حين يتأمل الإنسان الواقع القريب منه والبعيد يحس بحركة لا تخفى لزحف التفاهة على حياتنا البسيطة، إنها تزحف كما تزحف صهارة بركان يحرق كل ما يمر به في بطء، يترك الأخضر رمادا، ويحيل الحياة بعده إلى موت ودخان.
تزحف التفاهة ببطء على حياتنا لأن إيقاع زحفها هو سر خطورتها، فهي تتسرب وتتسلل كالحية الملساء عبر كل المنافذ وعبر كل المداخل لتفعل فعلها في النفس بتطويعها التدريجي لتقبل بحضورها الجزئي شيئا فشيئا حتى تستفرد بالمكان كله، فتبتلع ما فيه نبض حركة.
عبر خطة التطبيع المرحلي مع التفاهة يتم اختراق “الإنسان”، ويتم هدم جهازه المناعي مثلما يفعل مرض الإيدز أو المرض الخبيث، يفتك بمناعة الإنسان حتى يتركه بلا مناعة، إنسانا في مهب الريح، قابلا للسقوط في أي لحظة، لأن حمايته الداخلية قد تعطلت، أو انهزمت أمام جيوش الفتك الهادئة التي تقضي على الإنسان من دون ضجيج.
التفاهة تصيب الإنسان بالتعفن التدريجي أو المرحلي، مثلما تصاب الأشياء المحيطة بنا حين تتهيأ الشروط الذاتية والموضوعية للتعفن، فيسري فيها العفن شيئا فشيئا حتى يواريها كلها بعد أن يكون قد اخترمها من الداخل فأتى على كل خلاياها وأجزائها.
ولعل أول ما يلحقه عفن التفاهة في الكائن البشري هو عقله وذوقه، ولعلة ما فإن برامج التتفيه و”التعفين” تسدد سهامها نحو هذين المركبين لتضعف مناعتهما وقدرتهما على الرقي بالكائن الإنساني، أو بالأحرى قدرتهما على الحفاظ على إنسانية الإنسان.
وبسقوط قلاع العقل وحصون الذوق يسقط الإنسان، وتتوالى الضربات في جسد ميت، فما لجسم بميت إيلام.
يقول صلاح عبد الصبور:”الإنسان آلة كبيرة مكونة من أجزاء هامة، وأجزاء أقل أهمية، فالأجزاء الهامة كالرأس والقلب، إذا فسدت فليس لها قطع غيار، ولا يمكن أن تسير الآلة بدونها، ولكن هناك أجزاء صغيرة أقل أهمية مثل الأصابع والزوائد، إذا فسدت فمن الممكن أن تسير الآلة بدونها مع عطل جزئي صغير في وظائفها”.
ومع زحف التفاهة على حياتنا، وتمكنها من أنفاسنا، يصير كثيرون منا يستمتعون بجهلهم وانحطاطهم وذيليتهم، ويجدون لذة في سعيهم لتدمير ذواتهم، كما يجدون نشوة حين ينزلون خداما عند أعدائهم، يصيرون باختصار أعداء لأنفسهم من غير أن يشعروا…(يتبع)
اترك رد