دكتور / أحمد علوان

تمثل اللغة أحد مقومات الحياة للأمم، وأبرز دعائم نهضتها، فهي وسيلة التفكير، وأداة التخاطب بين أبنائها، ووعاء معارفها، وأولى عوامل انتشار الثقافة وتداولها، وإنْ توافرتْ تلك السمات لسائر اللغات يبقى للعربية اختصاصها بأنَّها أساس وحدة الأمة العربية ولغة قرآنها الذي صار مظهرَ إعجازها.
وقد تعانقتْ اللغة العربية والإسلام منذ أكثر من أربعةَ عشرَ قرنا من الزمان، فأضاف كلاهما للآخر، وأخذَ منه، وانتشر كلاهما بمساعدة الآخر، وإنْ حمل كلٌّ منهما بينَ جوانبهِ من القوة ما يكفلُ له الغلبة والانتصار، فبفضل الإسلام انتشرتْ العربية في معظم أرجاء المعمورة، فلقد حمل العرب الإسلام إلى العالم، وحملوا معه لغة القرآن الكريم، فلم تعُدْ العربية لغةَ العرب وحدهم، بل هجر العديد من الشعوب لغتهم إلى لغة القرآن، فصارت العربية لغة عالمية.
ومن جانب آخر أفاد الإسلام من العربية؛ إذ لم يتحقق الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة إلا بإتقان العربية، ولم يُتوصل إلى فهم ومعرفة أسرارِهما، واستنباط الأحكام منهما إلا من خلالها، وهل يمكن لغير المتمكنِ من العربية أنْ يقفَ على جمال أسلوب القرآن، وبلاغته، وسرِّ إعجازه؟
وقد أدرك المسلمون الأوائل أهميةَ اللغة العربية، واستقرَّ في وجدانهم أنّ فهم أحكامَ القرآن وآدابه، وتمييز مُحكمه من متشابهه، ومُجمله من مُفصَّله لن يتحقق إلاَّ بمعرفة اللُّغة العربية معرفةً تامة؛ فحرصوا على دراسة العربية وإجادتها لينفُذوا منها إلى مرادهم، ويُذكر أنَّ الشافعي ظلَّ عشرين عاما يدرس العربية لا ليتخصص في تعليمها وإنَّما ليستعين بها على الفقه، وهذا أمر بدهي؛ فإذا كان الفهمُ الصحيح للدين لا يتمُّ إلا بالعربية فتعلُّم العربية واجب.
وكان الأمراء والخلفاء يوكلون أبناءهم إلى معلمين يعلمونهم العربية، ويُحفِّظونهم كتاب الله، وأحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم- وروائع الشعر العربي في عصوره الزاهرة، بل إنَّ من الأعاجم الذين دخلوا الإسلام مَن حملَ لواء العربية، وعكفَ على دراستها؛ حتى برز منهم علماء في مختلف علوم اللغة.
ولا شكَّ أنَّ المسلمين في عهود الإسلام الأولى كانوا الأقدر على فهم القرآن، وإدراك مراميه؛ نظرا لامتلاكهم ناصية اللغة العربية، وفهمهم لأدقِّ أسرارها، وإحاطتهم بأساليبها.
أمَّا في القرون المتأخرة، وخاصةً القرن السادس عشر الميلادي حين بدأتْ النهضة الأوربية الحديثة، وضعف شأن العرب المسلمين، وتعرضتْ بلادهم للهجمات الاستعمارية، وجَّه الأعداء سِهامهم إلى هدم وحدة الأمة، ولم يجدوا لذلك طريقا مُمهدا سوى ضربِ اللغة العربية.
وحاولوا ذلك ما وسعهم الجهد، فاتَّهموا العربية بالعجز عن مواكبة الحضارة الحديثة، وأنَّها سر تخلف العرب، والعائق أمام الإبداع، ودعا بعضهم إلى الأخذ بالعامية، وحاول نظم قواعدها، وبين محاولات الأعداء هدم العربية وإهمالِ أبناء اللغة لها، وهجرهم إياها إلى اللغة الدراجة واللهجات المحلية انحدرت الفصحى، وأصابها الضعف، وقد كانَ لهذا الضعف والانحدار أثره على الإسلام، والذي يمكن إجماله فيما يلي:
أولا: الخطأ البيِّن واللحن الجليُّ في تلاوة القرآن الكريم، فقد أمر الله جل وعلا بتلاوة القرآن فقال:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة:121)، ولن يتحقق للتلاوة حقها إلا بإجادة العربية على مختلف مستواياتها أصواتا وصرفًا ونحوًا، وحينَ ضعفتْ اللغة على ألسنة المسلمين حديثًا رأينا من اللحن في تلاوة القرآن ما لم نجده عند أسلافنا.
ثانيا: الخلل في فهم القرآن الكريم وتدبره، وكذلك السُّنة النبوية، فإنَّ الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة لا يتحقق إلا بتحصيل علوم العربية، ومن ثمَّ نجد الكثير من المسلمين يقرأون القرآن ولا يتدبرونه؛ لأنهم لا يجيدون العربية، فكيف لمن لا يعرف العربية حين يقرأ قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ( البقرة 237) أن يدرك أنَّ الخطاب في ( يعفون) يوجه للذكر أم للأنثى؟ وكيف لمن لا يفهم معنى الشرط في العربية أنْ يعرف هل وقع الهمُّ من نبيِّ الله يوسف عليه السلام- أم لم يقع في قوله تعالى{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ} ( يوسف 24).
ثالثا: ظهور الفتاوى المضلة والفهومات الخاطئة للنصوص الشرعية، إذ لا يمكن للمجتهد أنْ يستنبط الأحكام الشرعية إلا عن طريق إجادة اللغة العربية، ومن ثمّ فإنَّ ضعف اللسان العربي والجهل بقواعد العربية من التصريف، والنحو، والاشتقاق، والمعاني، والبيان لدى بعض من يقدمون على الفتوى أدَّى إلى ظهور فتاوى ضالة مضلة؛ الأمر الذي حدا بالدول أن تخصص هيئاتٍ بعينها لضبط الفتاوى، إلا أنَّ هذا الأمر قد حدَّ منها، لكنه لم يمنعها.
رابعا: القصور في الدعوة إلى الله تعالى، فقد أنزل الله القرآن بالعربية ليتم التبليغ بها، قال عز وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم:4)؛ فهذه الآية الكريمة تدل على أنَّ إتقان اللغة هو الوسيلة لتبليغ الرسالة، وضعف اللغة على ألسنة الدعاة الذي نراه اليوم نتج عنه غياب أثر الدعاة فيمن توجه إليهم الدعوة، ونفور أغلب المثقين ممن لا يروقهم ضحالة اللغة عند الدعاة.
ليست العربية إذًا تراثا خلَّفه لنا السابقون فنكتفي بالفخر والاعتزاز به، لكنها لغة قرآننا، التي وسعتْ كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم- فصار تعلمها، والنفاذ إلى أسرارها لزاما على مَن أراد الخير لهذا الدين، فقد وُضعت قواعد العربية وفقا لنصوص القرآن والحديث الشريف، وما سُمع من كلام العرب، فمن هجر العربية فلاشك قد فتح لنفسه بابًا لهجر القرآن.