محمد الفناني: ماستر في مقاصد الشريعة
إن أمر تحرير الأقصى، وكل أقطار المسلمين، ليس مجالا للاختيار ولا للانتظار، بل لقد أضحى أمرا ملحّا، وهو قبل ذلك أمر واجب، يطلب إلى الأمة بمجموعها أن تسعى إليه سعيا، ولا تذخر جهدا في سبيل تحقيقه. لكن يبقى هذا كلاما فضفاضا، لكل من هب ودب أن ينثره في آذان السامعين، ويجيب به كل المتعطشين لنصر ثمين غاب منذ مئات السنين، حتى شد الأمة كلها إليه الحنين. وحتى يكون طلب النصر للأمة على بصيرة لا بد له من منهج وشروط. فما المنهج؟ وما هي الشروط؟
إن كل من يروم تحقيق عمل ذي بال لا بد له من خطة محكمة يلتزم بها، ولا بد من توافر عدة شروط بدونها يكون العمل خداجا، ويلحقه النقصان أو الفشل، وإن أمرا عظيما كنشدان نصرة الأمة الإسلامية، يحتاج منا جميعا- معاشر المسلمين – إلى تكثيف الجهود، وتبادل الأفكار والتعاون على وضع المنهاج والخطة لإخراج الأمة من مستنقعها وانتشالها من سفحيتها. ويا لعجبي من بعض من تسموا علماء كيف يجيبون كل سائل عن سبيل نصرة الأمة بجواب بسيط، غبي، سخيف، عاجز، كسول، لا يدل على عمل، ولا يوقد همما ولا يوقظ همّا، ولا يحرك عزائما، ولا هم يخجلون. يقولون بكل ثقة “إن نصر الأمة يتلخص في رجوعها إلى كتاب ربها، وسنة نبيها”، وهل النقاش حول هذا؟ وهل الخلاف في هذا؟. إنما النقاش بين المسلمين حول كيفية توظيف ذينك المصدرين الأصليين في شحد همم راكدة لنشطان العزة. إنما النقاش حول وضع المنهاج المستند إلى القرآن والسنة والذي من شأنه أن يقود سفينة التغيير الشاملة، ويحقق النهضة الإسلامية المتكاملة، كيف السبيل إلى تحقيق اقتصادي إسلامي؟ وصناعة إسلامية؟ وتجارة وفلاحة إسلاميتين؟ كيف السبيل إلى أسلمة العلم والبحث؟ … إن الأمر يا علماءنا ليس مجرد كلام بسيط يزيد اليأس أكثر مما ينعش الآمال.
لست أزعم أنني سأبين المنهج ولا الشروط لنصر الأمة الإسلامية، وهذا الأمر ليس موكولا لفرد بعينه، بل لا بد فيه من تظافر جهود الصادقين، وقصدي من خلال هذه الأسطر أن ألفت الانتباه إلى أمرين أساسين هما ضرورة الاتحاد، وضرورة وضع المنهاج، ومعرفة الشروط، والسعي إلى جمعها. ولا بأس من أن أشير بعض الإشارات في هذا الباب، مستعينا بما أثله كثير من العلماء العاملين جزاهم الله عنا خيرا.
أقول إن الحديث عن مستقبل النصر والعزة، يشير أول ما يشير إلى حاضر الهزيمة والذلة، ومعرفة الواقع أولى خطوات المنهاج، بعده مباشرة لا بد من تحديد أسباب الهزيمة، وهي لا شك أسباب كثيرة، أقف مع واحد منها بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر منه، ألا وهو داء الوهن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم”يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال قلنا وما الوهن؟ قال حب الحياة وكراهية الموت”1 .
الغثائية التي تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم التي صرنا إليها مردها إلى ذلك الداء العضال المسمى(الوهن). السباق على جمع حطام الدنيا، واللهث خلفه، والتمسك به، وكراهية الموت ولقاء الله، كلها أمور تنزع الهيبة عن المرء، فلا يؤبه له، ولا يخشى بأسه، بل إن زوال الهيبة عن المرء تكون دافعا لكل من هب ودب أن يمد عليه يده، ويعتدي عليه.
فإذا علمنا أن غثائيتنا وهزيمتنا، وما صرنا إليه من تشتت وفرقة بعد وحدة، وضعف وهوان بعد قوة، إنما مرده إلى مرض قلبي جعلنا ننصرف إلى همومنا الفردية وننشغل بها، ونسينا همنا الجماعي وقبله هم الآخرة، والآخرة خير وأبقى، وهم الله تعالى، والله خير وأبقى، فإن العلاج لا شك سيكون بناء على هذا التشخيص، وهو العناية بتلكم المضغة التي متى أصلحناها أصلح الله شأننا كله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” … ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” 2
إصلاح هذه المضغة لا يكون إلا بما وصفه الطبيب صلى الله عليه وسلم من مداومة على ذكر الله، ومن التضرع والافتقار إلى الله، ومن القيام في الثلث الأخير وطلب ما عند الله، ومن استحضار للوقوف بين يدي الله، ومن ذكر الموت هادم اللذات كما سماه صفي الله، ومن محبة وشوق إلى لقاء الله. ومَن أحب لقاء الله أحب لقاءه الله .
بهذا وبه أولا يصلح حالنا ويُغير الله ما بنا، لقوله عز وجل” لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” 3، حتى نغير ما بأنفسنا من حب للدنيا وكراهية للموت.
لا ينهض بهمّ نفسه وبهمّ أمته إلا الرجال الذي جاهدوا أنفسهم، وزكوا بواطنهم، وطهروا ظواهرهم، فأحبهم الله ونصرهم. “والله يحب المطهرين” 4.
إننا متى تحررنا من هزيمتنا النفسية، ومن قيود الدنيا، ارتفعت مطالبا، فلم نرضى بغير الله مطلبا ولا بقربه مقصدا، فإذا حصل لنا هذا بدت لنا حقارة خلافاتنا المذهبية والطائفية والاقتصادية، والسياسية، فتنازل بعضنا لبعض ووحدنا المقصد والوجهة والهدف.
فإن تحقق هذا – وسيتحقق بإذن الله بنا أو بغيرنا – فقد حصلنا أهم شرط وأعظمه، ووضعنا أول خطوة في البناء الإسلامي، وبقي علينا وضع منهاج السير، وهو الخطة الشاملة لنهضة الأمة وإعادة عزتها. وبغيره لا يكون شيء، فمن لم يخطط لنجاحه فقد خطط لفشله.
لا بد بعد وحدة الأمة، من جمع العلماء الصادقين في كل تخصص لصياغة برنامج العمل، وإخراجه وعرضه على الأمة لتصادق عليه، وتنخرط فيه، وتعمل على تطبيقه.
إن مسألة تحرير الأقصى إذن مسألة قلبية قبل كل شيء، وقضية تسبقها قضايا تفضي إليها، فإذا كان تحرير الأقصى واجبا فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما قرر ذلك علماؤنا الأفاضل. ولن يحرر الأقصى إلا الرجال الصادقون، الرجال الذاكرون، الرجال المتطهرون، الرجال التواقون إلى الله، الواضعون هم الله فوق كل هم أرضي دنيوي فردي.
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
1 مسند الإمام أحمد(5/278)وسنن أبي داود(4/11)
2 صحيح البخاري،كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه
3 سورة الرعد، الآية :12
4سورة التوبة، الآية : 109
اترك رد