فاتح الحسناوي: طالب باحث في السوسيولوجيا – المغرب
إن عدم تكافؤ الفرص بين أبناء الطبقات الاجتماعية المكونة للمجتمع الفرنسي لا تحد مكانها فقط في الولوج إلى المعاهد والمدارس العليا، بل نجد تأثيرها واستمرارها. كذلك في الحقل الثقافي والفني بالخصوص، إذ تعمل المحددات الاجتماعية والانتماء الطبقي دورا جوهريا في عملية استقبال واستهلاك الفن والثقافة الرفيعين.
إذ من خلال انفتاحنا على إصدارات بورديو المتعلقة بالفن والثقافة مثل كتاب حب الفن(1966)، وهو مسح إحصائي لتعداد والإقبال على صالات الفنون الأوربية، الذي بين من خلاله المحددات الاجتماعية والتاريخية، وراء دوافع أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة لزيارة صالات الفنون، وهي دوافع متباينة أشد التباين. إذ فهم بورديو الأعمال الفنية على أنها رسائل تتطلب معرفة مسبقة للشفرة الملائمة لحلها.
إذ أظهرت الإحصائيات إن احتمالات تردد أفراد الطبقة العاملة أو المنحدرين من أصول ريفية على قاعات الفنون أقل بكثير بالمقارنة مع أفراد الطبقة الوسطى والعليا، وذلك راجع في رأيه إلى أنهم يفتقرون إلى الشفرات المطلوبة والتي يتمكنون من خلالها تفسير معاني الأعمال المعروضة حيث لم يتلقوا المبادئ الأساسية لتذوق الفن. أما أبناء الطبقات البرجوازية والأرستقراطية، حيث كانت المؤسسات التعليمية تساعدهم وتحابيهم أشد المحاباة من هذه الناحية، فقد ولدوا في وسط اجتماعي متعلم ومثقف ولقوا منذ ولادتهم تشجيعا على زيارة المسارح وقاعات الفنون والمتاحف.
وبهذا مكنتهم قدراتهم وتطلعاتهم الموروثة وأنماط التفكير والطابع الثقافي الذي اكستبوه (الهابتوس habitus) من تذوق وفهم الفن والثقافة، ويرى بورديو أنه رغم عدم إزالة الحواجز الاقتصادية والجغرافية المرتبطة لزيارة صالات الفنون فإن تذوق الفن والثقافة الرفيعين ظل ممارسة محصورة اجتماعيا، ضمن نطاق ضيق، إن الدراسة التي قام بها بورديو تحت عنوان “التصوير” تبين تضاريس التمايز الاجتماعي والتقسيم الطبقي من خلال ممارسة الطبقات الاجتماعية المختلفة للتصوير عن طريق اختيار لقطات أو صور معينة. لاحظ بورديو أن أفراد الطبقات العاملة أكثر استجابة من نظرائهم من أبناء البرجوازية بكثير للصور الفنية التي تعرض مناسبة اجتماعية أو تسجيل حدثا عائليا أو حفل زفاف أو تلك التي يمكن اعتبارها جميلة طبقا للاعتبارات التقليدية كصورة لغروب الشمس مثلا..
كما أشار بورديو أن هذا الجمال الوظيفي، يكاد يتطابق مع ما عرفه كانط “بالذوق الهجمي” في كتابه “نقد الحكم”
ومن هنا يتضح عدم تكافؤ الفرص على مستوى الثقافي والفن بين أبناء الطبقات الدنيا وأبناء الطبقات العليا، الذي يرجع بالأساس إلى المحددات الاجتماعية والموقع أو الوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه الفرد، وبالتالي فاختلاف الاستعدادات والأفعال والأذواق (الهايتوس) من طبقة إلى أخرى هو الذي يفسر اختلاف الأذواق الفنية. بين أبناء الطبقات، إذ يغلب الطابع البسيط أو الهجمي بلغة كانط في استقبال الذوق الفني لأبناء الطبقات الدنيا. بينما يتسم الذوق الفني لدى أبناء الطبقات العليا. بالطابع التأملي التجريدي الذي يدخل في خانة الثقافة الرفيعة. مقابل الثقافة الشعبية لدى أبناء المعوزين.
1-الامتدادات والأبعاد السوسيولوجية
المدرسة كفضاء لإعادة الإنتاج
لقد اتضح جليا من خلال الأبحاث المنجزة في رحاب المؤسسة التعليمية كفضاء عرف مجموع من التطورات التي هي في طور الحدوث، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالتلازم القار ما بين الأصل الاجتماعي والأفاق المدرسية وهذه التفاوتات تظهر للعيان متناقضة بمعنى أن المدرسة أصبحت تعمل على إعادة إنتاج العلاقات الاجمتاعية، وهنا سنعمل على المقابلة بين النظريات الماكرو سوييبولوجية والتي تخول وتعطي مبدأ إعادة الانتاج لموضوع الادماج الاجتماعي، وبين النظريات التي تركز على البعد الصراعي للعلاقات الاجتماعية، وبالتالي فإن المدرسة ساهم في إعادة الانتاج لظواهر وللهيمنة والسيطرة المادية والرمزية، بالرغم من تضارب هذين التيارين على المستوى الاديولوجي فإن الأفراد مازالوا يتمتعون بنوع من الاستقلالية النسبية في علاقة بالبنيات.
المدرسة عامل لشرعية التراتبات
إن هذا الطابع الصراعي الذي يلاحظ أن هناك إعادة لإنتاج وتقسيم العمل وذلك بهدف فهم أشغال المدرسية. ومادامت هذه الأخيرة تتموضع في الحقل الثقافي وفي مجال القيم والدلالات، وحسب ماكس فيبر فإن علاقات القوى المتواجدة في كل مجتمع ينبغي لها كي تضمن طابع الاستدامة، وذلك بتعلمهم وإعطاء معنى للفوارق الاجتماعية من خلال استدخال تراتبية للقيم أو المعايير. بمعنى ذلك أن الجماعات الموجودة في موقع قوة هي التي تقوم بتحديد هذه القيم والمعايير وتمثل المدرسة عاملا لهذا الغرض وبالتالي فهي لا تقوم بانتقاء الأفراد الأكثر كفاءة وإنما أولئك الذين يتناسبون بشكل أفضل مع المعايير الخاصة للجماعة المهيمنة.
-من خلال إبراز مفهوم الوريث عمد بورديو وباسرون إلى بلورة هذا الأفق القيبري الجديد، فإذا كان الباحثان آخذو الطابع الانقسامي للمجتمع من ماركس فقد آخذو من ماكس فيير كون علاقة الهيمنة لا تنحصر في الدائرة الاقتصادية، بل يوجد في إطار رمزي. يمارس من خلال الأفكار والقيم والميولات ويدفع بالمهيمين عليهم في الانخراط في مبدأ الهيمنة عليهم وتلعب المدرسة دورا حاسما في هذا الإطار. لكن أعتمد بورديو باسرون في كتابهما المعنون تحت الورثة تحليل للفوارق الاجتماعية على مستوى ولوج الجامعة والنجاح في الدراسة وإعطاء الامتيازات للاليات من النوع الثقافي على الاكراهات الاقتصادية إلى جانب الراسمال الثقافي الذي يتوفر عليه الأطفال كونهم من الأوساط الميسورة ويبين أن العنصر الثقافي هو الأكثر حسما على مستوى النجاح الدراسي.
من الملاحظ أن هناك تعدد أوجه الإرث الثقافي في المقام الأول على مستوى التمكن مد الأدوات الفكرية فعلى سبيل المثال الأطفال في وسط ميسورة يمتلكون رأسمالا لغويا يكون ملائما مع متطلبات المدرسة. ويرثها الأطفال من أسرهم أو ما يسميه haditus وهو من بين المفاهيم الأساسية عند بورديو واستعمله لدلالة على جميع الاستعدادات والمكتسبات المستدخلة والمستحضرة دائما قبل الشخص الذي يبدو قادرا عل إنشاء وبناء عدد لا نهائي من الممارسات والخطابات.
ان السموت حركات وأساليب وجود أكسبت واستحضرت لدرجة سياق وجودها إنما اطرادات ورتابات ذهنية، إنها العادة والعود والسمت يتيح للإنسان التطور بحرية داخل وسط معطى والتحكم الواعي في كلماته وحركاته.
ويتضح جليا هذه النزعة في الحياة من خلال كتابه الحس العلمي sens Pratiquer . كما يشرح بورديو وباسرون التشكيل الاعتيادي لشروط الموضوعية التي تشكل نتاجا لها إذ يتعلم الأفراد استباق المستقبل وفق تجارب الحاضر. وهكذا فإن بنية حظوظ الارتقاء من قبل المدرسة. تشرط مختلف مظاهر الجاهزية حيال المدرسة والارتقاء بواسطتها.
كما تتجاهل المدرسة هذا التنوع في الإرث الثقافي وتفهم عن لامبالاة تجاه الاختلافات ففي مواجهة جمهور لا متجانس تغدي المدرسة ما هو ضمني والذي يبقى في متناول الورثة وهؤلاء الورثة يكتسبون الثقافة بشكل طبيعي، لأن لهم علاقة حميمية مع الكتب والموسيقى والفن والآداب على خلاف المنحدرين من الأوساط المتباعدة، وهنا تظهر التفاوتات الاجتماعية على المستوى الثقافي، وهذه الشروط الاجتماعية للنجاح الدراسي. تظل أساسا كي تقوم المدرسة بوظيفتيها المتمثلة في شرعته النظام الاجتماعي حتى يتعين عليها القيام بكل شيء ويتم إدراكها على أنها مشروع أساسي يتأسس على تفاوت في الكفايات ما بين التلاميذ والطلبة، وهذا ما يطلق عليه اديولوجية الموهبة، ذلك على أن التفاوتات على مستوى النجاح بالمدرسة ينبغي إدراكها بصفة إطلاقية باعتبارها تعكس تفاوتات نظرية بين الأفراد. وفي هذا السياق يذهب بورديو وباسرون بعدم وجود الموهبة ذلك أن التلميذ الموهوب شبيه بالوريث بنوع من الغرابة لكون وضعه الاجتماعي يبدو في الأن نفسه تتويجا عادلا لميراثه الجوهرية وهذا يعطي للمدرسة صفة طبيعية لما هو اجتماعي ومن خلال تحويل التفاوتات الاجتماعية إلى تفاوتات على مستوى الكفايات في هذا السياق يقول أكساردو تأخذ الارستقراطية في ظل الديمقراطية قناع ديمقراطية الاستحقاق.
إذن هذه المشروعة التي تأخذها المدرسة من قبل جماعة مهيمنة سلطة إجبارية أي سلطة فرض محتوياتها توافق مصالح هذه الجماعة فحسب من ثم فإن الثقافة التي تحررها المدرسة تتمثل عنها مشروعية وموضوعية وغير قابلة للجدال بينما هي اعتباطية وذات طبيعية اجتماعية تتأسس على قاعدة انتقائية.
لكن إلى حدوث السبعينات وفي سياق إعادة الإنتاج كان الفشل الدراسي أبعد من أن يشكل اختلالا تقنيا يبرر على أنه ضروري اجتماعيا في ظل نظام موجود من قبل علاقات للهيمنة وذلك من خلال الدفاع عن تلك البيداغوجيا العقلانية التي ظهرت أثارها في كتاب les héritiers وبصفة عامة الغموض التي يكتنف الإصلاح.
موقف بورديو وباسرون: الهيمنة وإعادة الإنتاج
انطلاقا من التمفصل ما بين النتائج والأصل الاجتماعي حول النظرية التي قام ببنائها كل من بورديو جان كلود باسرون
إن التفاعل ما بين عامل داخلي للمدرسة (نوع معين من الثقافة المدرسية) وعامل خارج عنها(نوع معين من الثقافة الأسرية) يشكل مبدأ رئيسيا لحظوظ متفاوتة جدا في النجاح أو الفشل بالنسبة لأي مستوى دراسي. تبعا لطبقة الانتماء الاجتماعي الأصلي ومن ثمة فالمدرسة تسجل تفاوتا دراسيا بمعنى أن هناك انتقاء اجتماعي ولهذا يظل دور العوامل الثقافية حاسما للجانبين(الأسرة والمدرسة) ويدل الرأسمال الثقافي بمعناه الدقيق ديبلومات الوالدين(مكتبة الأسرة، الممارسات ذات الطابع الثقافي) أما جانب المدرسة. فتعني أنماط أحكام المدرسين والأهمية التي تعطي لتوزيع الثقافة وبالتالي فمؤلف الورتة يشكل أطروحتين أي الانتقاء والشرعنة. نظرية إعادة الإنتاج في أخر المطاف بالرغم من بنية الفوارق ما بين الطبقات الاجتماعية تتغير من خلال انتقالها في اتجاه الأعلى. ويبقى عليها في ظل التوزيع الحاسم لرأس المال الثقافي والمتمثل في الشواهد الدراسية. ويصف بورديو اعوجاجات نمط إعادة إنتاج مركبة مدرسيا. وهنا يطالب بديمقراطية الثقافة.
ومن خلال كتاب la reproduction 1970 يبين أن هناك تراكب لثنائية شبكة أولية شعبية وشبكة ثانوية نخبوية على الطبقات الاجتماعية المتواجدة وفي هذا السياق لا ينبغي خلط الإبقاء على الفوارق الثقافية ما بين الطبقات بملائمة النتاجات المدرسية لبنية الوضعيات التي يوفرها المجتمع فكل شيء يشير على خلال ذلك إلى أن الاستقلالية النسجية للعبة المدرسية اليوم يؤدي إلى الحشر داخل السوق لجمهور حائز شهادة دراسية لا يناسب عروض للسوق الشغل ويتعلق الأمر بلا تناسب موضوعي وبالتالي تواجد إعادة الإنتاج.
إن الملاحظ أن المدرسة التعليمية تساهم بشكل كبير في إعادة إنتاج توزيع رأس مال ثقافي وبالتالي بنية المجال الاجتماعي والحديث عن الرأس مال الثقافي لابد من ربطه بالاستراتيجيات السائدة استراتيجيات العائلة والمنطق الخاص للمؤسسة التعليمية وهكذا نجد هو موجودة مسبقا في النظام التربوي والتي تفصل بين الحائزين على رأس مال ثقافي موروث والمحرومين منه وتتجه المؤسسة إلى الاحتفاظ بالفوارق الاجتماعية الموجودة.
وهذا الاختلاف يكرس تقديس الفئة المقدسة و؟؟؟ في حالة غياب الحس النقدي لا نرى ما تخفيه المؤسسة التعليمية وبالتالي المدرسة تصبح ارستقراطية وذاتية تدخل سلطة الجدارة عن طريق تفضيلها للاستعدادات الفردية وبالتالي فإن هذه السلطة تكون مفروضة كشرعية لسلطة الدولة.
خلاصة تركيبية:
من خلال هذه الإحصائيات والاستنتاجات يتضح أن النظام التعليمي الفرنسي يخضع لتقسيم وتمييز بين أبناء الطبقات الاجتماعية المكونة للمجتمع.
هذا التقسيم أو التفاوت يخضع لمتغير أو محدد الموقع الاجتماعي على اعتبار أن الميكانيزمات والآليات التي تتحكم في مسألة الانتقاء والولوج إلى المدارس العليا تعمل وفق إستراتيجية محددة. من أجل الحفاظ على البنيات الاجتماعية بتراتبيتها من خلال إنتاج وإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية. وبالتالي فإن هناك حتمية اجتماعية يصعب التحرر منها.
إلا أن بورديو يرى أن هذه الحتمية لا تعني أن الفرد لا قدرة له على تغييرها وإلا فلم تكن هناك عبر التاريخ ثورات الفلاحين والعمال والمضطهدين وإضرابات الطلبة وغيرها من الحركات السياسية والاجتماعية ضد الأوضاع القائمة.
كان بورديو مدركا أن الأشياء من الصعب تغييرها ولكنه كان يبين كيفية وإمكانية تغييرها عبر دراسته الهابتوس والعنف الرمزي. وأنماط الهيمنة وغيرها من المواضيع حول النسق الاجتماعي، فالنقد السوسيولوجي ينشط ويفعل اللاوعي الاجتماعي ويوقد حاسة اليقظة لدى الفاعل الاجتماعي في علاقته بواقعه.
إن معرفة المحددات الاجتماعية هي التي تساعد على الحرية والعمل وبالتالي تصبح السوسيولوجي أذات للتحرر.
المراجـــــــع المعتمــــــــدة
-عبد الكريم غريب، سوسيولوجيا المدرسة، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2009.
-بيبربورديو، الحس العملي، ترجمة أنور مغيث، دار الأزمنة الحديثة.
-محمد شقرون، الكتابة والسلطة والرمز، مطبعة النجاح، 2000.
-إلهام غالي، الانتروبولوجيا الفكرية، دراسة في انتروبولوجيا بيبربورديو، الطبعة الأولى، 1999.
-المعطي الزهيري، ايدولوجيا المدرسة، الطبعة الأولى 2003.
-وجهة نظر، العدد 46 صيف وخريف، 2010.
-عبد السلام بن عبد العالي الرمز والسلطة، الطبعة الثالثة، 2007.
-مجلة عالم المعرفة، سوسيولوجيا الفن، عدد 2007.
-هاشم صالح حوار مع بورديو، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 37.
اترك رد