عبد الوهاب حجازي: أستاذ البلاغة بقسم اللغة والأدب العربي – المركز الجامعي صالحي أحمد النعامة (الجزائر)
توطئة:
الحمد لله الذي لولاه ما جرى قلم, ولا تكلم لسان, والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس لسانا وأوضحهم بيانا, ثم أما بعد:
إنّ تقديم جزء من الكلام أو تأخيره لا يرد اعتباطا في نظم الكلام وتأليفه، وإنما يكون عملا مقصودا يقتضيه دقة غرض بلاغي أو داع من دواعيه، والغرض الدّاعي لتقديم جزء من الكلام هو ذاته الغرض الدّاعي لتأخيره، وهنا نجد أنفسنا أمام موضوع جامع بين النحو والبلاغة هو التقديم والتأخير الذي تناوله جمع من العلماء الجهابذة عرضا وتحليلا.
تعريف التقديم والتأخير:
هو نقل لفظ عن رتبته في نظام الجملة العربية؛ فرتبة الفاعل قبل المفعول، والمبتدأ قبل الخبر، فإذا جاء الكلام على عكس ذلك؛ قيل: إن فيه تقديمًا وتأخيرًا.
علق سيبويه على كلام العرب قائلا :” إنهم يقدمون في كلامهم ما هم ببيانه أعنى؛ وإن كانا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم” .
وقد امتدح وأثنى الشيخ عبد القاهر الجرجاني هذه الظاهرة قائلا :” هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، ولا يزال يفتر لك عن بديعه، ويفضي بك إلى لطيفه، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد أن الذي راقك ولطفه عندك أن قدم فيه شيئًا وحول اللفظ عن مكان إلى مكان” .
وبما أنّ النحو ينظر في التراكيب الكلامية من حيث الصّحةُ و الاستقامةُ فإنّ التصريف بجانبه بما أنّهُ من علوم التصحيح ، أمّا البلاغة فتبدأ حيث ينتهي النحو بما أنّها علم يتجاوز الصّحة والاستقامة إلى جودة البيان ورداءة الفروق بين ضروب النظم على اختلافها فهي تهتم بجمالية النصوص انطلاقا من مبدأ التفصيح، وهنا لايمكن الفصل بين النحو والبلاغة فهما علمان متكاملان متلازمان وكتب المتقدمين لا تخلُّ من التأملات البلاغية والبيانية ،وجدير بالذكر أنّ النحاة القدامى ميزوا بين مستويين في الدراسة النّحوية كما ذكر ذلك احمد سعد في كتابه حين قال :” المستوى الأول تلك القواعد المجردة التي استند فيها النّحويون إلى كلام العرب الفصيح المنقول نقلًا صحيحًا أمّا المستوى الثاني فكان يتمثل في العلاقات المتنوعة بين الكلمات ثم بين الجمل” .
حين نبّه عبد القاهر الجرجاني إلى أهمية علم النّحو والإعراب في التأليف والنظم قال :” أنّ الألفاظ معلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها،وأنّ الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها،وأنّه المعيار الذي يتبين نقصان كلامٍ ورجحانه حتى يعرض عليه ، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقسم حتى يرجع إليه” .
ولم يفتهُ التعقيب على سيبويه في هذا الباب ورأى أنّ عدم الوقوف على النّكت البلاغية للتقديم والتأخير تُفقد صاحبها تذوق هذه الظاهرة إذْ يقول :” وقد وقع في ظنون النّاس أنّه يكفي أن يُقال قدم للعناية ولأن ذكره أهمّ ، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية ؟ وبمَ كان أهمّ ولتخيّلهم ذلك ، قد صغر أمر التأخير والتقديم في نفوسهم ، وهونوا الخطب فيه حتى إنّك لترى أكثرهم يرى تتبّعه والنّظر فيه ضربا من التّكلف ، ولم ترى ظنًا أزرى على صاحبه من هذا وشبهه” .
والتقديم يأتي نوعان :
1- أنّ الشيء المقدم يبقى على حكمه الذي كان عليه وفي جنسه الذي كان فيه كخبر المبتدأ إذا قدّمته أو المفعول إذا قدمته .
2- هو أن تنقل الشيء المتقدم من حكم إلى حكم ، وتجعله بابا غير بابه وإعرابا غير إعرابه ومثل ذلك أن تجد اسمين كل واحد منهما يحتمل أن يكون مبتدأ والآخر خبرا له مثل :”زيد المنطلق” وتارة”المنطلق زيد” فزيد في الأولى مبتدأ وفي الثانية خبر .
وقد ذكر الجرجاني أن علّة النحويين في التقديم والـتأخير هي الاهتمام بالمتقدم والعناية به ورفض هذا وقال أنّه أزرى على صاحبه .
وحين نرى قول سيبويه في مثل هذا نعلم يقينا أنّ ظاهرة التقديم والتأخير ظاهرة عامة نقع عليها في كثير من نظام الجملة العربية :” هذا باب المسند والمسند إليه وهما ممّا لا يغني واحد منهما عن الآخر ولا يجد المتكلم منه بدّا” .
الظاهر أنّ هذا الباب شغل النحويين والبلاغيين وليس من العبث أن يهتموا به وعلى رأسهم سيبويه وعبد القاهر الجرجاني وذلك حين تفطنوا للمعاني المختلفة للتعبير وللنكت البلاغية والأسرار الفنية البيانية وأنّ لكل وضع وأسلوب هدفه ومغزاه وفي ذلك اتساع في القول وقدرة على التعبير وهنا لا بد أن نشير إلى أنّ امتلاك عدد كبير من المفردات لا يعني بالضرورة نجاحه في توصيل المعلومات والتواصل بينه وبين المتلقي ، بل إنّ حسن اختيار الكلمة في التركيب وتعليقها بغيرها في ظرف من الظروف يتمم المعنى الذي يحسن السكوت عليه وهذا من أبرز الأبواب التي يدرسها علم المعاني وهو أحد فروع علم البلاغة :” وتعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال” .
وهنا يظهر لنا ذكاء سيبويه حين تفطن أنّ الخبرة بتراكيب اللغة هي في الوقت ذاته خبرة بالأغراض التي تعبر عنها أو بعبارة أخرى أدرك النحاة أن هناك ارتباطا قويا بين مايسمى بالتراكيب أو مايسمى بالمعاني والأفكار .
وهنا يذكر ابن جني في الخصائص “: وذلك أن الكلام إنّما وضع للفائدة والفائدة لا تجنى من الكلمة وإنّما تجنى من الجمل ومدارج القول” .
ولم ينكر عبد القاهر الجرجاني على سيبويه ملاحظاته حين قصر الغرض من التقديم على العناية والاهتمام إلّا أنّه أخذ عليهم عدم بيانهم من أين كانت تلك العناية ؟وبمَ كان أهم ظ وقد سعى إلى دراسة هذا الباب دراسة جادة عميقة حين رأى أنّه من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين فيجعل مفيدًا في بعض الكلام وغير مفيد في بعض وقوله هذا من إثبات القاعدة وإطرادها ،ولزوم تحقيق الفائدة أو القيمة في جميع أحوال الكلم وضرورة الربط بين الموقع الذي يحتله العنصر اللغوي والمعنى (الفائدة،القيمة) الناتج عن ذلك .
وقد ذكر العلماء أغراضا متعددة للتقديم والتأخير وليس من الممكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة إذْ لابد من تقديم بعضه وتأخيره بعضه الآخر وليس في الكلام شيء في حد ذاته أولى بالتّقدم عن الآخر إلّا مراعاة لأغراض تتعين بحسب العنصر المقدم والمقامات والأحوال، وأوّل ما ذكر سيبويه من هذه الأغراض العناية والاهتمام حين قال في الفاعل والمفعول “: يقدمون الذي بيانه أهم وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم” ، وهذا ما جعل عبد القاهر الجرجاني ما سبب تقديم لفظ على آخر من حيث الرتبة وتأخير آخر وما أهمية ذلك في مدارج الكلام .
من أهم هذه الأغراض :
1- التشويق إلى المتأخر إذا كان المتقدم مشعر بغرابة نحو قول المعرّي أبو العلاء:
والذي حارت البرية فيه **** حيوان مستحدث من جماد
فهنا المسند إليه تقدم واتصل به مايدعو إلى العجب ويشعر بالغرابة وهو (حارت البرية فيه)، وهذا يترك في النفس تشويقا ويدفعها قضولا لمعرفة الخبر المتأخر .
ومثله قول الشاعر :
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها **** شمس الضحا وأبو إسحق والقمر
هنا تقد المسند إليه (ثلاثة) وتأخرت (تشرق الدنيا ببهجتها) وهنا زاد التشويق في النفس إلى أن تعرف هذه الأشياء الثلاثة .
2- كون المتقدم محط الإنكار والتعجب : نحو قوله تعالى (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) فإنّما قُدّم خبر المبتدأ عليه في قوله (أراغب أنت) ولم يقل (أأنت راغب) وذلك لأهمية المتقدم وشدة العناية به .
ويشبهه قول الشاعر :
أمثلي تقبل الأقوال فيه ****ومثلك يستمر عليه الكذب
3- التخصيص : وهذا يعني أن المسند إليه قد يتقدم ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي بشرط أن يكون مسبوقا بحرف نفي ، فيحمل دلالة نفي الفعل عنه وإثباته لغيره نحو قول المتنبي :
وما أنا أسْقمتُ جسمي به **** ولا أنا أضرمت في القلب نارا
إذ المعنى أنّ هذا السقم الموجود والضرم الثابت، ما أنا بجالب لهما، فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما .
4- التنبيه على أنّ المتقدم خبر لا نعت: نحو قوله تعالى (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) وهنا توهم ابتداء أن (لكم) نعت وأنّ خبر المبتدأ سيذكر فيما بعد، وذلك حاجة النكرة أشدّ من حاجتها إلى الخبر .
ومثله قول حسان بن ثابت في مدح الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
له همم لا منتهى لكبارها****وهمته الصغرى اجلّ من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها****على البركان البر أندى من البحر
فلو أنّه أخّر فقال :(هم له)و( وراحة له) ، نتوهم أنّه صفة فقدم الخبر للتنبيه وإزالة الوهم .
وهناك أنواع أخرى من التقديم مثل تقديم الفعل على المفعول ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل وتقديم الحال على الفعل .
خاتمــــــة:
إن العدول في الرتبة من أهم مقومات علمي النحو والبلاغة و لا يكون هذا العدول اعتباطا بل لعلة وغرض مقصود تُبيح للمتكلم التوسع لإبراز الملكة التي يمتلكها في سياقات مختلفة وفيها من الشجاعة ما يُمكنه من مخالفة مظهر من مظاهر وقرائن المعنى دون خشية اللبس واعتمادا على قرائن أخرى تفي بالغرض وتجعل المعنى أرقى من حيث دلالته وبيانه.
اترك رد