شك أن أصالة الحرب هي المفضلة لدى داعش اليوم فالحالة الطبيعية لدى هؤلاء هي الحرب الدائمة مع كل من يخالفهم، ليس فقط أهل الكتاب والملحدين وغيرهم بل مع أخوتهم في العقيدة (جبهة النصرة وأخواتها من التنظيمات المتشددة)، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل أصالة الحرب حقا هي المختارة والتي تم تبريرها بالنص الديني؟ وماهي الأدلة على ذلك؟ وهل يتطابق تفسيرنا للنص الديني مع تفسير داعش المتشدد؟
تعريف الموضوع:
إن المراد من السلم هو واحد من الأهداف السياسية على الساحة الدولية. هو الحالة الطبيعية الخالية من النزاعات والحروب حالة قائمة على التعايش وهي الجزء الأكثر أهمية في الحياة البشرية، الحالة القائمة على العدل والمساواة. إنّ المراد من السلم ليس الخضوع والتسليم، بل هو روابط طبيعية بين البلدان بعيد عن الاعتداء والعنف والقوة.
في الواقع عند العودة إلى المصادر الفقهية ستواجهنا جملة بُني عليها قاعدة فقهية وهي: “يجب قتال الحربي بعد الدعاء إلى الإسلام واقتناعه حتى يسلم أو يقتل، والكتابي كذلك، إلا أن يلتزم بشرائط الذمة . فإذا سلمنا بهذه المقولة سنواجه النتائج التالية:
1- إنّ القوانين والقواعد الإسلامية منذ نشأتها وحتى الأن غير منطبقة مع حقوق الإنسان وحقه في الحياة، لإن القاعدة الأولى والأساسية في نظام حقوق الإنسان هي احترام حقوق الآحاد من البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية وألوانهم وطبقاتهم الاجتماعية. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه القاعدة الفقهية فيها مخالفة صريحة لقواعد أخرى من حقوق الإنسان وهي حقه في الحياة فقط لكونه إنسان.
2- لو فرضنا أن القاعدة الفقهية السابقة صحيحة وهي واجبة التطبيق فلا يجب أن يتوقع المسلم توفير الحماية الدولية له، فهو خارج نطاق الحماية الفردية والاجتماعية والسياسية التي يوفرها القانون الدولي للجميع.
3- تتعارض فرضية وجوب القاعدة السابقة مع واقعية عضوية الدول الإسلامية في الأمم المتحدة، لإن العضوية في الأمم المتحدة تعني القبول بالأصول والقواعد الأساسية التي تدعوا إليها الأمم المتحدة وأهمها القبول بالصلح والسلم والتعايش بين الدول الإسلامية وجميع دول العالم (التي بحسب القاعدة الفقهية السابقة: هذه البلدان كافرة أو هم أصحاب كتاب فيجب مقاتلتهم). فالسؤال الذي يُطرح هو: هل انضمام الدول الإسلامية إلى الأمم المتحدة هل هو مجرّد نفاق؟ أم أنّ هذه البلدان تجنبت الإقرار بالقاعدة السابقة؟
وخلاصة القول: إن القبول بالقاعدة السابقة يقتضي إحدى ثلاثة أمور:
هي أن نلغي فكرة إقامة دولة إسلامية مؤطرة على القواعد الإسلامية (حسب القاعدة السابقة) وإما أن ننسى التعايش والسلم مع باقي الدول واعتبار حالة الحرب هي الحالة السائدة هذه الأيام.
ولعل أصح الأقوال هي يجب أن نجد تفكّر وأفكار وتدابير عقلية وفكرية لحل هذه المشكلة وبناءً عليه انبرى الدكتور السيد محقق داماد لهذا النوع من التفكير وحاول حل هذه المعضلة بقوله:
“مع استحضار وتمعن وتفكر بمصادر الفقه الإسلامي ومع إمعان النظر في التعاليم الأساسية والمبادئ الأخلاقية واحترام كرامة الإنسان ومبدئ خلود الدين الإسلامي نستطيع الوصول إلى نتائج مهمة وعصرية لا تكون نتيجتها انزواء الإسلام والمسلمين ولا يترتب عليه طرد الدول الإسلامية من المجتمع الدولي وعدم اعتبارهم إرهابيين متطرفين.
هذه الطريقة من التفكير تجبرنا على أن ننقض آراء الفقهاء الذين قالوا بأن الأصل في الإسلام هو الحرب، وإعادة تفسير الأدلة التي استندوا إليها من جهة، ومن ثم تأييد آراء الفقهاء والعلماء الذين قالوا بأصالة السلم في الإسلام وتقوية أدلتهم على ذلك”.
فآراء الفقهاء وتفسيراتهم ليست نصوص مقدسة لا يدخلها الباطل أبداً فهي نصوص تخضع للمحاكمة العقلية وظروف الواقع.
وهناك الكثير من المغالطات والفهم عن المشرّع الإسلامي في دعوته للحرب وأصالتها بين علاقات الدول وهو تفسيرٌ خاطئ مُستنبطة من فتاوى بعض العلماء ومن سلوك بعض الدول في ترجيحها لأصالة الحرب أما الواقع فهو غير ذلك فالنص المقدس الوحيد والذي لا يشوبه شك هو القرآن الكريم، الذي يؤيد في أكثر من موقع تأييده للرأي المخالف وهو أصالة الصلح والسلم. وهذا الأصل هو من الأصول الأساسية والمحورية للمشرّع الإسلامي وهذا النص يعتبر الحرب مشروعة في حالات استثنائية محدودة للغاية وبناء على هذا فكل فتوى أو رأي لفقيه لا يُعتد بها، عند وجود النص الديني القرآني المؤيد لأصالة السلم”.
أولاً: القائلين بأصالة الحرب:
نظرية أصالة الحرب وبالتالي العلاقة العدائية بين المسلمين والدول الإسلامية وغير المسلمين، لها مدافعين كُثر في الفقه الإسلامي وأصحاب هذه النظرية يستندون إلى أدلة قرأنية وأحاديث نبوية وآراء فقهية. وحتى أنّ بعض هؤلاء الفقهاء يعترفون بوجود حالة السلم والصلح ولكنهم يقيدونه بمنفعة للمسلمين بالتالي فإن الأصل هو الحرب أما الإستثناء فهو السلم.
منذ القرن الثاني الهجري فإن عدد من الفقهاء الشيعة والسنة (عدا فقهاء الزيدية) كان رأيهم يدور حول أصالة الحرب حتى أن الجهاد الإبتدائي والجهاد الدفاعي الوقائي هو واجب على كل المسلمين بنظرهم .
ومن الأمثلة على هؤلاء الفقهاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
الف) بعض الشافعية ، ابن عربي في كتابه احكام القرآن ، كاساني في بدائع الصنائع ، وحتى أن ابن قدامة يقول: “يجب محاربة أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية” .
ب) من الفقهاء والمفسرين الشيعة: الشيخ الطوسي في كتابه المبسوط، المحقق الحلي، الشهيد الأول، الشهيد الثاني، الشيخ حسن نجفي صاحب كتاب (الجواهر)، والطبطبائي صاحب كتاب الرياض كلهم يقولون بأصالة الحرب والبعض منهم يقول إنّ أصالة الحرب إجماع الفقهاء .
حتى أن السيد أبو القاسم الخوئي أحد الفقهاء الشيعة المعاصرين يدافع صراحةً عن نظرية أصالة الحرب ويعتقد أن الفقيه الذي تجتمع فيه الشرائط المطلوبة، مكلفٌ بأن يغزو الكفار في أي وقتٍ استطاع، ويجبرهم على الإسلام .
ج) أهل السنة من باقي المذاهب: الكثير من علماء السنة القدامى والمعاصرين يقولون بأصالة الحرب وأبرزهم من أورده الزحيلي في كتابه آثار الحرب في الفقه الإسلامي .
1) الأدلة القرآنية: سوف نذكر عدد من الأدلة ونرد على تفسير هذه الأدلة:
الف) سورة التوبة، الآية 29: “قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ “. يقول صاحب كتاب «كنز العرفان، السيوري» يقول: هذه الآية هي دلالة على قتال أهل الكتاب الذين وصفهم ربنا بأربعة صفات. ويجب قتالهم طالما توفرت فيهم إحدى الصفات الأربعة المذكورة .
أما صاحب الميزان الطباطبائي يقول: “كلمة (من) في جملة (من الذين أوتوا الكتاب) تعني جميع أهل الكتاب” .
إنّ هذه الآية مشهورة بين الفقهاء “بآية القتال” أو “آية السيف” . وهي أحد أهم الأدلة التي تشير إلى الجهاد الأبتدائي وأما ردنا على تفسير الفقهاء فهو كما يلي: إنّ المراد بالقتال في هذه الآية هو ليس التمتع والمتعة الدنيوية والتعطش للدماء، بل الغرض من هذا القتال هو احقاق الحق واستقرار العدالة الاجتماعية وأما الجزية التي تؤخذ من اهل الكتاب فهي فقط لحفظ دمائهم وهي عبارة عن ضرائب تُدفع مقابل الاستقرار والإدارة الجيدة التي تقوم بها الحكومة الإسلامية في البلدان الإسلامية، فالمسلمون يدفعون هذه الضرائب عن طريق الزكاة.
والمراد من كلمة “وهم صاغرون” هو الخضوع مقابل الحكومة الإسلامية العادلة في البلاد الإسلامية وليس محاربة أهل الكتاب أينما وجدوا.
لقد وضحت الآية أصل من أصول التشريع الإسلامي ولم تدخل في الجزئيات ولذلك يجب الإستناد إلى آياتٍ أخرى وأحاديث أخرى عند محاولة تفسيرها فلا يجب اقتطاعها وتفسيرها بمعزل عن النصوص الآخرى، حيث يمكن القول إنّ هذه الآية هي دعوة لحفظ قدرة وهيبة المسلمين ورفع العوائق التي تكون حائلاً بين الدولة الإسلامية ومن يمنعها من التبليغ والدعوة للإسلام بطرقٍ سلمية. فلا يجب مبادرة أهل الكتاب او غيرهم بالقتال أو الحرب إلا إن هم منعوا الدعوة والتبليغ فقط.
ب) سورة التوبة، الآية 36: “وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”. يفسر الفقهاء هذه الآية بأن المسلمين يجب أن يقاتلوا الكفار جيلاً بعد جيل ونسلاً بعد نسل طالما هم يقاتلونكم ويستدوا إليها في قولهم بأصالة الحرب .
والرد على هذا التفسير: إن القتال والمخاصمة المقصودة في هذه الآية هي الحرب التي يشرع بها الأعداء وهي عبارة عن الدفاع عن النفس من قبل المسلمين ولعل الكمال بن همام يؤيد هذا التفسير بقوله: “إنّ القتال الذي أُمرنا به في هذه الآية هو القتال مقابل القتال الذي شنّه الأعداء وهي عبارة عن دفاع عن النفس” .
ج) سورة البقرة، الآية 216: ” كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.
يعتقد العلامة الطباطبائي أن الآية هي دلالة على قتال جميع الكفار وأهل الكتاب إلا ان يقوم الدليل على استثنائهم من شمول هذه الآية “.
واما التفسير الذي يمكن استنباطه من هذه الآية: لا يمكن استخراج أي شيء من هذه الآية إلا جهاد الكفاية حيث يقول الطبرسي: “إنّ القتال من وجهة نظر عطا هو فقط القتال الواجب على أصحاب الرسول أما على الآخرين فهو غير واجب”. ومن جهة أخرى فإنّ القتال هنا هو من مصدر مفاعلة وهي تعني فقط المواجهة وهو على ما يبدو الجهاد الدفاعي.
ويُكمل العلماء سردهم للأيات القرآنية التي سنكمل سردها بدون شرح:
د) سورة البقرة، الآية 193: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ”.
ه) سورة البقرة، الآية 191: ” وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ”.
و) سورة التوبة، الآية 5: ” فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”.
ز) سورة التوبة، الآية 41: ” انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ”.
ط) سورة التوبة، الآية 123: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”.
ك) سورة التوبة، الآية 38: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ”.
ل) سورة الأنفال، الآية 65: ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا”.
ي) سورة التوبة، الآية 111: ” إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ”.
2) الأحاديث:
يستند القائلين بنظرية أصالة الحرب بأحاديث مروية عن الرسول لتقوية موقفهم استناد علماء السنة بالحديث الوارد عن الرسول وهو: عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بالسَّيْفِ، حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ” .
وفي كتب الشيعة حديث مشابه حيث يروي الإمام الصادق عن الرسول قوله: كل الخير في السيف، وتحت ظل السيف، ولا يُقيم الناس إلا بالسيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار” .
وفي الحديث الآخر عن الرسول أنه قال: “أُمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم، وحسابهم على الله” . وفي رواية أخرى روى البخاري عن ابن عمر حديث مشابه وهو أن الرسول قال: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى”.
تقييم الأحاديث السابقة:
يبدو أن الأحاديث التي سردها الفريق الأول تدعو إلى القتال الضروري وفي الحالات الضرورية الإستثنائية وليس كقاعدة عامة. وبالطبع إن كل كل بلد في العالم يحاول تقوية نفسه بالتجهيزات الحربية والخطوط الدفاعية ليدافع عند الضرورة عن وطنه ودينه، والإسلام في هذا لم يأت بجديد فجميع الأمم السابقة كانت تجهز نفسها ضد الإعتداء عليها والنصوص الدينية الإسلامية تدور في فلك هذا التفسير. فيجب على المسلمين مثل غيرهم أن يجهزوا أنفسهم ضد الإعتداءات المحتملة ضد دينهم ومواطنيهم، وهو حق مشروع لجميع الناس دون تفريط واعتداء.
وهناك أحاديث أخرى كثيرة عكس هذا المعنى الذي استنبطه الفقهاء بل على العكس تدعوا هذه الأحاديث إلى عدم الشروع بالقتال إلا أن يشرع العدو بذلك. ومن تلك الأحاديث: قول الرسول لمعاذ «لاتقاتل أعدائك حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلو منكم رجلا، فإن قتلوا منكم رجلا، فلاتقاتلهم حتى تريهم القتيل وتقول هل إلى خيرٍ من ذلك؟ فلأن يهيدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس» .
أو الحديث الذي ورد في الكتب الشيعية وهو: محمد بن يعقوب في حديث عبد الرحمن بن جندب ينقل عن والده: عندما تقابلوا الأعداء، قال الإمام علي: “لا تبدأو الحرب إلا إن بدأؤها لانكم أصحاب حجة عليهم، وعدم شروعكم بالحرب حجة أخرى عليهم” .
أما عن تقييم آراء الفقهاء والعلماء القائلين بأصالة الحرب، فنحن نقول أن أقوال العلماء لا تشكل حجة قاطعة مع عدم توفر الدلالة القطعية للنصوص الدينية. ولا مانع من القول أن آراء هؤلاء الفقهاء هي آراء ناقصة ويجب نقدها (ولا نخاف من ذلك لإن آراء الفقهاء ليست مقدسة كما يفعل البعض بل إن الأحاديث نفسها –من وجهة نظر الكاتب- ليست مقدسة لأن فيها الموضوع والمرسل والضعيف وحتى النص القرآني نفسه يقول الإمام علي عنه أنه حمال أوجه). إن هذه الآراء القائلة بأصالة الحرب قد يكون لها بعد تاريخي معين من حيث أن هؤلاء الفقهاء عايشوا مرحلة صعبة في ذلك الوقت وأنهم في إطار هذا البعد التاريخي اجتهدوا بأن الأصل بين علاقات الدول هي الحرب.
ويقول الدكتور محقق داماد: “بإعتقاد بعض العلماء المسلمين بتقسيم الدول إلى دار الكفر ودار الإسلام وفي هذا التقسيم نفسه تختفي أصالة الحرب ويختفي دليلها فدار الكفر بحسب هؤلاء تشمل أيضا “دار الحياد” و “دار الموادعة” و “دار المهادنة” و “دار العهد” و “دار الحرب” أصالة الحرب تكون فقط في دار الحرب وعليه حتى في هذه الدار إن لم يبدأو القتال فلا يجوز قتالهم”.
ثانیاً: القائلين بأصالة السلم
في الحياة العادية للمسلمين يكرر المسلمون كلمة «السلام عليكم» آلاف المرات في اليوم الواحد فهي عبارة متداولة بينهم بل وتعتبر أجر وحسنات لهم. حتى أن المسلمين حين يذكرون أنبيائهم ورسلهم يقولون عنهم «عليه السلام» وفي ذلك دلالة على أن العلاقة بين الدين الإسلامي وباقي الأديان هي علاقة سلام وصلح.
إستند الفريق الآخر من الفقهاء ومنهم الدكتور محقق داماد بمجموعة من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أصالة السلم وأدلتهم كانت على النحو الآتي:
1) الأدلة القرآنية:
سوف نلاحظ أن الأيات القرآنية التي سنوردها دلالتها قد تصل لدرجة اليقين ولا تحتاج لتوضيح أو شرح. كلمة السلم تكررت مرات كثيرة في القرآن الكريم (133 مرة)، أما كلمة الحرب فكانت استثنائية ولم تذكر إلا في ستة آيات فقط هي: (البقرة: 279)، (المائدة: 33و64)، (الأنفال: 57)، (التوبة: 107)، (محمد: 4).
وعلى رغم أن كلمة القتال وردت في أماكن أخرى من القرآن إلا أنها وكما ذكرنا سابقا فهي تعني مواجهة الظلم والإعتداء ولم تكن أبدا بالمباشرة بالإعتداء وكما هو معلوم للجميع أن أحد أسماء الله هي «السلام» وكلمة الإسلام أيضا مشتقة من السلم.
الف) سورة البقرة، آية 208: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ”. يدعو الله جميع المؤمنين للدخول في السلم والصلح والتعايش وفي هذه الآية من الدلالة الواضحة التي لا تحتاج لشرح ولا تحتمل تأويل.
ب) سورة الأنفال، آية 61: ” وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.
ج) سورة النساء، آية 94: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”.
يأمر الله الذين آمنوا أن يقبلوا من الآخرين الإسلام ولا يشككوا أو يظنوا بالشخص أبدا، وفي كل الأحوال والظروف من قال لا إله إلا الله حتى أثناء المعركة فقد حفظ دمه وماله .
د) سورة النساء، آية 90: ” إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا”.
بُدأت هذه الآية بكلمة “إلا” وهي تفيد الأستثناء فلكمال المعنى سنعود إلى الآية التي سبقتها وهي الآية 89 من سورة النساء التي تقول: ” وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا”. في هذه الآية يوضح الله أن هناك عدة من الكفار يصرون على أن يجعلوا المسلمين كفارا مثلهم ووضح القرآن طريقة التعامل مع هذه الفئة وهي القتال لهم حتى يكفوا عن هذا أما الآية 90 من نفس السورة تأتي لتضع الإستثناءات التي أكد عليها القرآن مرارا وتكرارا وهي أولئك الذي أتخذوا موقف الحياد، وأولئك الذين لديهم عهد .. الخ وفي نهاية الأية يعود ويذكر المسلمين أن من أراد السلم والصلح فلا سلطان لكم عليهم أبدا.
ه) سورة النساء، آية 128: “والصلح خير”. هذه الآية تختص بحل الإختلافات بين الزوجين وليس لها علاقة مباشرة بالجهاد والقتال ولكن يُتسفاد منها أن الأصل في التعامل بين البشر هو السلم والصلح والتعايش. أما النزاع والقتال فهو حالة شاذة في حياتنا وإن حدثت فهي بصورة استثنائية ومؤقتة.
و) سورة البقرة، آية 190: ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”.
ز) سورة البقرة، آية 192: ” فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” وهي تكملة للآية التي قبلها التي استند إليها القائلين بأصالة الحرب وهي الآية 191 من سورة البقرة: “واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم” الله أعطى الأمر بالقتال في هذه الآية في الحالة التي بدأ بها الطرف الآخر مقاتلة المسلمين فهم مكلفون كغيرهم بحفظ دينهم وأرضهم وعرضهم أما حين يعرض هؤلاء عن قتال المسلمين أو يعرضون الهدنة فإن المسلمين مكلفون بالقبول وفي حالة كفوا عن القتال فإن الله غفور رحيم لهم أيضا.
ي) سورة الممتحنة، الآية 8: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.
يوضح القرآن العلاقة بين الناس جميعا تلك العلاقة القائمة على المحبة والسلام فالله لا يمنعكم أيها المسلمون أن تبروا جيرانكم وغيرهم من باقي الأديان، الذين لم يقاتلونكم ولم يخرجونكم من بيوتكم.
2) الأحاديث النبوية:
في السنة النبوية سواء في السنة القولية أو السنة الفعلية تدل على الدعوة إلى السلم دوما وأدلتنا على ذلك الأحاديث التالية:
الف) هل يوجد دليل أفضل من قوله “إذهبوا فأنتم الطلقاء” لأهل مكة الذين قاتلوه وطردوه واستمروا بقتاله لآخر لحظة.
ب) يقول الرسول: “أن الله جعل السلام سلاما لأمتي وأمانا لأهل الذمة”.
ج) سوف نورد جزءا من نص الصلح بين الرسول ومسيحيي نجران حيث كُتب “ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغيب أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته. وليس عليهم دنية ولا دم جاهلية. ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين” .
د) نص القرآن الكريم على أن صلح الحديبة كان فتحاً مبيناً بقوله في سورة الفتح الأية 1 “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”. من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن القرآن وصف صلح الحديبة بأنه فتح مبين للرسول وأصحابه على الرغم إعتراض مجموعة من الصحابة على هذا الصلح واعتبارهم له بأنه خسارة كبيرة.
3) السيرة النبوية:
استمر الرسول بدعوة الناس لدين الله 13 عاما في مكة وقرر بفعله هذا أصالة السلم. وكان يرد اعتداءات المشركين في ذلك الوقت بالقول الحسن ولم يُشهر سيفه بوجه أحد أو يهاجم أحدا أبد بل كان يقول لأصحابه: “لم نؤمر بقتال” ، وبعبارة أخرى لقد كان شعار المسلمون في تلك المرحلة “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” (الفرقان: 63). ونهاية سعي المسلمين في التخلص من ظلم الناس لهم كان الذهاب إلى خليفة عادل في الحبشة، وفي نهاية المطاف الهجرة إلى المدينة.
ومن بعد ذلك دعا الرسول للمسالمة والصلح ولم يجّوز حمل السلاح إلا في الحالات الدفاعية التي يتعرض المسلمون لغزوات واعتداءات قريش وغيرها من القبائل. فلم يبدأ حرب إلا بعد إعتداء أو نقض عهد من قبل أعدائه.
4) آراء الفقهاء المسلمين:
لم يكن الكفر بالإسلام لوحده سببا يجوز للمسلمين قتال غیرهم من المسلمین، ولم يجوز الإسلام للمسلمين أبدا قتل الكفار لمجرد انهم كفار بل وضع على كاهلهم تكليف بدعوتهم بالتي هي أحسن، والدعوة بالتي هي أحسن لم تكن يوما تعني القتل.
بحسب نظر «الثوري»، لا يجوز قتال المشركين إلا إن كانوا هم من بدأ القتال. ومن جهة أخرى يرى «ابن القيم الجوزي» أن القتال لم يكن محللا إلا إن كان في سبيل الدفاع عن النفس ويعتقد أن الحرب لا تكون واجبة على المسلمين إذا بُدأت من طرف غير المسلمين، واذا كانت في سبيل إقرار الأمن في بلاد المسلمين. ودين الإسلام هو دين السلام فقوله الله تعالى في سورة الأنفال، الآية 61: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”.
«الكمال ابن الهمام» أيضا يقول في هذا الصدد أن الهدف من الحرب هو القضاء على الفساد والدفاع عن النفس فقط. وفي تفسيره لآية “وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة” يقول: “إن القتال الذي أُمرنا به في هذه الآية هو قتال الدفاع عن النفس مقابل الإعتداء الذي شرعه الآخرون فهي علاقة سبب ومسبب” .
ويرى المرحوم والشهيد العلاّمة «البوطي» وهو من علمائنا (أهل السنة) أن “السِّلْمَ العالمي هو المحور الذي تدور عليه شرائع الإسلام وأحكامه. غير أن السِّلْمَ لا يوجد ولا يتنامى إلا في حضن العدالة. هذا ما يقرِّره المنطق، ويجزم به التاريخ، ويعرفه الناس جميعاً. لذا فقد كان اهتمام الإسلام بالعدل وترسيخ دعائمه مساوياً لمدى اهتمامه بالسِّلْمَ ومدِّ رواقه. بل كان لا بد منهجياً أن يرعى الأول ابتغاء وصوله إلى الثاني. إذن فبين السِّلْمِ والعدالة تلازم مستمر في الطرد والعكس، أي فكلَّما امتدَّ سلطان العدل امتدَّ رواق السِّلْمِ، وكلَّما تقلَّص سلطان العدل وامتدَّت مكانه ظلل الجور، تقلَّص رواق السِّلْمِ أيضاً وتفتَّحت في مكانه ثغرات الهرج والمرج” .
ويضيف سماحته أن الأصل في العلاقات الدولية هو السِّلْم، قائلاً: “السِّلْمُ في العلاقات القائمة بين المسلمين وغيرهم، بل بين الناس جميعاً على اختلاف نِحَلِهِم وفئاتهم، هو الأصل” . ويرى سماحته أنه لا مانع من إجراء صلح دائم مع الأعداء، بشرط أن ينهض هذا الصلح على أسس تمكين المسلمين من القيام بواجبهم الذي كلّفهم الله به، ألا وهو واجب الدعوة إلى الله، وتبصير الناس بحقائق الإسلام، من دون أي إحراج أو تضييق، وأن الذي يبرم الصلح هو إمام المسلمين، إن رأى أن مصلحتهم العامة في ذلك .
ومسك الختام نذكر الرأي النهائي للدكتور السيد محقق داماد حيث يقول:
إن الحرب في التشريع الإسلامي هي حالة استثنائية (ضرورة) لإقامة الصلح ومن الواضح انها فقط شُرّعت فقط في حالات الضرورة وبالقدر الكافي لرد الإعتداء. اعتبار الحرب أصل في الإسلام فيه مخالفة للمنطق الإسلامي ومن جهة أخرى مثل هذا التأكيد له مخالفين كثر بين علماء المسلمين لإن الأصل في الأشياء الإباحة وبالتالي فإن الأصل هو أن ذمة المسلمين خالية من التكليف والواجب ومن هذا يتضح أن القول بأصالة الحرب فيه مخالفة للقاعدة السابقة وبالإضافة إلى ماسبق فإن القول بها فيها مخالفة لدعوة الشارع الإسلامي بالدعوة للتوحيد بدون إكراه وإجبار.
لا يوجد شك أبدا أن جميع الأديان السماوية تدعو للصلح والسلم ورفع النزاعات والإختلافات بين الناس والإسلام لم يشذّ عن هذه القواعد أبدا. لا يخفى على أحد أن كلمة الإسلام مشتقة من جذر السلم (سِلم، سَلم، سلام). وهذه الكلمة تعني التسليم بقدرة الله وتوحيده برضاء وصفاء خاطر. وفي القرآن ذلك هذا الدين على أنه نور يهدي الناس من الظلام إلى الصراط المستقيم. ولا يخفى أيضا أن أحد أسماء الله هو السلام ويردد المسلمون في صلاتهم: “اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام”.
والمدقق في الحياة اليومية للمسلمين يلاحظ هذه النقطة أنهم يبادرون الناس بتحية مفادها “السلام عليكم”. والمسلمون حتى عندما يذكرون رسولهم أو الرسل والأنبياء يقولون عليهم السلام حتى يدلوا على أنهم مسالمون مع كل الأديان والمذاهب .
بين الكتاب والمحققين المعاصرين القائلين بأصالة السلم نذكر:
رشيد رضا، محمد عبده، أحمد نار، أحمد بدر، محمد عبد الله دراز، عبد الرحمن عزام، عثمان عبد الرحمن المشهور بأبي الصلاح، محمد عزت دروزه، محمد شديد، محمد أبو زهرة، حامد سلطان، وهبة الزحيلي، علي علي منصور، مصطفى السباعي، عبد الحافظ عبد ربه، توفيق علي وهبة، مصطفى كمال مصطفى، إبراهيم عبد الحميد و أبو الأعلى المودودي …
وعليه لم تبقى لأحد حجة بأن الأصل هو أصالة السلم وأن جميع العلاقات فيما بين المسلمين وبين غيرهم من غير المسلمين هي قائمة على الصلح وكل فكر ضال غير ذلك هو فكر ضال ويجب دحضه ويجب أن تحصل قطيعة معرفية معه، لإن مثل هذه الآراء توُدي بحياة بشر مسالمين آمنين.
تقتضي منا الإنسانية أن نحترم الإنسان لمجرد إنسانيته وأن ننبذ كل مظاهر التفرقة العنصرية والتفرقة الدينية فالإنسان محترم بذاته، محترم بفكره وآرائه. وكل شيء يخالف ذلك هو خروج عن إطار الإنسانية وخروج على القدرة على الحياة الاجتماعية والحياة المدنية وتقبّل الآخر.
اترك رد