د حسن محمد أحمد محمد، أستاذ مساعد بقسم علم النفس، كلية الآداب، جامعة أم درمان الإسلامية
ـــ تقديم:
إن قضية المرأة هي قضية كل المجتمعات الإنسانية قديماً وحديثاً، فالمرأة تشكل نصف المجتمع، من حيث العدد، ولكنها تمثل أعقد ما في المجتمع من حيث المشكلات، ومن ثم شكلت حضورًا دائمًا في جميع منتديات ومحافل الفكر والفلسفة والأدب والسياسة، والاقتصاد، …، أكثر مما شكلته العديد من القضايا الإنسانية. ليس الموضوع هو عداوة المرأة أو صداقتها كما يلذ للبعض أن يصوروا ذلك لأغراض غير خفية، وإنما الهدف هو وضع المرأة في المجتمع السوي، ولنستمع إلى السيدة عائشة (رضي الله تعالى عنها وهي تحدثنا كيف كان رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، يعاملها: (عن عائشة رضي الله عنها قالت والله لقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين أذنيه وعينيه ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف) (سنن البيهقي الكبرى، ج:7، ص: 92). تحدثنا، أيضًا، عن خصاله الكريمة في معاملته وملاطفته لزوجه حيث يروي لنا الإمام أحمد في مسنده: (عن عائشة قالت: خرجت مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك) (مسند أحمد بن حنبل ج6/ص264)، ويعلق صاحب كتاب تحفة العروس على هذا الحديث ليقول: لعل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أراد بهذا تعليم الزوجين استحسان الاستمتاع كل منهما بصحبة شريك حياته … كي لا تكون الحياة الزوجية جد ٌّ على الدوام.
لقد عاشت المرأة حياتها، منذ القدم، في ظل الحضارات القديمة مضطهدة ومسلوبة الإرادة بصورة لا تكاد تخفى على العين؛ ولكن حينما جاء الإسلام عمل على رفع الظلم والاضطهاد عنها، وقد نظم الإسلام حقوق المرأة ورعاها خير رعاية, إذ كانت مهضومة الحقوق في الجاهلية، يقول تبارك وتعالى: ( َلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228) وأيضاً لهن مثل ما للرجال من السعي في الأرض والعمل والتجارة ، يقول عزَّ شأنه: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ً) (النساء:32) . وكان كثير من غلاظ القلوب يئدون بناتهم خشية العار، فحرم ذلك القرآن ، يقول جلَّ ذكره : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل :58 ,59) . وحرم البغاء وشدد في النكير عليه. ونظم الزواج وجعله فريضة محببة إلى الله ونعمة من نعمه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم:21).
ومما ورد في بعض كتب الأدب، في هذا المضمار، أنه حينما داهمت جيوشُ (ميسان) منطقةَ العراق، خرج جيش المسلمين لملاقاتهم بقيادة المغيرة بن شعبة، فقامت امرأة من بين النساء يقال لها أزدة، بعد أن خرج الجيش، وحمست النساء فقالت لهن : إن رجالنا في نحر العدو(مواجهته) ولا آمن أن يهجم العدو علينا, وليس معنا من يمنعنا, كما أخاف أن يتكاثر العدو على المسلمين فينهزموا، فالرأي عندي أن نخرج حتى يظن العدو أننا مدد للجيش فتنكسر شوكته وتقوى شوكة رجالنا. فوافقنها على ما رأت، فسارت بهن وهي في مقدمتهن وكأنها القائد المظفر، حتى وصلت موقع المعركة فألهبت حماس الجيش عندما راحت تردد هذه الأبيات محمسة الجيش:
يا ناصر الإسلام صفاً بعد صف * إن تهزموا وتبروا عنا نخف
أو يغلبوكم يغمزوا فينا الغلف
فثارت حمية المسلمين كما انكسرت شوكة العدو عندما رأى جماعة النساء ظناً منه أنه المدد، فانتصر المسلمون على أعدائهم وعادوا ظافرين منتصرين، إنه من كيد النساء.
لقد كان للمرأة، منذ القدم، أثرها الفاعل في توجيه سلوكيات المجتمع بكامله، ويمكنها تحديد نمط حياة الرجل، لاسيما في جانب المشاعر والأحاسيس العاطفية، فقد سيطرت المرأة على مركز تلك الأحاسيس والمشاعر بشكل جليٍّ وواضح عندما تربعت كالإمبراطورة المتوجة على العرش أعني (قلب الرجل), وقد ظلت المرأة تقود حركة الحياة الاجتماعية على الرغم من سيطرة الرجل الظاهرية، ويمكننا ملاحظة ذلك في كثير من السلوكيات التي تنتظم مسيرة كل جماعة إنسانية، لا اختلاف في ذلك بين جماعة بدائية تعيش في الأحراش والأدغال وبين جماعة أخرى تتفيأ ظلال الحدائق وتنعم بالعيش في أرقى المدن، ففي كل هذه المجتمعات يمكننا ملاحظة بصمة المرأة التي لا تخفى على المتأمل لحركة الحياة الاجتماعية، إذ نجد للمرأة وجوداً في كل ما يمس النسيج الاجتماعي، فرجال القانون، يقولون، في حال وقوع أيُّ جريمة: (أبحث عن المرأة) إذ تشكل المرأة في كثير من الجرائم الدافع الأقوى في ارتكابها؛ لذلك نجد أن رجال القانون يسلطون الضوء على المرأة أولاً وقبل كل شئ. تقول الأمريكية الباحثة أيدا أيلين: إن سبب الأزمات في أمريكا وسر كثرة الجرائم هو أن المرأة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق. ونحن قد لا نأخذ مثل هذه الآراء على إطلاقها فهناك الكثير من الأسباب التي تراكمت وجعلت المجتمع الأمريكي يصل إلى هذا الحد من الإجرام منها أن المجتمع الأمريكي هو عبارة عن خليط أو مزيج من عدة مجتمعات؛ مما يجعل التنافس بين تلك الأنماط والأخلاط البشرية يبلغ ذروته، وبالإضافة إلى ذلك هناك عدم الفهم والتقدير للحرية الواسعة الممنوحة للفرد والتي استخدمها الكثيرون بشكل غير أخلاقي مما أدى إلى استشراء الجريمة في ذلك البلد، ولا ننسى أن الأمريكان مولعون بالإحصاءات لذلك نجدهم يبرزن إحصاءات الجريمة في بلادهم دون خوف، وفوق كل هذا وذاك نجد أن وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً في رسم صورة غير حقيقية للمجتمعات الغربية.
ولا يمكننا إلا أن نقول إن المرأة سيطول انتظارها وهي قابعة في قفص الاتهام إلى أن تقرر المحكمة براءتها من تلك التهم المنسوبة إليها أو إدانتها.
المرأة مصدر
قوة الرجل
إن المرأة ليست من الضعف والهوان، وتحضرني في هذا المقام قصة امرأتين تنبآن عن مدى ما تتمتع به المرأة من قوة بدنية: القصة الأولى، وبطلتها الصحابية الجليلة أم هاني (هند بنت أبي طالب، رضي الله عنها) مع أخيها علي (كرم الله وجهه) وهي قصة تبيِّن لنا مدى ما تتمتع به المرأة من قوة جسدية ، وأنهن لسن ضعيفات بل لديهن من القوة ما يستطعن أن يغلبن أقوى الرجال؛ (كحالة 1959م) تقول القصة: إن الحارث بن هشام قد استجار بأم هاني فأجارته، وكان ذلك أبان فتح مكة، ولكن علياً (كرم الله وجهه ) أراد أن يقتله فمنعته فاستل سيفه وتقدم ليقتله دون أن يهتم بحديثها له فوثبت أم هاني وقبضت على يده فلم يستطع أن يتحرك من مكانه، ودخل رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وعلي (كرم الله وجهه) بين يدي أم هاني فروت أم هاني ما حدث فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت، ولا تغضبي علياً فإن الله يغضب لغضبه أطلقي عنه. فأطلقته، فقال له رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وهو يداعبه، : يا علي غلبتك امرأة، فقال علي: يا رسول الله ما قدرت أن أحرك قدمي. أما المرأة الثانية، فهي غزالة زوجة شبيب بن يزيد زعيم الخوارج الشبيبية تلك المرأة التي قاتلت مع الخوارج قتالاً يعجز عنه الكماة من الرجال، وقد ضرب بها المثل في شجاعتها، ويقال إنها نذرت بأن تأتي مسجد الكوفة وتصلي فيه ركعتين بسورتي البقرة وآل عمران، فخرجت في سبعين رجلاَ وأوفت بنذرها، كما أن الحجاج بن يوسف كان قد فرَّ من أمامها في إحدى معاركه مع الخوارج، حتى احتمى بالمسجد، وفي هذا يقول الشاعر:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر
هلا بررت على غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر
إن المرأة تملك من قوة الدفع والإثارة ما لا يملكه أعتا الرجال وأقواهم. إذ للمرأة أثرها الفاعل في شحذ همم الرجال في البناء والتعمير؛ لاسيما في المعارك الحربية، وعلى الرغم من أنها لا تحارب، إلا أنها تثير حمية الرجال في القتال وتصدهم عن الفرار من ساحة القتال إن هو فكر في ذلك في لحظة ضعف أو ساوره شعور بالهزيمة . وقد ذكر أنه عندما قيل لأم عمارة (نسيبة بنت كعب الأنصارية) هل كن نساء قريش يقاتلن مع أزواجهن؟ قالت : أعوذ بالله، لا والله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم ولا حجر، ولكن رأيت معهن الدفوف … يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر ومعهن مكاحل ومراود فكلما ولى رجل أو تكعكع (تقاعس) ناولته إحداهن مرواداً ومكحلة وقالت إنما أنت امرأة. إنه للعار الذي لا يمحوه الزمان أن يوصف الرجل بالجبن فما بالك إن كانت الواصفة امرأة، والله إنه لعار يتوارثه الأبناء عن الآباء والجدود. إذاً فبإمكاننا أن نقول إن للمرأة في هذه الحياة دور في الحروب وكلمة في السياسة ورأي في المجتمع، ومكانة في قصور الحكم وبرلماناته السياسية والاقتصادية بين النواب والوزراء. ولها ذوق في الطعام والشراب وصوت في الغناء … فهذه أشارت على زوجها بمشورة وتلك قادت معركة ، وهذه لعبت دوراً في وصول ابنها إلى سدة الحكم وغير ذلك من الأدوار التي لا تحصى ولا تنتهي؛ لذلك فعلى العقل والفكر المتنور لدى المسلمين ـ لاسيما الفقهاء ـ أن يستيقظ من غفلته وأن يأخذ في تصحيح مسار فكرته عن المرأة وأن ينظر لها على أنها تشكل نصف المجتمع الإنساني؛ بحيث يعمل على إعطائها دورها في أن تتبوأ منصبها في مراكز صناعة القرار وبناء المجتمع، أي أن تصبح شريكاً فعلياً في جميع ضروب الإبداع الإنساني من حيث التطور والتقدم الفكري والإبداعي والعلمي والعملي …، لقد نالت المرأة العديد من الحقوق: كالعمل, التعليم، الرعاية الصحية، والعمل، المناصب السياسة،… وغيرها. إلا أن تلك المكاسب جاءت بفضل وجهد العديد من الرجال من ذوي الفكر الثاقب والعقول المضيئة التي تملك من البصيرة وبعد النظر ما لا يملكه غيرهم؛ لذلك استطاعت المرأة أن تنال شيئاً من حقوقها.
لقد عاشت المرأة في ظل الرجل، الأمر الذي مكن الرجل من أن يسيطر على كثير من أمورها الخاصة والعامة، إلا في بعض الأحيان حيث كنا نجد بعضهن قد خدمته ظروف خاصة فاستطعن أن يملكن قرارهن بأيدهن، من أمثال السيدة خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها وأرضاها، وهي أولى زوجات رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب المعروفة باسم آكلة المرار، وغيرهن ممن وجدن ظروفاً ساعدتهن على امتلاك أمرهن وقرارهن بأيديهن. وللخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد) قصة مع الشاعر دُرَيْد بن الصُمة تدلل على أن النساء في الجاهلية لم يكن جميعهن مستضعفات على إطلاقهن كما يقال ، فمنهن من ملكت زمام أمرها. فعندما رأى الشاعر المعروف دريد بن الصمة الخنساء وهي تهنأ (تعالج) بعيراً، قال:
حيوا تماضر واربعوا صحبي * وقفوا فإن وقوفكم حسبي
ما إن رأيت ولا سمعت به * كاليوم طالي أينق جرب
متبذلاً تبدو محاسنه * يضع الهناءة مواضع النقب
ثم راح فخطبها إلى أبيها الذي أشاد بكرمه وحسبه وشجاعته ومروءته، ثم دخل على ابنته يستشيرهاـ ودريد يسمع، فقالت الخنساء: يا أبتي أتراني تاركة بني عمي مثل الرماح العوالي وناكحة شيخ من بني جشم، فانصرف دريد متحسراً عليها.
وتحدثنا كتب السيرة والأدب، عن صحابية جليلة وشاعرة طبقت شهرتها الآفاق هي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد التي كان الرسول الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول: (إيه يا خناس) وهي عبارة تنم عن استحسانه لشعرها بل وكان يقدمها على سائر الشعراء. ومما يروى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه لما قدم عدي بن حاتم على رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، قال: يا رسول الله إن فينا أشعر الناس، وأسخا الناس، وأفرس الناس، قال، صلى الله عليه وسلم: سمهم، قال: أما أشعر الناس فامرؤ القيس، وأما أسخا الناس فحاتم بن سعد، وأما أفرس الناس فعمرو بن معدي كرب. فقال: الرسول الكريم ( عليه أفضل صلاة وأتم تسليم): ليس كما قلت أما أشعر الناس فالخنساء ، وأما أسخا الناس فمحمد (يعني نفسه الشريفة)، وأما أفرس الناس فعلي بن أبي طالب.
وقيل لجرير بن الخطفي من أشعر الناس؟ قال: أنا لولا الخنساء، قيل له: بمَ فضلتك؟ قال: بقولها:
إن المزان وما يفني له عجب * أبقى لنا ذنباً واستأصل الرأس
إن الجديدين في طول اختلافهما * لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وكانت تضرب للنابغة قبة حمراء في سوق عكاظ وتأتيه الشعراء ليحكم في شعرهم فجاءته الخنساء فأنشدته قصيدتها التي مطلعها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
فقال لولا أن أبا بصير (حسان بن ثابت) أنشدني آنفاً لقلت أنك أشعر الجن والإنس.
ومما كان يقوله الشاعر بشار بن برد عن شعر النساء قوله : لم تقل امرأة شعراً إلا وتبين الضعف فيه. فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك امرأة كان لها أربع …
أما أجود ما قالته الخنساء فهو شعرها في رثاء أخويها معاوية وصخر وخاصة صخر الذي أكثرت فيه من رثائها:
أعيني جودا ولا تجمدا * ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجرئ الجميل *ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العماد * ساد عشيرته أمردا
وسألها عمر (رضي الله عنه )، وكان محباً للشعر يتذوق جيده: أخبريني بأفضل بيت قلته في أخيك، فقالت:
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى * فأنت على من مات بعدك شاغل
تلك هي الخنساء المرأة التي قدمت أربعة من الشهداء في معركة القادسية, ويقال إنها جمعتهم في ليلة المعركةـ تحرضهم على القتال وتحثهم عليه، فقالت لهم: يا بني أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200) فإذا أصبحتم غداً سالمين فاغدوا إلى حرب عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن سياقها( جمع ساق) … فتيمموا وطيسها وجالدوا (قاتلوا) رئيسها عند احتدام خميسها (جيشها) تظفروا بالغنم (الغنيمة) والكرامة في الخلد …
فخرجوا وكان كبيرهم ينشد فيقول :
يا إخوتي إن العجوز الناصحة * قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحة * فباكروا الحرب الضروس الكالحة
فقاتل حتى قتل، فجاء الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات الحزم والجلد * والنظر في الأفق والرأي المسدد
قد أمرتنا بالسداد والرَشَدِ * نصيحة منا وبراً بالولد
ثم قاتل حتى قتل، فجاء الثالث وهو يقول :
والله لا نعصي العجوز حرفا * قد أمرتنا حرباً وعطفا
نصحاً وبراً صادقاً ولطفا * فبادروا الحرب الضروس زحفا
فقاتل حتى قتل، ثم جاء الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخرم * ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
إن أرد في الجيش جيش الأعجم * ماض على الحول خضم خضرم
فقاتل حتى قتل، فاستشهد بنو الخنساء جميعهم فاحتسبتهم عند الله, فجزاؤها وجزاؤهم الجنة إن شاء الله.
أي امرأة أنت يا خناس، هذا الاسم كان يناديه بها رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، لقد خلدك لنا التاريخ في صفحاته بمداد من ذهب وأحرف نور لتكوني نبراساً يأتم الهداة به كأنك علم (جبل) في رأسه نار يهتدي بضيائك الرجال قبل النساء، ولم تجزع الخنساء عندما بلغها نبأ استشهاد بنيها الأربعة بل قالت، وما أروع قولها: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم جميعاً، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. وكان عمر بن الخطاب (رض) يجري عليها أرزاق بنيها الأربعة وقد توفيت في سنة 24 للهجرة في أوائل خلافة سيدنا عثمان (رض)، كذلك لا يمكننا أن ننسى خولة بنت حكيم تلك الصحابية الجليلة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، وأنزل على نبيه الكريم ـ عليه أفضل صلاة وأتم تسليم ـ في ذلك قرآناً يتلى آناء الليل وأطراف النهار، لقد خاطبت تلك الصحابية الجليلة عمر (رض) بكلام خشن فاستمع إليها ولم يغضب. وذلك عندما خرج عمر(رضي الله عنه) من المسجد وسلم عليها فردت عليه السلام ثم قالت: عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ ترعى الغنم بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى تسميت بأمير المؤمنين فاتق الله واعدل في الرعية واعلم من خاف يوم الوعيد قرب عليه البعيد ومن خاف الموت خشي الفوت. فقال لها رجل يسمى الجارود كان يمشي بجانب عمر(رضي الله عنه): قد أكثرت على أمير المؤمنين أيتها المرأة. فقال عمر(رضي الله عنه): دعها أما تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات ، فعمر أحق والله أن يسمع لها.
وقصة لخولة هذه تستحق أن تروى، فقد حفظت لنا كتب التاريخ والسيرة تلك القصة؛ التي تقول : إن زوجها ( أوس) تظاهر منها أي قال لها: (أنت علي كظهر أمي) وهو في حالة غضب، فجاءت تشكوه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله إن أوساً من قد عرفت أبو ولدي وابن عمي وأحب الناس إليَّ، وقد عرفت ما يصيبه من اللمم وعجز مقدرته … وعي (عجز) لسانه وأحق من عاد عليه بشئ أنا، إن وجدته، وأحق من عاد عليَّ بشئ إن وجده هو …، قال (أنت عليَّ كظهر أمي ) . فقال ( صلى الله عليه وسلم): (ما أراك إلا قد حرمت عليه). فجادلت الرسول الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، جدالاً مراً في ذلك ثم قالت، تدعو الله: أللهم إني أشكو إليك شدة وجدي وما شق عليَّ من فراقه أللهم أنزل على لسان نبيك ما فيه الفرج . للنظر إلى هذه المرأة وهي تصف زوجها وهي تصفه ببعض الصفات غير المحمودة كالعجز وعي اللسان (ضعف الحجة) … ولكنها، مع كل ذلك، تكن له في قلبها كل الحب والمودة والرحمة بل وتتمسك وتتشبث به أشد ما يكون التشبث والتمسك ، فلا تجد من تشكو إليه ـ من بعد رسولنا الكريم ـ عليه أفضل صلاة وأتم تسليم ـ إلا أن ترفع كفيها متضرعة ومتوسلة إلى الله ـ جلَّ وعلا ـ الذي سمع شكواها وتضرعها فأنزل فيها قوله ـ جل وعلا: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة:1/4) . وعندما نزلت الآيات آنفة الذكر قال صلى الله عليه وسلم : يا خولة، قالت لبيك، ونهضت قائمة وهي فرحة بتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنزل الله فيك وفيه قرآناً ثم تلا عليها الآيات. ولنستمع إليها وهي تدافع عن زوجها أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لها: مريه أن يعتق رقبة. فقالت: وأي رقبة، والله ما يجد رقبة وما له خادم غيري، قال: مريه أن يصوم شهرين متتابعين. فقالت: والله يا رسول الله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا وكذا مرة وقد ذهب بصره مع ضعف بدنه … قال: مريه أن يأتي أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق تمر فيتصدق به على ستين مسكيناً. وكان زوجها ينتظرها بالبيت فما إن هلت عليه حتى بادرها بقوله: ما وراءك؟ قالت خيراً. وأخبرته الخبر. قالت خولة : فذهب من عندي يعدو حتى جاء به على ظهره، وعهدي به لا يحمل خمسة أصوع (جمع صاع). والله إنه للإسلام وما فيه من روعة وحلاوة وجمال، أي مشاعر تلك التي تكتنفك وأنت تقرأ أو تسمع مثل هذا القول يتردد على مسامعك ؟!! ، أيمكن لمن يقول مثل هذا القول أن يظلم المرأة ؟؟!! أو ينتقص من حقوقها شيئاَ، حتى وإن كان على قدر قلامة الظفر أو دون ذلك ؟؟! … لا والذي نفسي بيده لا يفعل بل يكرم المرأة ويصون كرامتها …، وليت كل النساء كن مثلك يا خولة في قوة إيمانك وأنت تجادلين عن زوجك أمام أفضل وأشرف خلق الله عليه صلاة الله وسلامه، إنها المودة والرحمة التي غرسها الله في قلوبنا لأزواجنا، هي التي جعلتك تقفين هذا الموقف. (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21). نعم إنه حقاً الإسلام الذي وضع الأسس واللبنات الأولى للمساواة بين البشر جميعاً دون استثناء، فرفع الظلم عن كاهل المرأة، يقول تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1). لم يذكر المفسرون في تفسير هذه الآية أي فرق بين الذكر والأنثى أو الرجل والمرأة لأن الخطاب موجه للناس جميعاً بغير استثناء، وليس لأهل مكة كما جاء في التفاسير:
ـــ تفسير الجلالين:
(يا أيها الناس) أي أهل مكة (اتقوا ربكم) أي عقابه بأن تطيعوه (الذي خلقكم من نفس واحدة) آدم (وخلق منها زوجها) حواء بالمد من ضلع من أضلاعه اليسرى (وبث) فرق ونشر (منهما) من آدم وحواء (رجالاً كثيراً ونساء) كثيرة (واتقوا الله الذي تَسَّاءلون) فيه إدغام التاء في الأصل في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي تتساءلون (به) فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله وأنشدك بالله (و) اتقوا (الأرحام) أن تقطعوها ، وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم (إن الله كان عليكم رقيبا) حافظا لأعمالكم فيجازيكم بها، أي لم يزل متصفا بذلك.
ـــ تفسير القرطبي:
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}، قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم، وفيما نهاكم، فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به. ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد، وعرف عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجب وجوب حق الأخ على أخيه، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة. وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى. وعاطفا بذلك بعضهم على بعض، ليتناصفوا، ولا يتظالموا، وليبذل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف، على ما ألزمه الله له، فقال: {الذي خلقكم من نفس واحدة} يعني من آدم. كما. وقال أيضاَ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) . وفي تفسير هذه الآية (النحل:97) يقول ثلاثة من كبار المفسرين:
1/ تفسير الجلالين:
(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) قيل هي حياة الجنة وقيل في الدنيا بالقناعة أو الرزق الحلال (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
2/ الطبري:
القول في تأويل قوله تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}. يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم {وهو مؤمن} يقول : وهو مصدق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية ؛ {فلنحيينه حياة طيبة}.
3/ ابن كثير:
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله وان هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. ولم ترد من هؤلاء المفسرين أدنى إشارة تشير إلى وجود فرق بين الذكر والأنثى ، ومما يؤكد ذلك قوله ـ جلَّ وعلا ـ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70). يقول الإمام الطبري في تفسير قوله ـ تعالى ذكره: {ولقد كرمنا بني آدم} بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم {وحملناهم في البر} على ظهور الدواب والمراكب {و} في {البحر} في الفلك التي سخرناها لهم {ورزقناهم من الطيبات} يقول: من طيبات المطاعم والمشارب، وهي حلالها ولذيذاتها {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق.
لقد شغلت المرأة الكثير من الرجال منذ العهد الأول وقصة هابيل وقابيل ليست ببعيدة عنا حيث يقول، جلَّ وعلا، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27).
وقد جاء في تفسير هذه الآية عند الإمام الطبري: … أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل. فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل ذلك وكرهه، تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحن ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه، فالله أعلم أي ذلك كان. فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه، وبعضهم يقول: قرب بقرة، فأرسل الله نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله.
لقد وجه الإسلام الكثير من الاهتمام نحو قضية النهوض بالمرأة والتي هي بمثابة الجناح الثاني في كل مجتمع ، بل هي النواة الأولى في بناء المجتمع الذي يقوم على القيم والخلق الرفيع ، وهذا الاهتمام نابع من نقطة أساسية وجوهرية ألا وهي أنه إذا صلحت المرأة صلح الأبناء فيما بعد بالتالي تصلح الأسرة وبصلاح الأسرة يصلح المجتمع بكامله.
إذن فالمرأة تلعب دوراً من الأهمية بمكان في إعداد المجتمع الجيد؛ لذلك كان من المهم والمهم جداً أن يولي الإسلام كبير اهتمامه وعنايته نحو المرأة، وليس ذلك بحسبانها ضعيفة أو مهيضة الجناح بل لأنها تستحق منه كل عناية ورعاية، لاسيما وأن الإسلام يعنى بأمر الفرد والجماعة معاً ؛ لذلك أولاها بالفعل ما تستحقه من إكرام وتقدير؛ لكي تسهم في بناء المجتمع الفاضل من خلال إعداد الناشئة وتربيتهم ، لما غرسه الله فيها من العواطف والمشاعر والأحاسيس الجياشة والعواطف المتدفقة ؛ حتى جعل منها ينبوعاً يفيض بالحنان وشلالاً يتدفق بالمحبة والعطف. وفوق كل هذا لا تعوذها الفطنة والنباهة أي أن العاطفة لا تسيطر عليها كل الوقت، وإن تملكتها جل الوقت، وقد يكون في قصة عبد الله بن الزبير مع أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق أقوى الأدلة على صدق حديثنا عن أن المرأة يمكن أن تغلب جانب المصلحة على جانب العاطفة، يقال أنه لما جاء عبد الله ابن الزبير بن العوام إلى أمه أسماء بنت الصديق يشكوا إليها تخاذل الناس عنه وظلم الحجاج له ، وأنه يخاف أن يمثل الحجاج بجسده ( ألا يحترمون جثته ) بعد موته. قالت له أمه أسماء قولتها الشهيرة والتي صارت مثلاً تتداوله الألسن إلى يومنا هذا: (إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها) . فصنعت لنا بهذه الكلمات البسيطة بطلاً خلده لنا التاريخ أيما خلود.
فكيف لنا بعد كل هذا القول أن صف النساء بأنهن ضعيفات وأنهن لا يستطعن أن يقمن بشئ مما يفعله الرجل ، إن المرأة قادرة على كل ما يقوم به الرجل ، بشرط أن تعد بذات الطريقة التي يعد بها الرجل ، وأن تتاح لها نفس الفرصة عندها سترون تلك القوة الهائلة والطاقة الكامنة في أعماق النساء كيف ستتفجر وتتدفق سيولاً تكتسح كل ما يقف في طريقها من عقبات. هذا بالإضافة إلى تلك القوة المعنوية التي تتمتع بها المرأة ، حيث يمكنها أن تدفع بالرجل إلى القيام بجلائل الأعمال وأعظمها، إن هي أرادت أن تقوم بتلك الأعمال العظيمة والجليلة.
تفوق الرجل
إن المرأة ليست من الضعف والهوان كما تخيل البعض، وأنها تكاد تكون نداً منافساً للرجل في كثير من المجالات. يلح علينا سؤال أكاد أراه وهو يدور في ذهن القارئ منذ أن بدأ في قراءة هذه الصفحات، وكأنه يريد أن يقول لي: إذا كان هذا هو شأن المرأة (من القوة وعدم الضعف) كما قررته؛ فلماذا نجد أن الرجال هم الذين يقودون الركب جميع المجالات العلمية والمعرفية ، بل وحتى في المجالات التي تخص المرأة نفسها: طب التوليد، الطباخة، تصميم الأزياء، تزيين النساء…؟
نقول لهم نعم لقد قررنا ما قررنا من قوة المرأة وعدم ضعفها. أما عن تفوق الرجل فهو أمر فطري طبيعي قررته يد الخالق منذ أن أوجد آدم وحواء في هذا الوجود، حيث خص كل منهما بصفات تختلف عن الآخر، كما جعل بينهما قدراً مشتركاً ومتفاوتاً في العديد من السمات، بحيث يتمم كل منهما الآخر. إن الخالق، جلَّت قدرته، قد أوجد فروقاً فسيولوجية طبيعية بين الجنسين، تتمثل في العديد من الجوانب: الجسمية، الفسيولوجية، السلوكية، والبيولوجية. لا تحتاج الفروق الجسمية ـ من حيث الشكل الخارجي ـ منا لغير العين فقط حتى نتبينها، في حين تحتاج منا بقية الفروق إلى حديث، فقد لا يدركها الكثيرون منا:
يقول سيد الجندي ( … فقد أثبت العلم الحديث في السنوات العشر الأخيرة ما كنا ندركه بفطرتنا طول الوقت … لقد أثبت أن المرأة جنس آخر غير جنس الرجل … تمتاز عنه في كثير من نواحي الحياة .. ويمتاز عنها في نواح أخرى … وأن اختلافهما لا يقتصر على الشكل الخارجي للجسم بل هو اختلاف عضوي يمتد إلى كل خلية من خلاياها … بما في ذلك تركيبة المخ … والعقل … والجهاز العصبي … وطرق التواصل مع الآخرين … وطرق التفكير …؛ وليس هذا فحسب بل تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حيث أثبتت بعض الدراسات العلمية أنه توجد فروق بين مخ الرجل ومخ المرأة من الناحية التشريحية، فمخ المرأة يقل بحوالي 15% عن مخ الرجل غير أن الأول يتعرض للشيخوخة بشكل أبطأ من مخ الرجل لاسيما بعد سن الأربعين، كما توجد اختلافات أخرى من حيث استخدام كل منهما لعقله، حيث نجد أن عقل المرأة أكثر استجابة لمشاعر المرأة وعواطفها، مما يجعلها أميل إلى الاستمتاع والشعور باللذة، وهي أقدر من الرجل على الملاحظة، كذلك تعتبر المرأة أقوى ذاكرة.
كذلك يمكن للمرأة أن تسمع بكلتا أذنيها على حد سواء؛ مما يمكنها من متابعة أكثر من حدث في وقت واحد، في حين نجد أن أذن الرجل اليمنى أكثر قوة من الأذن اليسرى؛ مما يجعله أكثر تركيزاً على موضوع واحد . ربما كانت تلك الاختلافات التي وجدت هي السبب في أن تجعل كل من المرأة والرجل يختلف في سلوكه عن الآخر؛ دون أن تكون عليه أيّ قيود أو حجر من أحد، حيث أظهرت الإحصاءات أن اختيار الطالبات لتخصصاتهن تختلف عن زملائهن من الطلبة، وأنهن يحصلن على أعلى الدرجات في مواد دراسية تختلف عن تلك التي يبرع فيها عدد أكبر من الطلاب … كذلك أثبتت الدراسات الطبية المتعددة أن كيان المرأة النفسي والجسدي قد خلقه الله على هيئة تخالف تكوين الرجل، فقد بُني جسم المرأة على نحو يتلاءم ووظيفة الأمومة تلاؤما كاملا، كما أن نفسيتها قد هيئت لتكون ربة الأسرة وسيدة البيت، وأن هيكل المرأة الجسدي يختلف عن هيكل الرجل، بل إن كل خلية من خلايا جسم المرأة تختلف في خصائصها وتركيبها عن خلايا جسم الرجل، وآية ذلك الفروق الهائلة بين الأنسجة والأعضاء والتي تبدو واضحة لكل ذي عينين بين الذكر والأنثى ، فأعضاء المرأة الظاهرة والخفية وعضلاتها وعظامها تختلف إلى حد كبير عن تركيب أعضاء الرجل الظاهرة والخفية كما تختلف عضلاته وعظامه في شدتها وقوة تحملها . وليس هذا البناء الهيكلي والعضوي المختلف عبثا إذ ليس في جسم الإنسان ولا في الكون كله شئ إلا وله حكمة (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) ، والحكمة في الاختلاف البين في التركيب التشريحي والوظيفي بين الرجل والمرأة هو أن هيكل الرجل قد بني ليخرج إلى ميدان العمل كادحا مكافحا ، مصداقا لقوله تعالى : (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طـه:117) (أي يا آدم) ، أما المرأة فتبقى في المنزل تؤدي وظيفتها العظمى التي أناطها الله بها وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وتهيئة عش الزوجية ليسكن إليها الرجل بعد الكدح والشقاء. لم يعد ـ لدى كثير من الباحثين ـ أدنى شك في وجود حقيقة ثابتة لا جدال فيها تؤكد أن الأولاد والبنات لا يختلفون في تركيبة الشكل الخارجي للجسم فقط . بل إنهم يفكرون بطريقتين مختلفتين تماماً ، وأن ذلك يرجع إلى اختلاف عضوي (Biological) أساسي في تركيبة المخ والجهاز العصبي أيضاً . ويذهب الباحثون إلى أبعد من ذلك في لتأكيد فكرتهم حول وجود فروق جوهرية بين الجنسين حينما أكدت التحاليل الطبية الكيميائية في المعمل أن نسبة البروتينات إلى الدهون في جسم الذكور عند سن البلوغ هي 40% ، بروتين و15% دهون . في حين أن هذه النسبة تتغير عند الإناث وفي السن ذاتها لتصبح: 23% بروتين و25% دهون . وبجانب ذلك وجدت تلك التحاليل أن عدد كريات الدم الحمراء أكثر شيوعاً في دم الأطفال الذكور منها في دم الإناث ، ومن المعروف علمياً أن زيادة كريات الدم الحمراء يزيد من سرعة توصيل الأكسجين إلى عضلات القلب . فكأنما الخالق، جلَّ وعلا، يجهز الذكور ليكونوا مجهزين وستعدين للأعمال الشاقة منذ النشأة الأولى ، ثم جاءت الأسس والنظريات التربوية الحديثة لتستفيد من هذه البيانات، وتعمل على إعداد كل من الذكور والإناث كل لما خلق له. ويقول أحد كبار الباحثين: كيف نشك في وجود هذه الاختلافات العضوية في كل عضو من أعضاء جسم المرأة .. وجسم الرجل .. وهل يمكن أن ننسى أن كل خلية في الرجل تحمل كروموزومات (XY ) بينما تحمل المرأة كروموزومات (X X ) , وهل ننسى أن ذلك ينطبق على كل جزء من أجزاء الجسم بدءاً من أصابع القدمين وحتى شعر الرأس … بما في ذلك تلافيف المخ وشبكة العين …، كذلك امتدت مظاهر الاختلاف إلى السلوك الفكري والعقلي بين الذكور والإناث؛ وذلك حينما اكتشف بعض العلماء البريطانيين أن الذكور لديهم قدرات بحثية جيدة لأن أجسامهم تتمتع بمستويات أعلى من المتوسط من هرمون أوستروجين النسائي الذي يدعم المهارات التحليلية. كما كان مستوى هرمون الاوستروجين النسائي في أجسام الرجال الذين شملتهم الدراسة مرتفعا شأنه شأن هرمون تستوسترون الذكري وهو ما يجعل الفص الأيمن للمخ لديهم مسئولا عن المهارات المكانية والتحليلية . وفي الجانب الأنثوي وجد العلماء أن العالمات المتخصصات في مجالات العلوم الاجتماعية تكون لديهن معدلات مرتفعة من هرمون تستوسترون الرجالي وهو ما يجعل عقولهن على قدم المساواة مع عقول العلماء الذكور، والتستوسترون هو عبارة عن هرمون مسئول عن ظهور علامات النضج الجنسي في الذكور تفرزه الخصية وهو هرمون يعمل على تهيئة أجسام الذكور قبل الدخول في أي منافسة؛ مما جعل بعض النساء وهن يسعين لتحقيق المساواة مع الرجل ، يلجأن إلى خيار أكثر قسوة لتحقيق حلمهن بالتفوق . حيث لجأت هذه الفئة المسترجلة من النساء إلى تناول هرمون (التستوسترون) في محاولة منهن لتقليد قوة منافسيهن من الذكور. غير أن هناك أمرا يؤسف له ، وهو أن تناول هذا النوع العقاقير يجعل السيدات أقرب إلى الرجل في هيأتهن … وتشير الدراسات التي أجريت من قبل علماء متخصصين إلى أن تناول التستوسترون يزود الرجال بالنشاط والثقة والطاقة. وعلى الرغم من حقيقة أن النساء يفرزن قدراً قليلاً من التستوسترون، إلا أن بعض الأبحاث تشير إلى أن النساء اللاتي يرتفع لديهن تركيز هذه المادة، أكثر نجاحاً في عالم الأعمال الذي يشهد منافسة حادة. الأمر الذي جعل الجرعات المحددة بوصفات طبية من هذا الهرمون ، وهو متاح في شكل حقن طويلة الفاعلية وأقراص تشكل هوساً وسط نساء الأ
عمال في أمريكا فأصبحن يعتقدن بأن هرمون التستوسترون يمثل إحدى وسائل تقدمهن في أعمالهن؛ وبذلك أصبح التستوسترون يحظى بإقبال كبير ومتزايد من قبل النساء في مجالات شتى لاسيما السياسة حيث تعد هيمنة الرجال هي القاعدة . تؤكد أنَّا (36عاماً) وهي مسئولة تنفيذية ظلت تتعاطى هذا الهرمون منذ سبع سنوات ، على فاعليته الكبيرة حيث تقول: إن نغمة صوتها تصبح مهيمنة خلال الاجتماعات فضلاً عن قدرتها على التفاوض تماماً كالرجال … وأنها تدرك بالغريزة كيف يفكر الرجال ؛ فتتمكن من حثهم على تنفيذ ما تريده، فانظر إلى هؤلاء النسوة اللائي يردن أن يغيرن طبيعتهن التي حباهن بها الخالق ليصبحن كالذكور، ألا يدرين أنهن بذلك العمل الذي يقمن به يخالفن قوانين الطبيعة، ويفقدن أنوثتهن وهي السمة الجاذبة للرجل، فالرجل لا تثير إعجابه المرأة المسترجلة بقدر ما تثير إعجابه المرأة الأنثى. لقد أودع الخالق، جلت قدرته، هذا الهرمون في أجسامنا بكميات محددة بدقة متناهية ، حيث أعطى كل من الذكر والأنثى، وحتى الصغار من الجنسين كمية تتوافق مع حوجة جسمه، لاسيما وأن الهرمونات تقوم بدور مهم وفعال في بروز السمات الجنسية الثانوية ـ من ضمن ما تقوم به من نشاط في الإنسان، إذ يجري في الغدة النخامية المرتبطة بالدماغ تكوين وتكثير الهرمونات التناسلية التي تقوم بدورها في حياتنا الجنسية، ولكننا نجد أن نسبة الهرمون في دم الإنسان تختلف باختلاف السن وباختلاف النوع أيضاً حيث تختلف في الذكور عنها في الإناث. من ذلك:
*هرمون تيستوستيرون ( Testosterone):
1/ في الذكور البالغين 9-38 نانومول/لتر.
2/ في الإناث البالغات 0.35– 3.8 نانومول/لتر تنتجه الغدة الكظرية.
3/ في الأطفال الذكور اقل من 3.5 نانومول/لتر.
4/ في الأطفال الإناث أقل من 1.4تنتحه الغدة الكظرية.
لا شك أننا لاحظنا التوزيع الرباني الدقيق لهذا الهرمون في أجسمنا، إذ أعطى كل منا حاجته، وليس هذا فحسب فقد ترتفع هذه الكمية أو تنخفض على بحسب النشاط والجهد الذي يقوم به الفرد . وفي المقابل نجد أن الله تعالى قد خصَّ المرأة (الأنثى) بنوع من الهرمونات كتلك التي خصَّ بها الرجل وهو أمر قد اقتضته حكمة الخالق، جلت قدرته، حيث أودع في كل من الذكر والأنثى ما يتوافق مع التكوين الطبيعي لجسده؛ وذلك حينما منح المرأة أيضاً من الهرمونات ما يحتاج إليه جسمها لممارسة مهامه ونشاطاته الطبيعية والفطرية:
أ/ الإستروجين ( Estrogens): ويتم تكوينه في المبايض ويتم نقله بواسطة الدم إلى العديد من أنسجة الجسم من بينها نسيج الثدي عند المرأة ، بطانة الرحم، والكبد. وتختلف نسبة هرمون الإستروجين في دم كل من الذكور والإناث على النحو الآتي:
1/ في الإناث (النصف الأول من الدورة الشهرية(Follicular Phases) هي 70-440 بيكرومول / لتر.
2/ في الإناث (النصف الثاني من الدورة الشهرية (Luteal Phases) هي220 –620 بيكرومول/لتر.
3/ أثناء الأشهر الأخيرة من الحمل 20.000 – 130.000 بيكرومول/لتر.
4/ في الذكور 70- 330 بيكرومول/لتر(من التحويلات الطرفية والغدة الكظرية).
ب/ هرمون البروجسترون ( Progesterone):
1/ في الإناث ( النصف الأول من الدورة الشهرية ) 0.8- 6.4 نانومول/لتر.
2/ في الإناث (النصف الثاني من الدورة الشهرية ) 8-80 نانومول/لتر.
3/ في الذكور أقل من 3.18 نانومول/ لتر تنتجه الغدة الكظرية.
4/ في الأطفال 0.95 – 1.2 نانومول/لتر.
5/ أثناء الأشهر الأخيرة من الحمل 243 – 1166 نانومول/لتر.
وهنا بعض البيانات الإحصائية التي ورد ذكرها في أكثر من موضع؛ يمكنها أن تزيدنا يقيناً بصحة وجود فروق بين الجنسين، كما تؤكد المعلومات التي أوردناها آنفاً. تمثل أمريكا أصلح مكان لإجراء هذا النوع من الدراسات (الفروق بين الذكور والإناث )، حيث وُجد(عام 1980م) أن 93% من موظفي الشباك الذين يتعاملون مع الجمهور كن من النساء وعلى الرغم من ذلك فقد احتل الرجال 99% من الوظائف الإدارية العليا في جميع المؤسسات والشركات المالية. كذلك تشغل المرأة 50% من المهن الطبية و96% من وظائف التمريض و93% من وظائف التدريس، بينما نجد أن 99% من مديري المستشفيات و81% من مديري المدارس هم من الرجال. بل وجد أن الرجال يحتلون 90% من الوظائف العليا في جميع مرافق الدولة الحكومية وغير الحكومية. كما تمت مقارنة بين أساتذة الجامعات في بريطانيا، وقد تم اختيار نساء أرامل أو غير متزوجات أو ليس لديهن أطفالاً، فوجدوا أن الأساتذة الرجال يهتمون أكثر بأعمال البحث ونشر الرسائل مما يجعلهم يحصلون على فرص كبر في الترقي في المناصب، في حين وجدت الإحصائية أن النساء يبدين اهتماماً أكبر بالتدريس الفعلي وتقديم الخدمة للطلبة والطالبات.
أبعد كل هذا تسعى الشعوب والحكومات الغربية إلى فرض ثقافتها وعاداتها وتقاليدها علينا أبحجة أنها مجتمعات تتمتع بدرجة أرفع وأرقى وأسمى من الحضارة مقارنة بنا نحن في العالمين العربي والإسلامي!؟! أم بحجة أننا لا زلنا قصراً نحتاج إلى الرعاية وفرض الوصاية علينا!؟ لا أعتقد أن هناك أي مبرر لكي يفرض الغرب علينا أفكاره وثقافته …، لاسيما في مجال التعامل مع المرأة، فنحن قد نتقبلها في المجالات العلمية والتقنية …، فهم أهل معرفة في هذه المجالات؛ أما في مجال المرأة فنحن لدينا مخزون وافر من الإرث الثقافي والمعرفي الرائع في هذا المضمار، وها هو العلم الحديث يأتي ليؤكد وجهة النظر الإسلامية تجاه المرأة ولا يعني هذا بالنسبة لنا أي تمييز أو تفضيل لجنس الرجال على جنس المرأة، ولكن ثمة أشياء ميز فيها الإسلام الرجل، وثمة أشياء أخرى ميز فيها الإسلام المرأة، وقسم ثالث أبرم فيه الإسلام عقد المساواة التامة بين الجنسين.
لماذا تمردت حواء؟
لقد كان للتغيرات الأيديولوجية والتكنولوجية التي غطت العالم من أقصاه إلى أقصاه الدور الكبير في تغيير نمط تفكير النساء في العالم أجمع، الأمر الذي حدا بالنساء إلى النزول إلى ساحات العمل إلى جانب الرجل. حيث نجد أن الدافع الاقتصادي يحتل المركز الأول لخروج المرأة العاملة، إذ إن الشباب في كثير من المجتمعات العربية قد أحجموا عن الزواج خشية مجابهة متطلباته ولضيق ذات اليد لدى الكثيرين، وكان عمل المرأة هو الحل لهذه المشكلة، وبذلك يكون الدافع الاقتصادي، غالبًا، هو ما دفع بها إلى معترك العمل، ففي استفتاء أجرته بيدجون على (3800امرأة ) ثبت أن 75% من هذا العدد يعمل من أجل مساعدة الأسرة. كذلك تبين من دراسة أخرى، أن نساء الطبقة الدنيا يعملن من أجل الحصول على العائد. كما يلاحظ أن الثورة الصناعية قد ساعدت في تخفيف ثقل العمل الذي أصبح لا يتطلب الجهد البدني العنيف الذي كان يقتضي وجود الرجل دائماً، وبجانب ذلك صاحب هذه التقنية الصناعية ندرة في وجود الرجال الذين أهلكت الحروب الكثيرين، الأمر الذي جعل أصحاب المصانع يلجأون إلى عمالة النساء والتعويل عليها في أغلب الأحيان، لاسيما وأنها تتميز بقلة التكلفة والسبب في ذلك يعود إلى أن الأيدي العاملة من النساء رخيصة الثمن. وبجانب ذلك هناك ظهور بعض الوعي الدولي حيث أصدرت الأمم المتحدة قانون حقوق الإنسان الذي أزال الفوارق بين الذكور والإناث وأتاح الفرصة كاملة أمام تعليم النساء والالتحاق بالعمل، وعلى إثر ذلك اتخذت كثير من المنظمات والهيئات النقابية والعمالية العديد من الإجراءات القانونية للحصول للمرأة على أجر متساو مع الرجل في الأعمال المتشابهة.
ولكن الحقيقة الكامنة في أعماق النساء وفي دواخلهن تشير إلى أنهن قد تجاوزن تلك الأسباب الاقتصادية والمادية إلى مرافئ أرحب من ذلك المفهوم الضيق الذي ينحصر في الكسب المادي، إذ أصبحن يبحثن عن الذات وتحقيق الطموح والمنافسة انطلاقاً من عوامل نفسية بحتة تدفعهن إلى الوصول إلى المناصب العليا الأمر الذي يلعب دوراً في تحقيق أهدافهن مما يساعدهن على الاستقرار النفسي ويرفع من معنوياتهن على الدوام. إذن فالنساء لم يعدن ماديات التفكير. ونستدل على ذلك بأن مصنعًا كان يحيل عاملاته للتقاعد المعاشي في سن الخامسة والخمسين من عمر العاملة مع معاش سخي، ولكن لوحظ أن كثير من أولئك العاملات يقفن على أبواب المصنع كل مساء في انتظار صديقاتهن من العاملات عن الخروج من المصنع، كما كن يشاركن في كل المناسبات الاجتماعية التي تجري في المصنع أو تحدث لزميلاتهن السابقات، وأيضاً عندما تسنح الفرصة لأداء عمل إضافي لبعض الوقت فهن دائماً على استعداد للانخراط فيه عن طيب خاطر دون النظر للعائد المادي، ولا يعني لجوء بعض النساء إلى العمل الإضافي أنهن في حاجة للمال إذ لم ينحصر عمل النساء في العمل الرسمي الذي يعود عليهن بالكسب المادي، وإنما لجأن إلى العمل الطوعي؛ مما يؤكد على أن الدافع للعمل ليس المال وإنما هو تجنب الوقوع فريسة للشعور بالتعطل المهني والوظيفي الذي يشعر الذات بالحرمان من كل عمل كانت تقوم به، وكان يشعرها بالقوة والقدرة على الإنتاج. ولا يقف الأمر عند هذا الحد من الشعور والإحساس القاتل بل يتعداه إلى ظهور الكثير من أعراض الاضطرابات النفسية والعصبية أيضاً، بعد انفصال الفرد عن مجتمعه العملي الذي كان يشكل له الأمان والاستقرار النفسي والمادي. ولا يعني هذا أن العمل لا يتسبب في بعض الضيق أو النفور، غير أن هذا التبرم يرجع، غالبًا، إلى عدم التوافق المهني ليس إلا، بل ويمكن القول إن مثل هذه المواقف ترجع في الأساس إلى حياة الفرد في فترة ما قبل العمل. وهي من الأزمات التي يسهل علاجها في مجال علم النفس الإكلينيكي.
لعل هناك صراع يدور في داخل النساء العاملات ينبني على أساس الدور الذي تلعبه النساء في الحياة العامة والخاصة، ويتمثل هذا الصراع في دور المرأة: كأنثى وكزوجة وكأم وكعاملة. ومن المرجح أن بعض النساء العاملات يعانين من متاعب جسدية وذهنية تتمثل هذه المتاعب في الدور الذي تلعبه المرأة في الحياة العامة والخاصة فالمرأة تريد أن تقوم بدور الأنثى الزوجة والأم (ربة المنزل)؛ وفي ذات الوقت تريد أن تقوم بدور المنافس للرجل في العمل خارج المنزل؛ مما يؤدي بها إلى بزل الكثير من الجهد لكي تتمكن من التوفيق بين غريزتها الفطرية (الأنوثة والأمومة)، وبين العمل، ولا شك أن ذلكم الجهد المضني سينعكس بدوره على الحياة النفسية التي تعيشها المرأة العاملة، ويتسبب لها في الشد والتوتر النفسي والذهني. ولكن هناك من الأسباب ما يجعل تلك المتاعب تخف أو ربما تختفي بالمرة، من ذلك، رضا الأسرة لاسيما الزوج عن عمل زوجته، ويتجلى ذل من خلال التعاون الذي يبديه في رعاية الأبناء والمساعدة في الأعباء المنزلية …، وربما يلعب المستوى التعليمي والمعرفي والثقافي والبيئة التي ينشأ فيها الفرد، الدور الملموس في تقبل الرجل لفكرة عمل الزوجة بل ويتعداها إلى تقديم يد العون بالمساعدة في الأعمال المنزلية. وبالإضافة إلى ذلك هناك العائد المادي والمعنوي الذي تكتسبه المرأة العاملة من خلال عملها خارج المنزل فكلما كان ذلك العائد كبيراً أو مجزياً، خفت حدة التوترات النفسية، وتشبثت به المرأة بصورة أكبر، والعكس أيضاً فكلما قل العائد المرجو من ذلك العمل كانت المرأة أكثر عرضة للتوترات والاضطرابات النفسية.
ولكن ما هي تلك العقبات التي تقف في طريق الأنثى العاملة وتمنعها من القيام بوظائفها الأخرى؟ وكيف يمكن للعاملات التوفيق بين أداء حق الزوج والأبناء وبين ظروف العمل؟ وما هو دور الزوج والأبناء في تهيئة المناخ المساعد للزوجة العاملة حتى تتمكن من أداء رسالتها خارج المنزل؟.
من الصعوبات التي تعوق عمل النساء وتقف سداً أمام تحقيق طموحهن: الزوج والأولاد، لاسيما الزوج غير المتعاون مع زوجته؛ مما يعني أنه غير مؤمن بعمل زوجته، الأمر الذي يتسبب للمرأة العاملة في صراع أدوار فهناك مطالب الزوج والأبناء ومتطلبات العمل المنزلي تبعدها عن التفكير في العمل، وربما تكون هناك العديد من المعوقات في محيط العمل مما ينعكس سلباً على أداء المرأة في المنزل وفي الوظيفة التي تقوم بها خارج المنزل. ينجم عن ذلك الصراع شعور بالإرهاق والتأزم النفسي الذي ينتاب النساء العاملات في كثير من الأوقات، ولا خروج للمرأة من تلك الأزمة إلا بتضافر الجهود الأسرية ولاسيما الزوج الذي عليه أن يسهم بدور فاعل في توفير المناخ المناسب حتى تتمكن المرأة من التوفيق بين واجبات المنزل ومتطلبات العمل مما يساعدها في التخلص من تلك الصراعات. وقد جاءت نتائج الدراسات والبحوث مؤيدة لوجود صراع نفسي داخلي يؤثر في شخصية المرأة العاملة.
اترك رد