مسعد سيدون: باحث دكتوراه في جامعة المدينة العالمية – ماليزيا
منذ أن نزل القرآن الكريم بلغة العرب وعلى نسق كلامهم البليغ في صورة من التحدي والإعجاز أنكب المسلمون عليه دراسة وتدريسا وحفظا وتلاوتة، وتدبرا وعملا، اتخذوه مهج لحياتهم! كيف لا وهو الذي أخذ بأيدهم وأخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والحياة ، مصداقا لقوله ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نور يمشي به في الناس) ولذلك يجد الباحث أن القرآن الكريم قد أحدث ثورة علمية كبيرة، حيث تسابق المسلمون ينهلون من معينه الذي لا ينضب ، يحللون ويدرسون ويفكرون ، لتحقيق مرضاة الله تعالى . ولاتتوقف تلك الحركة على العلوم الدينية من فقه وتفسير وحديث وغيرها ، بل أمتدت تلك الحركة العلمية لتمشمل مناحي الحياة المتعددة آخذين بأمر القرآن ( وقل اعملوا فسيرى عملكم ورسوله والمؤمنين) . وإن مما أرتبط بهذا الكتاب العزيز الذي لايأتيه الباطل من ببين يديه ولا من خلفه .. علوم اللسان و التي أطلق عليها العلماء بعلوم الآلة وهي العلوم التي تتخذ وسيلة لفهم كلام الله تعالى وكلام ورسوله . وبدونها يقع الجهل بنصوص الكتاب والسنة . ومع المشاكل اللسانية التي واجهة الأمة في اتساعها، أصبح لذا العلماء أمرا واجبا أن يضعوا الضوابط والمعايير للكلام العربي ، فنشأ علم النحو ليضبط أواخر الكلم في تراكيبها المتنوعة ، ونشأ التصريف المتعلق ببنية الكلمة ذاتها، وأهتم علماء الأصوات بأصوات اللغة وتبيين أنظمتها من حيث المخارج والمقاطع ، ووصولا إلى العناية بضبط موسيقى الشعر؛ فأخرج الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله تعالى علم العروض..ومع تطور الأمة العربية واتصالها بحضارة الأمم واحتكاكها بها ، أخذ ينشأ على السطح قضايا تتعلق بجيد الكلام وحسنه ومصدر ذلك الحسن .. فأخذ الفلاسفة يتسألون عن سر هذا التركيب أو ذاك فيجيبهم العلماء بأصله من كلام العرب، مثل سؤالهم عن قوله تعلى (ضلعها كأنه رؤوس الشياطين ) فيجابون بأصل ذلك واستقراه في كلام العرب .. من التشبيه بصور متخيله في الشعر كما عند امرئ القيس : أيقتلني والمشرفي مضاجعي … آخر البيت .
يُؤلَف بذلك ( كتاب مجاز القرآن ) ..كما ظهرت في زمن الجاحظ الحركة الشعوبية ، وبظهروها برز الجدل والحجاج عن أصلة الأساليب هل هي عند العرب أم عند الأمم الأخرى لاسيما الفرس ، فيؤلف الجاحظ في هذا الشأن البيان والتبيين ، وقد تطرق فيه إلى مفهوم البلاغة عن كل الأمم وشأنها عند العرب على جهة الخصوص. كما صاحب تلك الحركة النقديية حركة أخرى في مجال الإبداع الشعري ،فأخذ الشعراء في الدولة العباسية يتأنقون بعبارتهم وجملهم وصياغتهم الشعرية وذلك مع مدرسة البديع، ليرد العلماء على تلك الحركة الحداثية بأنه لها أصل في القرآن الكريم وكلام العرب بشعره ونثره ، فنرى ابن المعت يؤلف كتاب البديع مثبات أن تلك الجماليات الفنية لها أصولها في القران وكلام العرب وأن رواد هذه المدرسة لم يأتوا بجديد اللهم إلا الجمع والتوظيف.
للتوالى تلك الدراسات كما عند الآمدي في موازنته ، وأبي هلال العسكري ففي كتاب الصناعتين وغيرهم . ولعل من الملفت ففي هذه المرحلة أن شأة حركة همها إثبات نواحي الإعجاز في القرآن فجاءت دراسات تدول في هذا الفلك كالنكت للرمانيواعجاز القرآن للبلا ني ، وصولا إلى الأمام عبد القاهر الجرجاني.
والملاحظ في هذه المناهج يرى أنها مناهج قائمة على التحليل والاستنباط ، لا على التقسيم والتوصيف على جهة الاسنقرار، ولعل علوم اللغة الأخرى كالنحو والصرف قد استقرت في مناهجها التعليمية منذ كتاب سيبويه مقتضب المبرد وكتاب الجمل للزجاجي غيرها القائمة على التتقسم والتبويب ، وكأنها بذلك قد وضعت لها غاية تعليمية ، لا غاية جدلية كالذي نراه في البلاغة مباحثها, ولذلك لم وضع السكاكي هذه العلوم اللغوية وجمع بينها في كتاب واحد قسم فيها وبوب تيسرا لطالب العلم . وعندما جاء الخطيب القزويني ركز جهده في التلخيص وشرحه على جانب البلاغة ، وقد أعجبه منهج السكاكي بطبيعة الحال لأنه منهج قريب من طالب العلم خصوصا في مجال البلاغة الذي طبق فيه لأول مرة أولا تقسيم علوم البلاغة ، ثم تقسيم كل علم إلى جزئياته التي يتألف منها . بغض النظر عن ما تأثر به السكاكي ومن أثر فيه ، لكنه بذلك وضع لأول مرة علما قريبا من طالب قائم على الحصر والتقسم ليكون سريع الفهم والحفظ . وهو بذلك فتح لمن جاء بعده بابا من المعرفة إلى اختصار المعارف وتقديمها في متون علمية ملخصة يحفظها ويرددها طالب العلم. وإن كان هذا الصنيع قد سبق إليه علماء اللغة.
اترك رد