د. حفيظ هروس: باحث في التصوف الإسلامي – المغرب
يمكن القول أن هذا الكتاب ينتمي لحقل “نقد نقد الاستشراق”، فمنذ صدور كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق”، ومن قبله مقال أنور عبد الملك الذائع الصيت “الاستشراق في أزمة” انبرى العديد من الكتاب من اتجاهات فكرية مختلفة للدفاع عن الاستشراق ودحض أقوال نقاده، وقد همّت هذه الحركة الضد نقدية المستشرقين أنفسهم في البداية، فقد حاول الكثير منهم تبرير أعمالهم، والدفاع عن التقاليد البحثية التي ترسّخت عبر القرون في الحقول الاستشراقية المختلفة، ونجد من بين هؤلاء المستشرقين فرانسيسكو غابريلي وماكسيم ردونسون والبرت حوراني وغيرهم، ورغم دفاعهم المستميت عن التوجهات العامة للاستشراق، ونبل مقاصده المنبنية على فضيلة “الفضول المعرفي” في نظرهم، فقد اعترفوا هم أنفسهم بوجود العديد من وجوه القصور في دراساتهم. وقد سار على منوال هؤلاء المستشرقين وسلك مسلكهم الكثير من المفكرين العرب أمثال صادق جلال العظم ومهدي عامل اللذين تعتبر كتابتهما من أمتن البحوث في الباب.
وعليه يمكن القول إجمالا أن محمد المزوغي ينتمي إلى هذه الفئة من المفكرين التي حاولت تفكيك بنية المدرسة الضدية في الاستشراق التي عملت على فضح أغراضه الاستعمارية، ونسف بناءاته العنصرية، ودحض مقولة المركزية الأوروبية في الدراسات الاستشراقية من خلال سبر أغوارها، والاطلاع العميق على مناهجها وأفكارها.
وهكذا فقد انصبت مجهودات الرجل في هذا الكتاب على نقد موقف أركون وتلامذته من الاستشراق عموما، والمنهج الفيلولوجي على وجه الخصوص، فهو يعتبر أن الانخراط الواعي أو غير المقصود في نقد الدراسات الاستشراقية وبيان تهافت قراءاتها، وكذا التقليل من أهمية المنهج الفيلولوجي بزعم الدعوة إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية يصبُّ في مصلحة الرجعيين في العالم العربي وعلى رأسهم الإسلاميين، ويقوي مراكزهم، ويدعم نفوذهم الفكري والسياسي، الشيء الذي يجعل من هذه القراءات النقدية تقع في تحالف موضوعي مع هؤلاء الرجعيين الذين لا يتوانى عن وصفهم بالإرهاب والعمالة. يقول في هذا الصدد: “إن أركون وصالح هما مثال عيني صارخ لما آلت إليه حالة الثقافة العربية الراهنة من بؤس وتقهقر جراء التحالفات المريبة… بين مفكرين علمانيين… وبين طغمة الإسلاميين في كفاحهم ضد الاستشراق وتشويه سمعة المستشرقين”[1].
كما أنه يعتبر من جهة أخرى أن هذا النقد يؤدي إلى إذكاء نَزاعات الغلو والتطرف، وهو ما قام به محمد أركون أحسن قيام في نظره، يقول: “ساهم أركون بمعية مثقفين عرب آخرين من أمثال المؤرخ التونسي هشام جعيّط ومن قبله أنور عبد الملك في هذا الدمار، بحيث كل الذين نقدوا الاستشراق الأكاديمي والفيلولوجيا وكل من أدلى بدلوه بحسب الطاقة والوسع في هذه المعركة اللابطولية ذكّى الغلو والإرهاب”[2] .
بناء على ذلك فإنه يصب حمم غضبه على محمد أركون وتلامذته الذين غرقوا في وحول هذه الخطيئة العلمية التي لا تغتفر “لقد بيّنت في كتابي هذا أن العدو الأوحد لأركون وصالح هما الاستشراق والفيلولوجيا”[3]، كما أنه اعتبر أن هذا الطعن “العشوائي” الذي جذّره أركون كانت له نتائج كارثية[4].
والمتتبع لأحوال الرجل في عمله ونقده نجده يتكئ على منطلقات مضمرة غير سليمة، وسوابق قصدية غير بريئة تنضح بها تعبيراته، وتفضحه فيها انفعالاته، ويمكن إجمال هذه السوابق المضمرة والقصود المكنونة في ما يلي:
-أولها العداء التام للدين ولظاهرة الوحي وللنبوة، وللدين الإسلامي ونبيه على وجه الخصوص، فعباراته العدائية مسفرة غير متبرقعة، ظاهرة غير محجوبة، ف”الأديان هي العدو الأشرس للعالم”[5]، و”الدين هو في كل الأحوال عائق وليس محركا للمجتمعات”[6]، والأنبياء “أفزعوا البشرية بتعاليمهم وأفعالهم”[7]، والموروث الإسلامي مشكوك في صحته، وجمع القرآن “قصة خيالية”[8]… وغيرها من العبارات والفقرات التي يعج بها الكتاب، ولا يستغرب المرء إذا علم أن الرجل أحد كبار الملحدين وصناديد المنكرين للأديان والرسالات، فالبرجوع إلى كتابه “تحقيق ما للإلحاد من مقولة” الذي ألفه لدحض أطروحة المفكرين المؤمنين وأشباه المؤمنين يقول بكل وضوح “نقول… إن اليوم ودائما يمكن للمرء أن يقول إن الله غير موجود… وإن هناك حججا فلسفية متينة لكي يغدو المرء ملحدا، أو على أية حال لكي يرفض الدين”[9]. وليس من العيب في شيء أن يتبنى المرء هذا الموقف أو أن يسعى أن يستدل عليه بالحجج والبراهين، ولكن العيب هو في تلك النبرة العدائية للدين، واللهجة الساخرة من المؤمنين وعقائدهم التي تناقض العلم والمنطق وتغرق في مواقف ايديولوجية متجاوزة.
وسبب حملته على نقاد الاستشراق مرتبط بهذه الايديولوجيا الباردة، فهو يعتقد أن هذا النقد يخرم الجهود التي بذلتها الدراسات الاستشراقية في النيل من العقائد الدينية وهدم أسسها، كما أن مواجهة هذه الدراسات بالنقد يطيل أمد العقائد الدينية ويمكّن لها.
-ثانيهما الكره العميق للإسلاميين ومن دار في فلكهم، أو تقرب منهم، أو تعاطف مع القضايا التي يناضلون من أجلها، وقد كال لهم أشنع النعوت وأبشع الصفات أجمعها لغله لهم قوله في حقهم: “الإسلاميون بجميع فصائلهم، عنوان العمالة واللاوطنية والخيانة والانتهازية والإرهاب”[10]، وهكذا جمعهم في سلة واحدة بدون تحقيق ولا تدقيق ولا تفريق. وسبب اهتمامه بهم في مؤلفه هذا اعتقاده أن أركون بمواقفه النقدية للاستشراق ومناهجه الفيلولوجية التي تهدم أصول الإسلام وعقائده يقف في صفهم ويناصر قضاياهم، لهذا لا يتورع عن وصفه هو أيضا بأنه إسلامي متخفي أو علماني متملق وغيرها، وأنه ما زال “يرزح تحت سلطة القناعات الدينية الإسلامية”[11].
-ثالثهما المعارضة المبدئية لأركون ومدرسته وتلامذته، وهو الذي خصّ مشروعه “الإسلاميات التطبيقية” بنقد تفصيلي في كتابه “العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون” والذي يشي عنوانه الفرعي بالموقف السلبي للرجل من مشروع أركون، لهذا فإنه في الكتاب الذي بين أيدينا لا يدع كلمة سيئة إلا ويصف بها هذا المشروع، فهو “مشروع تجهيلي بالأساس”[12]، كما أنه “مشروع عبثي تخريبي بأتم معنى الكلمة”[13]، أما عن انفتاحه المنهجي فهو مجرد “طرح أسئلة وعدم تقديم أجوبة، يعني… منهج اللامنهج، عبث فكري لا غير…”[14]. والشيء نفسه، والنعوت ذاتها يكيلها لمن يصفهم بأتباع أركون وتلامذته أمثال هشام صالح ومحمد حداد وآمنة الجبلاوي.
-رابعها التبجيل للإرث الاستشراقي والمنهج الفيلولوجي بزعم قدرة هذه الدراسات وهذه المناهج على هدم العقائد الإيمانية و”اعتماد نظرة عقلانية متحررة للقرآن والوحي والنبوة”[15]، فرغم أنه يدعي أن الدراسات الاستشراقية ليست محصنة ضد التشكيك والدحض[16]، فإنه يقف بالمرصاد لكل المحاولات الجادة التي تعمل على تفكيك الإنشاء الاستشراقي عن طريق توظيف العلوم الإنسانية والمناهج النقدية الحديثة.
لكن في المقابل لا يجد أي حرج في التعرض بالنقد لبعض المستشرقين وانتاجاتهم المعرفية، من الذين أزعجته بعض أرائهم المتملقة للدين الإسلامي في نظره، مثل أراء برنارد لويس الذي يعتبره عرّاب المؤامرة التخريبية الكبرى “أعني تحالف الإسلاميين والغرب لتدمير العالم العربي وتفتيته بالكامل”[17]، وهو بهذا سقط في تناقض مريع وازدواجية مرفوضة حيث يدافع عن الاستشراق ضد منتقديه وفي نفس الوقت يمرغ في التراب بعض المشاريع الاستشراقية، وهذا التناقض والازدواجية هو ما عابه بالضبط على أركون الذي وصفه بأنه “يهجم على المستشرقين هجمة شرسة، ثم يعود أدراجه فيتصالح معهم ويثني عليهم”[18]، أما صاحبنا فإنه يدافع عنهم ضد خصومهم دفاعا مستميتا ثم يعود إلى الهجوم على الذين لا تروقه أفكارهم فيصفهم بأقذع النعوت والأوصاف. وكأنه لم يدرك أن الاستشراق فيه الغث والسمين، والحسن والقبيح لهذا فكل من التبجيل المطلق أو التبخيس المطلق هو موقف مبني على غير أساس.
أما الموقف المتبصر من الدراسات الاستشراقية فهو الذي يقوم على أساس دراسة وتحليل الأفكار في أصولها المعرفية وفحص المناهج التي توسلت بها هذه الدراسات، بعيدا عن المواقف الايديولوجية اليابسة.
______________________________
[1] -د.محمد المزوغي، في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح. افريقيا الشرق 2017. ص28.
[2] – نفسه ص198.
[3] -نفسه ص6.
[4] -نفسه ص118.
[5] -نفسه ص33.
[6] -نفسه ص39.
[7] -نفسه ص184.
[8] -نفسه ص43.
[9] -د.محمد المزوغي، تحقيق ما للإلحاد من مقولة. منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2014. ص6.
[10] – د.محمد المزوغي، في نقد الاستشراق ص63.
[11] -نفسه ص39.
[12] -نفسه ص72.
[13] -نفسه ص74.
[14] -نفسه ص123.
[15] -نفسه ص25.
[16] -نفسه ص33.
[17] -نفسه ص54.
[18] -نفسه ص113.
اترك رد