المهدي الزمراني -طالب باحث بسلك الماستر وكاتب رأي
تقديم:
إن القراءة في ديوان زجلي لزجال من عمالقة الزجالين ؛ لَعمل يقتضي الحيطة والحذر، والجهد الكافي لسبر أغوار القصائد، وما تستبطنه من دلالات وخلفيات يود من خلالها الشاعر إيصال رسالة معينة. لذا فقراءة ديوان بخ الورد لزجال القدير ادريس مسناوي أمغار لمن الأعمال العصية على الكشف والاظهار.
تعدد المقاربات الأدبية بتعدد المناهج النقدية في عصرنا الراهن، مما يجعل الناقد كيفما كان أن يميل إلى منهج دون الآخر، لأنه يتصوره قادرا على كشف خبايا الأدب المراد دراسته، لذا تتعدد وتتنوع القراءات في العمل الأدبي الواحد من منظورات مختلفة تحكمها خلفيات معينة تتباين من حيث مرجعياتها. الأمر الذي وضعنا في حيرة من أمرنا أي منهج سنقتنص لهذه القراءة في هذا الديوان الزجلي. فارتأينا بعد عمق تفكير أن نسترعي بعض الشذرات والتقنيات النقدية من مناهج مختلفة. لعلنا نحقق بعض الرجاء مما نصبوا إليه من قراءة لهذا الديوان باحثين عن الخصائص الشعرية التي تزكي القصيدة الزجلية.
1. عتبات الديوان:
إنه لمن الوهلة الأولى يتبدى لك الديوان في طبعة نظيفة ورشيقة. زينتها الألوان؛ ف وإن كانت الواجهة مطلية بالرمادي الخفيف، فالوردة التي تتوسط الغلاف. لمن الروعة بمكان. لما اتصفت به من الابداع التشكيلي الرصين. فالوردة وإن لم تكن غير واضحة الملامح، فهي قد تأخذ شكل الإنسان لولا بروزها من خلال الألوان. ولم تكن لهذا الانتقاء في وضع الوردة في الغلاف علة سوى أن يعكس بالمباشر أو غير المباشر ما جاء في العنوان. فهذا الأخير الموسوم ب “بخ الورد” يعكس بجلاء واجهة الغلاف. فهما يشتركان (واجهة الغلاف+ العنوان) في أن الوردة هي المحور أو الموضوع الذي يود صاحب العمل أن يستشعره ويبوح فيه، أو أن يربط معه علاقة تساعده في إيصال ما يصبو إليه.
وبالتالي ومن خلال ما يربط بين واجهة الغلاف وعنوان نفترض أن شاعرنا الرقيق في أحاسيسه سيتطرق لموضوع أو عدة مواضيع تتعلق بالوردة أو ببعض خصائصها؛ لكن افتراضنا هذا تأسس على عتبات الأولية لديوان فيما تبقى القراءة الأولية للديوان واستخراج بعض المضامين هي الكفيلة بالتصديق أو تكذيب افتراضنا.
انطلاقا من الصفحة الأولى بعد الغلاف نجد جملة “العنوان وضعته شريكتي في الحياة” مما يعني أنه ولو كان زجالنا هو من وضع العنوان لقلنا إنه قصد به امرأة، لكن مادامت المرأة أي زوجته هي من وضعت العنوان فهذا بالطبع يحيلنا على تفسيرات أخرى، لعل من بينها أن زوجته لما أحسته وتلمسته من كلمات ومضامين تتحدث عن الحياة والطبيعة، هو ما دفعها لاختيار هذا العنوان. حيث نجده مثلا يقول:
قطروني … قطروني من ظل الشجرة
نقطركم من ضوي زهره .. زهره
أنا النحلة
أنتما … انتما الخمره .
يتضح من هنا أن ملامح الطبيعة تتجسد بوضوح في شعر مسناوي لكن هذه الطبيعة لم تترك لوحدها بل مزج ذاته بها، وهذا ما لا يفسر فهمه للحياة وطبيعته الإنسانية التي لا تنفك أن تكون جزءا من الطبيعة المادية للوجود في الكون.
2. الحقول الدلالية:
غالبا ما يركز الشاعر أو الكاتب على مفردات معينة التي تنتمي إلى مجال معين أو ميدان محدد. وهذا بالضبط ما أطلق عليه الأدباء والنقاد بالحقول الدلالية. والمتأمل في هذا الديوان الذي بين أيدينا يجد أن الوحدات المعجمية الأكثر استعمالا تنتمي لحقلين مهمين هما: حقل الطبيعة وحقل الكتابة. وهذا الجدول يبين أهم الكلمات التي تنتمي لكلا الحقلين:
حقل الطبيعة حقل الكتابة
الوردة – الشمس – الشجرة – زهرة – النحلة – شمسها – بحور – لبحر – رمله – الطقس – سبوله – الغرس – ظل – سحابه – البيئه – الكون أكوان – الطير الغطاس – طير السيمورغ – طير العنقا – قطره – الغابة – الجنان – جبل – الأرض – النهار – الليل – الما – السما – الواد – الزيتون – أركان – قمح – نعناع – زعفران – النجمه – النخله ….. الكتابة – لمداد – الضو – كلمات – الورقة – نكتب – القصيده – كتابتنا – الحروف – شمعه – حرف – حوار – تاريخ – الدواية مع لمداد – لقلم مع الورقه – المبدع – نكتب – نقرا – لقرايه – لقلام – نقراكم – النقطه – والنون والقلم- اللوح – الكلمه – يتعلم – تنغرف حروفي – من فن الزجل – السؤال ….
يتبن بجلاء أن هذان الحقلان الدلاليان يلفان الديوان بكامله في تناغم وانسجام تماشيا مع تدفقات الشعورية للشاعر الذي لا ربط ذاتيته بكل ما يحوم حوله، ويتبدى ذلك باستعمال لضمير المتكلم في ديوانه من البداية حتى النهاية. سواء قرأت الديوان بالطريقة العادية أو تتبعت الترتيب الذي أورده بالأرقام أي من أخر الديوان إلى أوله على اعتبار أنه يرتب قصائده ترتيبا تنازليا من 10 إلى 0 . فهناك من سيبدأ بالقراءة من نهاية الديوان تتبعا لما حاول أن يمليه الشاعر في طريقة تلقينا لشعره.
3. التناص في الديوان:
لعل مصطلح التناص من المفاهيم النقدية الحديثة الذي صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبية. وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة. وهو من أهم الأساليب النقدية الشعرية المعاصرة وقد تزايدت أهمية المصطلح في النظريات البنيوية وما بعد البنيوية.
وينقسم التناص هاهنا إلى ثلاث مستويات:
• مع القرآن
• مع الحديث النبوي الشريف
• مع بعض الأشكال الشفهية
وهذه بعض المقاطع من ديوان بخ الورد وجدنا انها تتناص مع آيات قرآنية:
• (والنون والقلم) ص: 36 تناص قرآني قال تعالى: ﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ (1) سورة القلم الآية (1)
• (حتى يشعل راسي بلبيض) ص:46 تناص قرآني قال تعالى: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾(مريم: 4).” ولم يكن مسناوي أول من اقتنص ذلك من القرآن وإن لم يك بالمباشر فإنه قد سبقه لذلك لسان الدين ابن الخطيب بحيث وضعه عنوانا لقصيدته. وتضمنتها قصيدة أمل دنقل على القدس.
وهذا تناص مع حديث نبوي شريف:
• (ضيافة لحماق ثلث أيام) ص: 24 تناص مع حديث نبوي شريف -كما أنه يستعمل في الحياة اليومية وكأنه مثل :(ضيف الله ثلاث أيام)- ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزاعِي رضي الله عنه قَالَ : سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ) قَالَ : وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهْوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ) رواه البخاري (5673) ومسلم (48)
وهذا تناص مع بعض الأشكال الشفهية من قبيل الأمثال وما يجري مجرها:
• (وزواج القلم مع الورقه
تدبيره عام). ص: 24 وهو تناص مع المثل الشفهي: “زواج ليلية تدبيره عام” .
• (صدقوا الواد السكوتي
لا تصدقوا الواد الهرهوري)، ص: 40 تناص مع المثل الشفهي: “دوز على الواد الهرهوري لا دوز على الواد السكوتي”
• (ما فضلت راسي عليكم)، ص: 44 تناص مع مسكوك لغوي يطابقه في نفس الصيغة وقد يعد اقتباسا وليس تناصا.
• (ماعنديش
وما خصنيش) ص: 51 تناص مع مثل مغربي يقوله الفقراء للحفاظ على كرامتهم. وهو يطابقه في الصيغة فهو مقتبس من أفواه الشيوخ.
• (شي هدره
كتدخل منهنا
وكتخرج منهنا )ص:53 تناص مع مثل شفهي مغربي يقال للامبالاة لكلام الآخرين.
• (النهار اللي داز
تاينقص من عمر الانسان) ص: 54 وهو تناص مع المثل المغربي: النهار اللي داز تينقص من العمر
• (الريح للي جا كنديه) ص55 تناص مع المثل الشفهي المغربي: الريح اللي جات كتديه
• (سعدات فاعل الخير !) ص: 14 تناص مع ما يجري مجرى المثل وهو مسكوك لغوي في اللهجات العربية المغربية.
الملاحظ لهذه الظواهر التناصية يلمح الخصوصية المتفردة للأدب المغربي الشفهي التي تستقي من ثوابت الأمة بعض عناصر تزينها واحتجاجها والمتمثلة في آيات القرآنية والأحاديث النبوية وإن كانت بطريقة غير مباشرة فهي حاضرة بقوة. وهذا البعد الديني يغني قصائد مسناوي من حيث الجانب الفكري وتحمل دلالات تحيل على تمسك شاعرنا بعقيدته الإسلامية. كما لا يفوت مسناوي أن يطبع شعره بالخصوصية المغربية من خلال الأمثال المغربية والمحلية وما يجري مجرها، وذلك للتعريف بالمأثور الأدبي الشفهي المغربي الغني بحكمه ومعانيه التي تنم عن تجربة إنسانية بالغة الأهمية. والتي -التجربة الإنسانية- تعطي للأدب صفة العالمية انطلاقا مما هو محلي، وكذا تقاسم التجارب على مستوى حوار الحضارات في إطار أدبي وفني يستلهم تفرده من الحياة اليومية للشعوب.
4. الرمز والأسطورة:
و نلفي كذلك في ثنايا هذا الديوان مجموعة من الكلمات الغريبة التي تثير عدة تساؤلات واستفسارات. والتي لا تتداول في كلام الحياة اليومي بل هي مستعارة من ثقافات مختلفة. مثلا :
• ( طير السيموزغ ) ص. 15.
• ( الديجور) ص.15.
• (طير العنقا) ص. 15.
• (بروميثيوس سرق النار) ص. 59.
هذه الكلمات التي بين أيدينا تحيل على ثقافات قديمة وعقليات مختلفة عن ما نعيشه اليوم، وقد استحضرها الشاعر ليبدي اطلاعه على الثقافات الأخرى. وكل هذه الكلمات تتضمن قصصا معينة تنتمي لشعوب ما قبل التاريخ. وهذا الأمر ليس غريبا على الشعراء في العصر الحديث بحيث يوظفون بعض الرموز التي تحيل على بعض أساطير اليونانية التي يجدون فيها ما يعكس ما بأرواحهم من أحاسيس ومشاعر وأسئلة مقلقة تخالج ذهنياتهم.
وعلى سبيل الختم:
بعد اقتصارنا على بعض تقنيات التمحيص والكشف عن ثنايا الدواوين الشعرية والأعمال الأدبية عامة؛ يمكن القول أنها كانت كافية لاستنتاج عديد من العناصر الفنية التي وسمت الديوان بالشعرية، منها اعتماد على حقول دلالية بعينها وخصوصا حقل الطبيعة الذي يعكس هروب الشاعر للطبيعة تحاشيا من الخوض في المشاكل الاجتماعية المستفحلة في شارعنا العام. لأن الشاعر لا يقدر على التطرق لها لما يعرف عنه من إحساس مرهف ومشاعر رقيقة لا تسمح له بالحديث عن المشاكل العويصة التي يتخبط فيها المجتمع. كما أن الشاعر يستعمل إشارات تحيل على مرجعيته الايديولوجية الإسلامية التي تعد من ثوابت مملكتنا المغربية. بإضافة انفتاحه الواسع على الثقافة الشفهية المغربية مما تطرقنا له من الأمثال. مع العلم أنه ذو ثقافة عالمة راقية المتمثلة في رجوعه لأمور كانت ولازالت تهم الإنسانية جمعاء وهي الأساطير باعتبارها الطريقة الأولى التي تعلم الانسان من خلالها التفكير وساعدته على تفسير واقع حاله. ومن ثم التقدم والتطور.
اترك رد