منطلقات ديداكتيك العلوم الإسلامية بالتعليم الجامعي

د. عبد السلام السلام العزوزي – المغرب – دكتوراه في الدراسات الاسلامية العليا تخصص : الفقه وأصوله.

نوع الإضافة: بحث
العنوان: منطلقات ديداكتيك العلوم الإسلامية بالتعليم الجامعي

النص: المقدمة:
الحمد لله رب العالمين؛ والصلاة والسلام على نبي الله ورسوله الأمين؛ معلم الأمة سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد؛
فقد انقطع تدريس العلم الشرعي على وجهه الحقيقي، بما أدى إلى انقطاع تخرج العلماء بالمفهوم الأصيل للكلمة، فقد عانت الجامعات الإسلامية والمعاهد الشرعية عبر أغلب أقطار العالم الإسلامي – إلا قليلا- من أزمة ما سمي بقضية (تحديث ) أو (إصلاح) برامج التعليم وذلك عبر فترات ومراحل متتاليات، تدرجت مع الأسف من الأعلى إلى الأدنى، بما أخرجها عن وظيفتها الحقيقية، وعقم من رحمها تعقيما.
وما أفسد طلب العلم في زماننا هذا مما هو مبرمج في المعاهد والجامعات – شيء مثل الاعتماد على الملخصات الجزئية، التي يعدها الأستاذ أو يقررها؛ حسب المقررات التجزيئية، ضمن المجزوءات التي وضعتها الوزارة! محددة بغاية زمنية من الامتحانات التي تفرض نفسية المسارعة والتقتير في المعطيات العلمية؛ بما يؤدي إلى تجزيئ المجزوء، وتفتيت المفتت! فيدخل الطالب في برامج الدراسة للعلوم، بصورة لا تأتي على غاية أي علم! ولا تجمع شيئا من أصوله الكلية، ولا قضاياه المنهجية! بما يجعل طلبة الدراسات الإسلامية والشرعية عموما يتعرفون على عدة أشياء من العلوم الشرعية، ولكنهم لا يتقنون منها أي شيء!
ناهيك عن وسائل تدريس البرامج والمناهج الدراسية في العلوم الإسلامية على وجه العموم، التي تتسم في الوقت الحاضر، باعتماد أسلوب المحاضرة والإلقاء .
هذا إضافة إلى فساد القصد، وانحراف النيات عن غاية التعلم الشريف، إلى غاية طلب الدنيا بالشواهد الكاذبة؛ مما ينزع البركة من العملية التعليمية برمتها! فلا يتخرج من مسالكها عالم إلا ما رحم الله، وقليل ما هم!
والملاحظ أن أساتذة التعليم العالي يتسلمون مهام التدريس دون خضوعهم لأي تكوين بيداغوجي على الإطلاق، فقد آن الأوان لتصحيح الوضعية! لأنه حقيقة هناك افتقار أساتذة الجامعات إلى الإعداد التربوي القبلي، فالتخصص العلمي وحده غير مؤهل للتدريس، إذ لابد من معرفة طرق التدريس الحديثة المبنية على فلسفة أن الطالب الجامعي هو الذي ينبغي أن يبحث بنفسه عن المعلومات المتعلقة بالمقرر، مما يدفعه للبحث عنها في مصادرها، فالتدريس الجامعي المتميز هو العملية التي تثير دافعية الطلبة للتعلم بطرق تحدث تأثيراً جوهرياً ودائماً وإيجابياً على الطريقة التي يفكرون ويتصرفون ويشعرون بها.
إن الذي أدى إلى الممارسات السلبية في أساليب التدريس في الجامعات، هو عدم توافر دورات تربوية للأستاذ الجامعي، أثناء الخدمة من قبل مدربين متخصصين …
كل هذا وغيره من المشاكل التي يعرفها التدريس بالجامعات سواء تعلق الأمر بالعلوم الشرعية أو غيرها من التخصصات، حرك غيرتي ودفعني للكتابة محاولا الإسهام في تصحيح الوضعية من خلال الإجابة عن الإشكال الآتي:
إذا كان هذا هو واقع تدريس العلوم الإسلامية بالجامعات الإسلامية والمعاهد الشرعية عبر أغلب أقطار العالم الإسلامي فما هي منطلقات ديداكتيك العلوم الإسلامية بالتعليم الجامعي؟
وقد اقتضى منهج الدراسة تناول الحديث في هذا الموضوع ضمن ثلاثة محاور، وخاتمة في الخلاصات والتوصيات، وقد حاولنا الإيجاز والاختصار حسب ما يتطلبه المقام والقدر المسموح به من الصفحات والله المستعان :

المحور الأول المنطلق الابستمولوجي:
وهي الأسس المعرفية التي تقوم عليها العلوم الشرعية، والمتجلية في الأصول الأربعة التالية:
– الأصل الأول: نصوص الوحي:
أ‌- القرآن الكريم :
فالنص القرآني نص متفرد عن أي نص كيفما كان نوعه، وهو وحي باللفظ والمعنى وصل إلينا بالتواتر، والنظر في هذا النص نظر عام ونظر خاص:
فأما النظر العام فهو أن يُوجّه طالب العلم الشرعي إلى جمع القرآن كله، حفظا واستظهارا. وأقل ما ينبغي حفظه إن كان ممن تأخر جمعه الثلث ويستحسن أن يكون المجموع في البدء شاملا للسبع الطوال؛ بما هي جامعة لأغلب آيات الأحكام، ثم لسور المفصل بماهي جامعة لآيات التزكية والتربية وما يحتاجه المؤمن في السلوك إلى ربه، وطلب معرفته تعالى.
وأما النظر الخاص: فهو تدريس آيات الأحكام، ومناهج استنباط فقهها وفوائدها العلمية؛ مع ما يقتضي ذلك من التسلح بما يلزم من العلوم اللغوية، والأصولية، وقواعد الاستدلال.
والانطلاق من آيات الأحكام في فقه الدين ضروري؛ لأنها تتضمن الصيغ الكلية للأحكام الشرعية. وهي صيغ مكتنزة بالمقاصد الشرعية، وإهمالها أو الاستغناء عنها بأحاديث الأحكام- كما يفعله بعضهم- موقع في التجزيء الفقهي، وإغفال قصد الشارع من التشريع؛ مما يؤدي إلى السطحية في الفهم، والانحراف في الاستنباط. فلابد إذن من استحضار فقه القرآن أولا؛ بدراسة آيات أحكامه.
ب‌- السنة النبوية:
وفيها أيضا نظران: عام وخاص.
فأما النظر العام: فهو توجيه طالب العلوم الشرعية إلى التفقه في مجمل سنة المصطفى  ، ومداومة النظر في كتبها؛ حتى يكون على علم بأحوال رسول الله  إجمالا، بما هو مبلغ عن الله، ومبين لشريعته. ذلك أن الجهل بالسنة من أهم الأسباب المؤدية إلى التقليد، والزيغ عن جادة الصواب في أمور العبادات، والارتماء في أحضان البدع والخرافات. فالقدرة على استحضار النصوص الشرعية- من الكتاب والسنة- في أمور الدين هو أول الخطوات في طريق العلم والعمل، فإنما الأمة الإسلامية حضارة نص.
وأما النظر الخاص: فهو أن يوجّه طالب العلوم الشرعية إلى التضلع من أحاديث الأحكام وفقهها، وما يلزم لها من قواعد وعلوم. ذلك أن أحاديث الأحكام هي المفتاح الحقيقي لكي يفقه الطالب آيات الأحكام. فالقرآن إنما جاء في الغالب بكليات الأحكام الشرعية بينما السنة جاءت بتفاصيلها وبيان هيآتها. ولا مناص في الفقه من الجمع بين الكليات والجزئيات؛ لأن الاقتصار على إحداهما يؤدي إلى خلل في الفهم وانحراف في الاستنباط. فالكلي يتضمن المقاصد التشريعية التي بها يستنير المجتهد لضبط المراد؛ فلا تشغله تدقيقاته الجزئية في المساقات التفصيلية عن قصد الشارع الكلي. والجزئي يضمن له معرفة تفاصيل التنزيل وكيفيات التطبيق. ولا وصول إلى حقيقة الشريعة إلا بهما. ومن هنا فلا مناص من استحضار نصوص الكتاب والسنة معا. فلا يجوز أن يكون أحدهما شاغلا لطالب العلم الشرعي عن الآخر. وإلا اضطرب ميزان الفهم بين يديه وهو لا يدري، فيظن أنه قد علم وما هو على الحقيقة بعالم!
– الأصل الثاني: العلوم الشرعية:
يقصد بالعلوم الشرعية العلوم الإسلامية التي انطلقت تاريخيا منذ نشأتها من نصوص الشريعة: الكتاب والسنة، ودارت حول فلكها غاية وخدمة؛ بقصد تقعيد مناهج الفهم والتطبيق لأحكامها. وهي ثلاثة أصناف: علوم القرآن والسنة، وعلم الفقه وأصوله، وعلم التوحيد والتزكية.
1- الصنف الأول علوم القرآن والسنة:
أ‌- علوم القرآن : هي العلوم التي نشأت لخدمة القرآن الكريم وتيسير فهمه على الإجمال. وقد ألف العلماء في ذلك الكثير. ويدخل في ذلك المصنفات التي سميت بعلوم القرآن كالإتقان في علوم القرآن للسيوطي والبرهان في علوم القرآن للزركشي، وكتب غريب القرآن، وكتب معاني القرآن وما في معناها. كما يدخل في ذلك كل كتب التفسير بما هي كتب غايتها خدمة القرآن فهما وتفسيرا، وإنما هي الوجه التطبيقي لكتب علوم القرآن ذات المنحى النظري.
فينبغي أن يحيط الطالب بمجمل مقاصد هذه العلوم؛ بما هي قواعد تنظم مناهج الفهم للقرآن. والهدف التعليمي المتوجه إليه فيها ليس تفاصيلها، فهذه سيجدها في أي مكان، وسيجدها تعرض ضمن علوم شتى؛ لتداخل العلوم الإسلامية فيما بينها، كما هو الشأن في علم أصول الفقه مثلا، بالنسبة إلى علوم القرآن. وإنما المقصود أن يضبط “منهج التقعيد” المبثوث في مصنفات هذا العلم، الذي يعرضه أهله باعتباره ميزان الفهم عن الله. هذا هو الأساس، وذلك هو اللب من علوم القرآن والتفسير.
ب‌- علوم السنة: وهي القسم الثاني من الصنف الأول، والمقصود بها هنا العلوم التي نشأت لخدمة السنة النبوية رواية ودراية.
والطالب مضطر إلى معرفة صحيح السنة من ضعيفها، وثابتها من موضوعها؛ حتى لا يكون مثل عوام “المتفقهين” ممن لا دراية لهم بهذه الصناعة ولا اهتمام؛ يوردون من الأقوال الشاذة في الفقه والعبادة ما لا أصل له، ويستشهدون لذلك بما لم يصح عن رسول الله، أو ربما بما كذب عليه!
وإذن ؛ فلا بد للطالب من التمكين من علوم النقد الحديثي، سواء في ذلك ما تعلق بنقد المتن أو نقد السند، والمعرفة بمراتب الجرح والتعديل وقواعدهما، ومراتب الرواية وما يثبت من ذلك وما يرد، وأحوال الأسانيد وعللها الخفية، مما يقدح في صحة السند، ويخرم حجيته. ثم ما يرقّي الحديث إلى درجة أعلى وما لا يستقل بذلك! كارتقاء الضعيف إلى درجة الحسن، والحسن إلى درجة الصحيح.
وأقل ما يجب على طالب العلوم الشرعية أن يتقنه من ذلك القدرة على ضبط مصطلحات القوم وقواعدهم؛ حتى يتمكن من الترجيح بين أحكامهم عند الاختلاف. ذلك أن علم الحديث قد قتل بحثا، ونضج حتى احترق!
و الوجهة العلمية – بما يناسب حاجة الأمة الملحة في هذه الأزمنة- إنما هي طلب “الفقه”، لا بمعناه التقليدي الاستظهاري، ولكن بمعناه الكلي الصناعي، أي بما هو صناعةٌ وملكةٌ يجب تحصيلها. وعلوم الحديث المنهجية إنما هي وسائل لهذه الغاية، فجمهور الطلبة يجب أن يتوجه لهذه الغاية، وإنما العالم من يفقه عن الله ورسوله.
وليس معنى هذا أن يتعين إهمال الصناعة الحديثية، كلا! فلا فقه في الحقيقة إلا بها، إذ هي أساس الفكر النقدي في مناهج العلوم الإسلامية، فلابد من التمكن منها، ولابد من استمرار هذا التخصص في الأمة، وإنما القصد هو التنبيه إلى أنه قد حصل نوع من الغلو في الاهتمام بها؛ إلى درجة إهمال غاياتها الفقهية، ومقاصدها العلمية، مما ينبني عليها من العلم والحكمة، بل صارت صناعة الحديث عند قوم نوعا من (الموضة العلمية)، تطلب للزينة والتصدر في المجالس ليس إلا! وصارت عند قوم آخرين ضربا من استعراض المعلومات، وإعادة تخريج المخرجات، وتصحيح المصححات أو تضعيف المضعفات! مما قد حسم القول فيه من قبل وفات! حتى صار الانتساب إلى الحديث والمحدثين يستجلب لبعضهم- حاشا فضلاءهم- نوعا من الكبر والخيلاء! فتجده يصر على تحلية نفسه بألقاب المحدثين؛ على سبيل التميز والاستعلاء! ويصنع من توظيفه لمصطلح (أهل الحديث) في غير موضعه نوعا من المذهبية الجديدة، والطائفية المقيتة، يمزق بها نسيج الأمة، ويفرق شملها طرائق قددا ! هذا في وقت حاجتها فيه أشد ما تكون للمّ شتاتها، وتوحيد صفوفها! يصنع الأحمق ذلك بما يمليه عليه ذوقه وهواه؛ وهو لا يدري أنه قد انحرف عن جادة العلم الحق، وانزاح عن غايته التعبدية، ومقاصده التربوية! وإنما تلك هي حكمته الفقهية!
و(أهل الفقه في القرآن والحديث)، أو (أهل الفقه في الدين) هم أعلى طبقة في الأمة- كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيما سيأتي مفصلا- وعلى هذا الأصل وردت النصوص الكثيرة الوفيرة، منها الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تَنْبتُ كَلأَ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .
وقد علق ابن تيمية- رحمه الله- على هذا الحديث؛ مبينا أن مصطلح (أهل الحديث) إنما كان يطلق على فقهاء الإسلام، ممن كان مصدر فقهِهِم وعلمهم القرآن والحديث؛ في مقابل علماء الكلام والفلاسفة، ممن جعلوا محضن عقولهم وأهوائهم مصدرا مطلقا للمعرفة! وبذلك يكون تصنيف علماء الأمصار الكبار كأبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد، والأوزاعي، وأضرابهم- رضي الله عنهم جميعا- ضمن مفهوم (أهل الحديث) كما استعمله علماء السلف الصالح، وإنما ضيق هذا المصطلح عند بعض المتأخرين؛ لأسباب مذهبية ضيقة، بما يكاد يقصره على رواة الحديث، وأهل صناعة الجرح والتعديل، وفي أحسن الأحوال على أهل المذهب الحنبلي خاصة! قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومن المستقر في أذهان المسلمين أن ورثة الرسل، وخلفاء الأنبياء؛ هم الذين قاموا بالدين علما وعملا، ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء؛ فانبتت الكلأ والعشب الكثير! فزكت في نفسها، وزكى الناس بها، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا “ورثة الأنبياء” (…)
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ، والفهم، والفقه في الدين، والبصر، والتأويل؛ ففجرت من النصوص أنهارَ العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهما خاصا(…) فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي انبتته الأرض الطيبة، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص، فكان همها حفظها وضبطها. فوَرَدها الناسُ وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها …
واين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسا فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وتبليغ ما حفظه كما سمعه. وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.
وهكذا ورَثَتُهم من بعدهم، اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص.
(…) وبكل حال فهم أعلم الأمة بحديث الرسول، وسيرته ومقاصده وأحواله.
ونحن لا نعني (بأَهْل الحديث) المقتصرين على سماعه أو كتابته، أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته وفهمه ظاهرا أو باطنا، واتباعه باطنا وظاهرا. وكذلك (أهل القرآن) ، وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما عملوه من موجبهما. ففقهاء الحديث أخبَرُ بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم.
ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونها؛ هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه) .
فتبين أن أعلى طائفة من صلاح المسلمين وعلمائهم إنما هم (وراث النبوة)، وأن غاية ما يصبو إليه طالب العلوم الشرعية- من ذلك- هو أن يكون مشمولا بالتزكية النبوية العليا، الواقعة على (من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به؛ فَعَلِم وعلَّم) كما نص عليه الحديث المذكور، وشرحه ابن تيمية بما يكفي ويشفي. وعليه فقد وجب توجيه عموم الطلبة- حاضرا ومستقبلا- إلى طلب حكمة العلم، التي هي نتاج الصناعة الفقهية، والتي من أجلها أنزل الله الكتاب في الأمة، وعلى موازينها وردت أحكام السنة.
2- الصنف الثاني علم الفقه وأصوله:
وإنما هو علم “الفقه” . وما ذِكرُنا لمصطلح “الأصول” مقرونا به؛ إلا جريا على عادة الفقهاء في التصنيف، وإلا فلا “فقه” – على الحقيقة- بغير “أصول”. فذكر الأول متضمن للثاني ضرورة. ولذلك قال الباجي فيما سبق من وصيته: ( ثم يقرأ أصول الفقه؛ فيتفقه في الكتاب والسنة. ثم يقرأ كلام الفقهاء وما نقل من المسائل عن العلماء، ويدرب في طرق النظر، وتصحيحي الأدلة والحجج. فهذه الغاية القصوى والدرجة العليا) فقوله: (ثم يقرأ أصول الفقه؛ فيتفقه في الكتاب والسنة) دل على أن أصول الفقه- بصورته العلمية الحقيقية- هو عين التفقه في الكتاب والسنة. أي أن الفقه بمعناه المصدري، بما هو حركة ذهنية استنباطية؛ إنما هو عملية أصولية محضة! وأما الفقه بمعناه الاسمي أي: بما هو أحكام شرعية مستنبطة؛ فذلك نتيجة الفقه بمعناه الأول. والأول هو “الفقه” على الحقيقة. وهو لا ينفك عن أصوله، إلا في مناهج المدرسين والمعلمين لقضاياه، لا في نفس الأمر.
وأما ما جرت العادة بتسميته – بالفقه من كتب الفروع؛ فليس بفقه على الحقيقة؛ وإنما هو “نقول فقهية”. والعالم بها وحدها فقط ليس ب”فقيه”، وإنما هو “ناقل للفقه”. وإنما الفقيه: ” من يفقه الأحكام الشرعية عن الله ورسوله”. ولا يكون كذلك حتى يكون خبيرا بمناهج الاستنباط، قديرا على إيرادها مواردها العلمية، فهما، واستدلالا، وتنزيلا. وذلك هو أصول الفقه بصورة مطبقة. فالفقه والأصول وجهان لعملة واحدة. وإنما أفسد العلم فصلُهما؛ حتى صار من يسمون ب”الفقهاء” ممن لا دراية لهم بالأصول؛ جامدين على مقتضى المنقول من كتب المتأخرين، والمختصرات والمنظومات الميتة لا يستطيع عنها فكاكا! فاحتلت هذه في ذهنه منزلة الوحي من حيث لا يدري، وما بعد ذلك من فساد في الفهم عن الله. ومن قصد تجديد الدين بالعلم فأول العمل أمامه إنما هو تجديد مفهوم الفقه.
وأما الاشتغال بعلم الأصول معزولا عن الفقه فهو ضرب من الخوض النظري الذي يجعل صاحبه ك “علماء الكلام” يفنون أعمارهم في بحث قضايا “الإيمان” ولا يحصلون من الإيمان –على مستوى العمل- إلا قليلا. وكفى بذلك مصيبة في الدين والعلم.
وإنما الفقه القدرة المنهجية على استنباط الحكم الشرعي، بقواعده وضوابطه الاستدلالية؛ فهما وتنزيلا. وإلا فلا فقه. وهذا لا يتأتى إلا بمعالجة النصوص الشرعية من آيات الأحكام وأحاديثها، والنظر في النوازل الفقهية وأحوالها، ومعرفة مذاهب الفقهاء المجتهدين، ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وأسباب هذا وذاك. من الأدلة والفهوم ومعرفة قواعد النظر الفقهي، مما استنبطه الفقهاء عبر التاريخ.
والقصد من هذا التوجيه أن يعي الطالب أن التفقه هو الجمع بين الأمرين. وأن دراسته لعلم أصول الفقه وإتقانه له إنما يكون بالقدرة على استيعاب قواعده، ومناهجه التطبيقية في تصوراته الكلية النظرية. ولا يكون ذلك إلا بدراسة كتب آيات الأحكام (أصول الفقه المطبق). وهو شيء يجده ضمن كتب علم الخلاف العالي. ولابد له من دراسة القواعد الفقهية والأصولية التي تمكنه من تقريب النظريات الأصولية من المقتضيات الواقعية التطبيقية. وتمكنه من نظم الجزئيات الفقهية ضمن الكليات الأصولية، وكذا تفريعها عنها. ولابد من دراسة ملخصات المذاهب الفقهية، وعلم الخلاف العالي أو (الفقه المقارن) لأنه يفتح بصيرة الطالب على مختلف الفهوم والاستدلالات العلمية .
ولتعميق التكوين الفقهي يلزمه دراسة علم النوازل الفقهية للتدرب على معرفة منهجية تكييف الحكم الشرعي على حسب ظروف الزمان والمكان، ومن نقصه هذا فَقَدَ الميزان الذي به يخاطب الناس بالشريعة.
3- الصنف الثالث علم التوحيد والتزكية:
علم التوحيد والتزكية: في حقيقته هو غاية الغايات ونهاية المآلات في الدين، وإغفاله أو إهماله مهلكة كبرى في العلم والعمل.
غير أنه لابد من التنبيه إلى الإشكال المنهجي في هذا الأمر التربوي وهو مشكلة “المفهوم”، أعني مفهوم “التوحيد”؛ بما هو تزكية للنفس لا بما هو مقولات كلامية وحسب. إذ إن “التوحيد” و”التزكية” هما وجهان لعملة واحدة. وعدم فهم ذلك أدى ببعض الناس إلى كثير من الخلل في التعامل مع مفاهيم العقيدة الإسلامية. وقد غلب على الكتب التي درست التوحيد اعتماد المنهج الكلامي الجدلي فنتج عنه غياب المقاصد التربوية (تزكية النفس). لتتولاه كتب أخرى وفنون أخرى وصفت أحيانا بكتب الرقاق، وأخرى بكتب الزهد، أو كتب السلوك أو كتب التصوف.
ولم تكن التزكية غير التربية على التوحيد بمعناه القرآني الشامل ، وقد وجب أن نستعيد في تدريسنا هذا المنهج القرآني (منهج التربية والتزكية) للبلوغ بالتوحيد إلى ثمرته المرجوة، ألا وهي : الإخلاص. فعلم التزكية هو الجانب التطبيقي للتوحيد والترجمان العملي للإخلاص.
– الأصل الثالث: فقه اللسان العربي:
هذا هو مفتاح الأصول كلها، وباب العلوم جميعها. وبغيره لا يكون بدء ولا يكون وصول. وطالب العلوم الشرعية لابد أن يتقن اللسان العربي ، لا اللغة العربية فقط، وإلا بقي بعيدا عن إدراك القرآن الكريم والسنة النبوية.
فإن برامج التكوين في مجال اللسان ما تزال فاسدة في كثير من الجامعات الإسلامية والتخصصات الشرعية، فاللغة لا تؤخذ من كتب النحو والصرف، والقواعد والمعاجم والبلاغة فقط، وإنما تؤخذ أساسا من مجال التفاعل اللغوي النفسي. وليس أقعد بهذا الهدف من كتب الأدب شعره ونثره. فالقواعد تعلم الطالب اللغة، والأدب يعلمه اللسان، ولا اجتهاد في الشريعة بغير لسان. كيف وهذا القرآن قد بلغ منتهى الغايات في التعبير والبيان ؟ وهذا النبي قد أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب وإمامهم في إنتاج اللسان؟
وليس عبثا أن تواتر حض الصحابة للتابعين على تعلم أشعار العرب وحكمتهم، مما أثر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما، من التوجيهات والوصايا في هذا الشأن. وقد تطور الأدب العربي فازدهر النثر إلى جانب الشعر، وصارت المصادر النثرية المتميزة في تاريخ الأدب العربي من أهم المراجع لتكوين الطلبة في إتقان اللسان العربي لفهم لغة الوحي قرآنا وسنة، وتذوق مساقاتها التعبيرية ومقاصدها الدلالية الأصلية منها والتبعية على المستويين اللغوي والاستعمالي. فكان لزاما إتقان اللسان العربي كما هو في مصادره الأصلية والاحتكاك بكتب الأدب القديم، بما هي أقرب الى عربية القرآن ولسان الوحي.
وبعد إقامة اللسان لابد من إتقان فن الخطابة، بماهي صناعة فنية ولغوية في مخاطبة الناس وإقناعهم، تأخذ بالتعلم النظري والتطبيقي معا لا غنى لأحدهما على الآخر.
– الأصل الرابع: فقه الواقع:
مفهوم فقه الواقع قديم في سلف الأمة، أصيل أثيل. وإنما التسمية هي الجديدة، وعليه كان المعول في تحقيق مناط الأحكام الشرعية في النوازل والفتاوى الفقهية. فهو جزء لا يتجزأ من “فقه الدين”، وهو شرط صحة في الإفتاء، إذ لا تصح الفتوى إلا باعتبار معطياته، ولكن بقواعد وشروط، حددها علماء أصول الفقه، لا بالهوى السارب، أو التحكيم المطلق للعقل المجرد.
وهو ما عرفه الفقهاء قديما في سياق ما يلزم المجتهد من التفقه في حال الزمان وأهله، أو معرفة أحوال الناس وأعرافهم؛ لأن على ذلك تنبني الثمرة المنهجية للاجتهاد، ألا وهي تحقيق مناط الأحكام الشرعية. فلك إذن أن تسمي فقه الواقع بفقه تحقيق المناط. وهو من الاجتهاد الذي لا ينقطع إلى يوم القيامة على حد تعبير أبي إسحاق الشاطبي . وقد جاء -رحمه الله – بكلام نفيس في هذا الصدد: حيث بين أن من خواص العالم الرباني الحكيم الذي يربي بصغار العلم قبل كباره : ” وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية” .
ومن العلوم الضرورية التي ينبغي لطالب العلوم الشرعية أن يدرسها من أجل فقه الواقع: مادة السيرة النبوية” بفقهها ودراسة مراحلها وعلل قرراتها بما يفيد الطالب في بعد النظر إلى عصره وزمانه، وترتيب الأولويات وذلك هو معنى الحكمة وهي زبدة العلم.
ولابد من بعض العلوم الوضعية وعلى رأسها القانون ويكفي فيه دراسة مدخل عام مختصر لمعرفة مقاصده المعرفية وأقسامه الكلية، ومصطلحاته التعبيرية سواء في ذلك قسماه العام والخاص. ذلك أن القانون صار يشكل اليوم جزءا من المكونات المعرفية للثقافة السياسية المعاصرة لتحقيق مناطات الأحكام الشرعية .
ولابد من مدخل إلى علم الاقتصاد وخاصة الاقتصاد السياسي من أجل فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية .
ولابد من دراسة مجملة للتاريخ العام ثم التاريخ الإسلامي على العموم مع التركيز على تاريخ المغرب.
ولابد من دراسة الفكر الإنساني والفلسفة والمنطق.
ولابد من الإلمام بإحدى اللغات الأجنبية لتحصيل القدرة على معرفة الواقع.
وهذا يحتاج إلى جهد ونية وتخطيط وتظافر الجهود من الجميع طلابا وأساتذة وإدارة ووزارة … كل من جانبه لتخريج الطالب من الجامعة حاملا للعلوم الشرعية. والله المستعان والموفق.

– المحور الثاني المنطلق البيداغوجي:
نريد بالمنطلق البيداغوجي تلك العلاقة التي تربط الأستاذ بالطالب؛ هذه العلاقة التي نجد الكثير من ملامحها وعناصرها وخصائصها في بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
1-القرآن الكريم:
ففي القرآن من خلال سورة الكهف نقف على علاقة الخضر(المعلم) مع سيدنا موسى (المتعلم) الذي قال: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) ، هذه العلاقة كتب عنها الكثير لكن الذي نقف عليه في القصة هي النظرة البيداغوجية، هي الطريقة التي علم بها الخضر سيدنا موسى، هناك:
– رغبة سيدنا موسى في التعلم: يظهر ذلك من خلال تسرعه بالأسئلة عما لم يفهمه. فلا يمكن أن نتحدث عن تعلم في غياب الرغبة والاهتمام.
– صحبة المتعلم للمعلم: نريد بالصحبة الملازمة التي هي طريق للتعلم.
– عقد جمَع بين المعلم والمتعلم؛ قال الخضر: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) . عقد يقتضي الصمت عما يراه مخالفا للمألوف، عقد قوامه الصبر على التعلم، وطاعة المعلم فيما يأمر به المعلم.
والمثير في القصة أن الخضر علم موسى بأفعال وليس بأقوال.
وفي القرآن العديد من الآيات تتحدث عن تعليم الحق لبعض أنبيائه ورسله فيما كانوا يحتاجون إليه في أداء رسالتهم ودعوتهم .
وعامل الإيجاز والاختصار يتطلب الوقوف على بعض القواعد التي تستفاد من علاقة الأستاذ بالطالب من خلال القرآن الكريم:
– القاعد الأولى: أن التعليم يشمل الجوانب الثلاثة التي تتحدث عنها البيداغوجيات الحديثة فهو تعليم يشمل :
1- الجانب المعرفي:
2- الجانب الوجداني:
3- الجانب المهاري (المهارات العقلية واليدوية).
– القاعدة الثانية: مركزية الأستاذ في التعليم الجامعي، فالأستاذ ليس مجرد ناقل للمعرفة فقط بل هو قدوة للطالب من خلال تمثل ما يدعو إليه ويعلمه. جانب القدوة في الأستاذ غائب تماما في البيداغوجيات الحديثة. وذلك ببساطة يرجع إلى منطلقات مادية خرجت من المقاولة والمصنع تقوم على اعتبار المنفعة والربح، سواء فيما يتعلق ب(بيداغوجيا الأهداف أو بيداغوجيا الكفايات).
ولذلك جاءت آيات فيها وعيد شديد لمن يدعو أو يأمر بشيء وهو لا يأتيه. من ذلك قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) . عن زيد بن أسامة قال: سمعت رسول الله يقول: « يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى. فيطيف به أهل النار فيقولون: ما لك؟ فيقول: كنت آمر بالخير فلا آتيه وأنهى عن الشر ولا آتيه» .
– القاعدة الثالثة: لها علاقة بالتي قبلها وهي قائمة على اقتران العلم بالعمل. والمراد من ذلك مركزية القاعدة الأخلاقية في العملية التعليمة.
– القاعدة الرابعة: إن التعليم يمكن أن يكون بالقول؛ وذلك عن طريق الدروس النظرية ويمكن أن يكون عن طريق التطبيق. ولذلك أرسل الله الرسل ليعلموا بحالهم ومقالهم. لقد كان النبي معلما بأقواله وأفعاله وسيرته العطرة.
فإن إبراهيم عليه السلام سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى فلم يكن الجواب ببيان عملية الإحياء نظريا بل أحاله على طريقة عملية يرصد من خلالها بالبصر والبصيرة هذه العملية العظمى. قال الله تعالى:)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
وكذلك الشأن حينما سأل العزير كيف يحيي الله الأرض بعد مماتها فيجيبه الله تعالى بآية في نفسه؛ قال تعالى:(أوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
في هذين الموضعين تقوم عملية التعليم على النظر والملاحظة، ولذلك كرر فعل “انظر”، التي تدل على أهمية استعمال الإفهام والتبيين ذلك أن شرط الإفهام هو الإيضاح ومراعاة حال الطرف الذي يبحث عن الفهم والتبين.
– القاعدة الخامسة محورية الطالب في العملية التعليمة التعلمية: من خلال رصد وتتبع الآيات القرآنية التي ورد بها معنى (التعلم) أو (التعليم) يتضح أن (المتعلم) كيفما كان نوعه يحتل مكانة محورية في العملية التعليمية التعلمية.
– الحوار من خلال النص القرآني ضرورة من ضروريات الاستخلاف على الأرض. وهو طريق للتواصل الصحيح، وبناء التصورات الصحيحة البعيدة عن التمثلات الخاطئة. والحوار كذلك مفتاح للأخذ والعطاء، وللإفادة والاستفادة بين أنواع البشر. لكل ذلك حرم الحق جل وعلا إكراه الناس على الدين. قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) لأن التدين ينبغي أن يقوم على أساس الإقناع والاقتناع وسبيل تحقيق ذلك إنما يكون بالحوار والتواصل.
وفي علاقة الخضر بسيدنا موسى نماذج لمعلم يمتلك معرفة خاصة تربطه علاقة مؤقتة بين متعلم متلهف على معرفة ما غاب عنه. لكن الذي يهمنا في هذه العلاقة أن المتعلم (سيدنا موسى) كان سؤولا عن الوقائع التي وقعت أمام عينيه ولم يجد جوابا من عندياته. ولذلك كان يسارع في السؤال أو الاعتراض بغية المعرفة.
في سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام لربه في قضية تتعلق بالعقيدة دليل على أن الطالب يحق له أن يسأل عن كل شيء قصد الفهم وحصول الاقتناع المبني على الإقناع بالدليل والبرهان.
– 2- السنة النبوية المطهرة:
حينما نرجع إلى السنة النبوية المطهرة من خلال كتب الصحاح والسنن والمسانيد نجد تدقيقات كثيرة وإجرائية في العلاقة التي تربط الأستاذ بالطالب. لقد دققت السنة النبوية المطهرة في كل ما يتعلق بالعلم والتعلم والتعليم؛ سواء من حيث الفضيلة والمنزلة، أو من حيث الشروط المعتبرة في التعلم والتعليم. أخرج البخاري في كتاب “العلم” من صحيحه عن أبي موسى عن النبي  قال : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك كمثل من فقِه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به ) .

– اقتران العلم بالهدى: فهناك تلازم قوي في المنظومة التربوية الاسلامية بين (المعرفة) و(القيم). فأساس الهدى المعرفة المستمدة من الشرع، وقدم لفظ الهدى على لفظ العلم من باب تقديم المقصد عن الوسيلة.
– تفاوت الناس في التعلم: ذكر النبي ثلاثة أنواع من المتعلمين:
النوع الأول: متعلم تعلم وعمل بعلمه ونفع الناس به.
النوع الثاني: متعلم تعلم العلم دون أن يعمل بمقتضاه لكنه بلغ ما علمه إلى الغير فانتفع منه الناس. وهذا حال أكثر الطلبة في الجامعات بل أكثر الأساتذة يعلمون ولا يعملون وإن كان بعضهم ينفع الناس بعلمه.
النوع الثالث : حرم التعلم والتعليم والعمل. فهو نوع قد أعرض عن الهدى والعلم جملة وتفصيلا.
– مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب: يقرر هذا الحديث قاعدة من القواعد التربوية البيداغوجية التي انتهت إليها البيداغوجيات الحديثة؛ هذه القاعدة التي تقرر أن الناس متفاوتون في قدراتهم العقلية والوجدانية والمهارية. وبالتالي ينبغي مراعاة هذه الفروق أثناء التعامل مع الطلاب؛ من حيث ما يقدم لهم من معرفة أو وسائل الإيضاح والشرح أو غير ذلك من مكونات العملية التعليمية التعلمية. وقد أخرج الترمذي في كتاب السنن من أبواب العلم حديث رسول الله قال: “نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه” . ففي الحديث متعلمان: الأول حظه من العلم السماع والحفظ والنشر. والثاني: حظه من العلم بعد السماع بواسطة الأول الفهم؛ لأن له قدرات عقلية ومعرفية خاصة تمكنه من تحصيل ما لم يقدر عليه الأول.
– اقتران التعليم بالتعلم : من المبادئ الأساسية في العملية التعليمية في المنظومة التربوية الإسلامية اقتران التعليم بالتعلم، فالطالب يتعلم، ويأخذ في مرحلة ليصبح في مرحلة لاحقة معلما ناشرا لما تعلمه؛ لأن هذا النشر يساعد بقوة على أمرين : الأول نشر العلم الذي تعلمه يساعد على تثبيت المعلومات وتعزيزها وإغنائها في إطار التكوين المستمر. الثاني: نشر العلم الذي تعلمه يساعد على التمرس وإتقان التدريس والتعليم، وإنما يزكو العلم بالإنفاق.
– توظيف وسائل الإيضاح: وفي القرآن والسنة النبوية ذكر لمجموعة من الوسائل التي تستعمل في البيان والتعليم لحصول الفهم على الوجه المطلوب ومنها القصة والحوار والمثال والموعظة والتربية بالقدوة.
– مراعاة زمن التعلم والتعليم: فقد كان النبي  يراعي زمن التعليم والتعلم في تعليمه ومواعظه؛ وذلك باختصار الكلام وعدم الإطالة في الحديث، حتى لا يمل المتعلم؛ أخرج الإمام البخاري في صحيحه من كتاب العلم باب من جعل لأهل العلم أياما مخصوصة: “كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ؟ قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أخولكم بالموعظة كما كان النبي  يتخولنا بها مخافة السآمة علينا”. فالمَلَل مظنة لذهاب الاهتمام والانتباه. وقد تحدث أهل الحديث في كتب (المصطلح) عن بعض الأسباب التي توجب عدم الأخذ عن بعض العلماء بسبب كبر سنهم أو اختلاطهم أو احتراق كتبهم عندما كان يحدث من كتاب. قال ابن الصلاح في كتابه الجامع ( مقدمة ابن الصلاح) في النوع الثاني والستين: معرفة من خلط في آخر عمره من الثقات.
هذا وقد وظف النبي مجموعة من الأساليب والوسائل في التعليم منها:
-السؤال: وهو من الوسائل المحورية في العملية التعليمية، بل هو فن جميل تتطلب إجادته ذوقا وقدرة وظرفا لتوجيهه، وخبرة بعقول الطلاب واستعداداتهم وتدريبا لإتقان صياغتها، وهي دليل على مهارة الأستاذ في مهنة التدريس ووسيلة فعالة لنشاط الطلاب ومشاركتهم في الدرس وتنبيه عقولهم. والسؤال هو تحد لفكر الطالب، ومشكلة تطرح، وعليه حلها ومعالجتها، وهو ركن أساسي في طريقة الحوار، وهي الطريقة الوسطى الفعالة بين طريقة الإلقاء التي يظل فيها الطالب سلبيا مجرد متلقي وطريقة التنقيب والبحث الحر التي يلقى فيها كل العبء على الطالب.
وينقسم السؤال باعتبار مصدره إلى قسمين: الأول سؤال تعليمي مصدره المعلم، وفيه أقسام: التشخيصي والتقويمي . والسؤال في الواقع إنما يكون من جاهل للشيء لكن حالة الأستاذ مختلفة فهو يَعْلم إنما يريد أن يعرف ما إذا كان الطلاب يدركون الجواب ليستحثهم على أن يفكروا، فمن أغراض الأسئلة معرفة مقدار علم الطلاب ومواطن الغموض لديهم في الدرس وحصر فكرهم في نقطة معينة وترقية عقولهم عن طريق احتكاكها بعقله وتثبيت بعض الحقائق في عقولهم. ومهما تعددت أغراض الأسئلة يمكن حصرها بصفة مجملة في نوعين: أسئلة اختبارية يقصد بها اختبار معلومات الطلاب السابقة لاستقبال الدرس الجديد. وأسئلة تربوية تعليمية: لا يقصد بها الاختبار بل هي وسيلة يستعان بها على التفكير المنتظم والاستدلال الصحيح.
والثاني سؤال تعليمي مصدره المتعلم: الذي يسأله الطالب الغرض منه إما السؤال عن أمر يجهله كلية، أو التأكد من أمر ليس فيه لبس، كأن يسأل عن أمر له فيه أجوبة متعددة، لكنه بالضبط لا يعرف الجواب الصحيح. وقد يسأل عن أمر منهجي يقوده إلى الجواب الصحيح من خلال نظره وتدبره، وقد ورد عن النبي  في السؤال التعليمي مجموعة من الضوابط والشروط منها:
– أن يجيب عن السؤال الواحد بأجوبة متعددة مراعاة لحال المسؤول وهنا تدخل مسألة الفروق الفردية بين المتعلمين.
– أن يجيب السائل بما لم يسأل عنه لما في ذلك من الفائدة كالسؤال عن وقت قيام الساعة ، فإن السؤال إذا لم يكن يتعلق بأمر فيه نفع للمتعلم فالأولى أن يكون الجواب بما فيه نفع له حتى يصرف ضمنيا عما لا فائدة منه إلى ما فيه فائدة قال الإمام الشاطبي:
كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعا، والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يُعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به؛ ففي القرآن الكريم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . فوقع الجواب بما يتعلق به العمل؛ إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال: “لِمَ يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدرا، ثم يعود إلى حالته الأولى؟” .
فإذا كان القرآن الكريم وسنة المصطفى  قد اهتما بهذا الجانب من العلاقة بين الأستاذ والطالب وهو ما سميناه بالمنطلق البيداغوجي فإنه بات لزاما الاستفادة من «البيداغوجيا» وهي نظرية عملية في التربية ترقى لدرجة العلم كما يراها (ديوي ) ولها بعدان يضم الأول مِهَنية الفعل التربوي التعليمي بينما يضم الثاني أثر هذه المهنية على المتعلم من خلال الطرق والأساليب المتبعة في التدريس ومن خلال الوسائل والأدوات المستخدمة كدعائم للفعل التعليمي. وهي لا تشرع اقتراح منهج معين ومحدد يدرسه الطلاب ولا وقت محدد للدراسة لأن لكل طالب زمن التعلم الخاص به وتعطي للطالب الحق في المحاولة والخطأ، بل هو مدعو للاعتراض على المعرفة المقدمة له بإظهار استدلالاته التي يراها فيتعلم كيف يعبر عن ذاته ويدافع عن رؤاه واختياراته، كما أنها تمكن المتعلم من التقويم الذاتي الذي يسمح له بالتعرف على حقيقة إمكانياته الفكرية والأدائية والسلوكية والتعرف على ما تحقق لديه من الكفايات والقدرات والمهارات والمعارف وما لم يتحقق منها، وهي لا تقيم خطأ الطالب على أنه فشل بل تعتبر أن الخطأ طريق الصواب وتعتمد على التقييم الفردي وتحد من التقييم بالامتحانات العامة.
والأستاذ يجب أن ينحصر دوره في إدارة العملية التعليمية التعلمية استثارة وبناء.

المحور الثالث: المنطلق الديداكتيكي :
نريد بالمنطلق الديداكتيكي: الفكر التربوي الإسلامي الذي أنتجه علماؤنا فيما يتعلق بالعملية التعليمة التعلمية قديما وحديثا، وكذا الوثائق التربوية التي تصدرها الجهات المختصة. وكذا الأبحاث العلمية التي تنجز من قبل المختصين من خلال الكتب والمؤلفات، أو الرسائل الجامعية.
ويكون الحديث في نقطتين:
1- روافد المنطلق الديداكتيكي:
الرافد الأول: يرتبط بالفكر التربوي الإسلامي القديم؛ فنسجل الملاحظات التالية:
-كان علماؤنا سباقين منذ قرون خلت إلى البحث والتأليف في العلاقة بين الأستاذ والطالب (المعلم والمتعلم)، وما يحيط بذلك من شروط وضوابط، وما ينتج عن ذلك من نتائج والتزامات.
فقد اعتبر علماؤنا التدريس منذ قرون علما وفنا وصناعة، قبل أن تقرر هذه النتيجة منذ بضعة عقود في أوربا. بل الأدهى والأمر أن كثيرا من الذين يبحثون أو يؤلفون في مجال البيداغوجيا والديداكتيك وهم من بني جلدتنا يغضون الطرف عما ألف في تاريخنا في مجال التربية والبيداغوجيا، ويتبعون ما قرره الأوربيون من كون علم التدريس لم يظهر إلا في أواسط القرن الماضي. هذه الكتب التي ألفت من قِبل علمائنا سواء المطبوع منها أو المخطوط تحتاج إلى دراسة وبحث؛ وذلك للانطلاق منها والزيادة عليها من خلال الاستفادة من الدراسات الحديثة والوسائل الجديدة المتوفرة الآن.
-إن العلماء الذين ألفوا في مجال التربية والبيداغوجيا قديما بحثوا في هذه الميادين انطلاقا من تجربتهم وممارستهم لوظيفة التدريس بكل أبعادها ومستلزماتها وإكراهاتها؛ لذلك كانت كتبهم أقرب إلى الواقع التعليمي المعيش. فلم تكن هذه الكتب تنظيرا للعملية التعليمية التعلمية من خارج الميدان وإنما كانت من داخله.
-كثيرا من النظريات تظهر في مجال التربية والبيداغوجيا حديثا تحت مسميات حديثة؛ فإذا بحثنا ورجعنا إلى تراثنا التربوي، وجدناها بكل أبعادها وتجلياتها مع الاختلاف-طبعا- في الأسماء والمصطلحات.
-تحتاج هذه الكتب إلى تحقيق المخطوط منها ودراسة المطبوع لاستخراج النظريات المختلفة في مجال التعليم والتعلم. تبدأ بالدراسة المصطلحية ، ثم اعتماد المنهج المقارن، ثم الدراسة التاريخية لرصد تطور المصطلحات التربوية من حيث الدلالة والمفهوم.
إن ما ألف حديثا حول فكرنا التربوي دراسة وتحليلا قليل جدا لا يفي بالمقصود، ولا يحقق المأمول.
– الرافد الثاني للمنطلق الديداكتيكي الأبحاث العلمية التي تنجز من قبل المتخصصين من خلال الكتب والمؤلفات أو الرسائل الجامعية، إضافة إلى البحوث الكثيرة التي تنجز من قبل الطلبة في مختلف مؤسسات التكوين التربوي.
– الرافد الثالث: ما تنجزه الفرق التربوية، وهيئة الإشراف التربوي والأساتذة من تقارير تربوية ترصد فيها العملية التعليمية التعلمية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية يكمن أساسا في اتخاذ الأستاذ الجامعي في تخصص العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية دفاتر خاصة لتسجيل أهم ما يقع في فصله مما له علاقة بالعملية التعليمية التعلمية، وللأسف فإن الأساتذة في مختلف المواد المدرسة لا يسجلون تجربتهم في مجال التدريس، ولو كان كل أستاذ ملزما بتسجيل ملاحظاته في مرحلة، ثم في مرحلة أخرى تبادل هذه الملاحظات مع زملائه ؛ لكان الفعل التربوي فعلا علميا ؛ ولأدى ذلك بكل أستاذ أن يعرف دقائق العملية التعلمية التعلمية، بل أن يتحكم في مسارها ووجهتها وأهدافها.
والأستاذ الذي لا يسجل تجربته لا يطور أسلوب تدريسه، أو وتيرة عطائه إلا ببطء وصعوبة. ولا تكون عنده المعطيات الكاملة لتقويم جهده وعطائه. فالتسجيل يساعد على معرفة دقائق العملية التعليمية التعلمية، ويمكّن الأستاذ من إخضاع مقترحاته للرصد والتجربة، وإبعاد ما يمكن إبعاده واعتماد ما يمكن اعتماده.
-الرافد الرابع: مختلف الوثائق التربوية التي تصدرها الجهات المختصة من مذكرات، ووثائق، وتوجيهات تتعلق بتنظيم الدراسة، أو كيفية التدريس أو غير ذلك مما له علاقة بالعملية التعليمية التعلمية.
2-أهمية المنطلق الديداكتيكي: إن ديداكتيك مواد العلوم الشرعية يسهم في تنظيم مضامين كل مادة في ارتباط بالأنشطة والتطبيق، فالخطاب الديني لا ينفصل عن الواقع لأن الإسلام ينطلق من الواقع ويؤسس عليه. ثم إن طابع الإسلام المتجدد لا يتعارض مع الاستفادة من كل جديد غير معارض أو مناقض، إنها صيغة تجد صداها في مقاصد الدين، ورؤى وتوجهات مفكري الإسلام على جميع محاور اهتمامهم في علم الحديث والتفسير والأصول والفقه والفلسفة الإسلامية…
كما أن لتدريس العلوم الشرعية مطالب واحتياجات تنظيمية ومنهجية، ومن هنا احتاجت لديداكتيك خاص بها، مع العلم أن الديداكتيك هي علم متطور باستمرار وميدان يتطلب البحث التجريبي وممارسة التدريس، حيث الممارسة هي المعيار المهم لإعادة بناء المادة باستمرار.
ومن أهداف الديداكتيك:
– تمكين الأستاذ من الوقوف على المهارات التعليمية التي تساعده على تبليغ مادته بنجاح.
– جَعْلُه يقف على طرق التدريس الفعالة بهدف تحقيق مردودية نوعية وكيفية؛ تخدم جوانب شخصية الطالب العقلية والوجدانية والحس حركية مع اكسابه شخصية متصرفة ذات قدرات عالية وكفايات فعالة وممتدة ومنفتحة على الإنتاج الفكري المحلي والإنساني- الكوني مع ترسيخ مجموعة من القيم لديه.
وما زلت أذكر أننا كنا نشتكي ونحن طلبة من بعض الأساتذة -سامحهم الله- ينقصهم الجانب الديداكتيكي من حيث طريقة تقديم الدرس. كان الأستاذ لا يعرف غير الطريقة الإلقائية ، يستحوذ على الكلام من بداية الحصة إلى نهايتها، ويتحدث بسرعة، معتمدا أسلوب المحاضرة ، فكان ذلك سببا في نفور الطلبة آنذاك من حصته.
إن طريقة التدريس ضرورية وأساسية على اعتبار أنها تنقل المدرس من العشوائية والارتجالية إلى التنظيم والتخطيط. فالتدريس الناجح ليس هو نقل معلومات أو مهارات، أو قيم فقط، بل هو أكثر من ذلك فهذا النقل لا يتم بصورة جيدة دون تحديد المنهج الذي بوسطته يتم النقل. فقد تكون المحتويات جيدة، فإذا لم تدبر بطرق دقيقة ضاع لبها، ولم تحقق أهدافها .
ولذلك يجدر بالأستاذ في العملية التعليمية التعلمية الإجابة عن أربعة أسئلة: لماذا ندرس؟ ما ذا ندرس؟ كيف ندرس؟ وهل نجحنا في التدريس؟
وفيما يلي بعض ما يستفيده الأستاذ من المنطلق الديداكتيكي في التدريس الجامعي المتميز:
– يضع أهدافاً تعليمية مناسبة ويقدمها للطلبة بشكل واضح.
– يقدم للطلبة الأهداف العامة والخاصة للمادة وأساليب التقويم التي سيستخدمها، وأوقاتها وأوزانها النسبية وعددها بحيث يتمكنون من مراقبة تقدمهم في تحقيق الأهداف.
– يختار المحتوى والمهارات والخبرات التعليمية في الموضوعات التي يخطط لتدريسها بحيث تدعم النمو الشخصي والعقلي للطلبة وتحقق أهداف المهنة ذات العلاقة.
– يحدد أهداف المحتوى التي يتوقع أن يحققها الطلبة نتيجة الخبرات التعليمية التي يمرون بها.
– ينوع في أساليب تدريسه تبعا للسياق الذي تقدم فيه المادة، مثل: التعلم التعاون، التعليم العيادي، المختبر، التدريب على المهارات، التعليم عن بعد.
– يزود الطلبة بفرص لبناء خبرات تعلمهم بأنفسهم وتشجيعهم على التحكم في عملية تعلمهم.
– يطور ثقة الطلبة بأنفسهم عن طريق إعطائهم وظائف متحدية وذات صلة بالموضوع.
– يساعد الطلبة على ربط خبراتهم التعلمية معاً.
– يتبنى نمطاً تدريسياً لتحقيق أهداف التعلم الناجح للطلبة.
– يوصل للطلبة حماسه للموضوعات التي يدرسها، ويستثير حب الاستطلاع والإبداع لديهم.
– يهتم بحياة الطلبة وخبراتهم، ويربط الموضوع بأهداف الطلبة المهنية، كما يربط النظرية بالممارسة وبالقضايا المجتمعية حيثما أمكن ذلك.
– يتأكد من أن جميع المواد المطلوبة في المساق متوافرة كالكتب وأجهزة الحاسوب والمواد السمعية والبصرية وأدوات المختبر.
– يوظف الأدوات التدريسية والمواد التعلمية بشكل مناسب وفعال.
– يراجع المحتوى بانتظام ويتأمل في تدريسه مستخدما التغذية الراجعة من عدة مصادر للتأكد من مدى نجاحه في مساعدة الطلبة على تبين درجة تحقيقهم لأهدافهم ولأهداف المادة.
– يجعل تعلم الطلبة أولويته الأولى.
– يبدي اتجاهات إيجابية نحو الطلبة ويثق بهم، ويعمل باستمرار للتغلب على الصعوبات التي قد تعوق تعلمهم.
– يزرع الرغبة في الطلبة ليتعلموا مدى الحياة.
– يشجع الطلبة على التعبير الحر عن أفكارهم في إطار من التكامل والاحترام.
– يقود الطلبة بنجاح من خلال الاستكشاف والتفكير الناقد والإبداعي وحل المشكلات.
– يساعد الطلبة على معالجة الأفكار والمعلومات التي يحتاجونها لتطوير فهمهم الخاص بهم. ويشجعهم على اكتشاف ذواتهم.
– يقدم تغذية راجعة بناءة وموضوعية للطلبة بانتظام.

خلاصات وتوصيات:
لقد حاول البحث الإسهام في فكرة مفادها “ضرورة تصحيح الوضعية” التي يعيشها التدريس الجامعي؛ وهذه الوضعية هي افتقار أساتذة الجامعات إلى الإعداد التربوي القبلي، والتكوين البيداغوجي؛ والتركيز على التخصص العلمي وحده!
فقد بين البحث أن تدريس العلوم الشرعية ينطلق من الأساس المعرفي والأساس البيداغوجي والأساس الديداكتيكي ولا غنى لبعض هذه المنطلقات عن بعض في نجاح العملية التعليمية التعلمية؛ وفيما يلي بعض الخلاصات:
– المنطلق الابستيمولوجي:
– أن ينطلق الطالب من آيات الأحكام في فقه الدين؛ لأنها تتضمن الصيغ الكلية للأحكام الشرعية. وهي صيغ مكتنزة بالمقاصد الشرعية.
– أن يوجّه طالب العلوم الشرعية إلى التضلع من أحاديث الأحكام وفقهها، وما يلزم لها من قواعد وعلوم. ذلك أن أحاديث الأحكام هي المفتاح الحقيقي لكي يفقه الطالب آيات الأحكام.
– أن يضبط “منهج التقعيد” المبثوث في مصنفات علوم القرآن، الذي يعرضه أهله باعتباره ميزان الفهم عن الله.
– أن يتمكن من علوم النقد الحديثي، سواء في ذلك ما تعلق بنقد المتن أو نقد السند، والمعرفة بمراتب الجرح والتعديل وقواعدهما، ومراتب الرواية وما يثبت من ذلك وما يرد، وأحوال الأسانيد وعللها الخفية.
– وقد جب توجيه عموم الطلبة- حاضرا ومستقبلا- إلى طلب حكمة العلم، التي هي نتاج الصناعة الفقهية، والتي من أجلها أنزل الله الكتاب في الأمة، وعلى موازينها وردت أحكام السنة.
– أن يعي الطالب أن التفقه هو الجمع بين الفقه وأصوله. أما الاشتغال بعلم الأصول معزولا عن الفقه فهو ضرب من الخوض النظري .
– أن يدرك الطالب أن دراسة علم أصول الفقه وإتقانه يكون بالقدرة على استيعاب قواعده، ومناهجه التطبيقية في تصوراته الكلية النظرية! من خلال دراسة كتب آيات الأحكام (أصول الفقه المطبق).
– وجب أن نستعيد في تدريسنا المنهج القرآني (منهج التربية والتزكية) للبلوغ بالتوحيد إلى ثمرته المرجوة، ألا وهي: الإخلاص، فعلم التزكية هو الجانب التطبيقي للتوحيد والترجمان العملي للإخلاص.
– يلزم طالب العلوم الشرعية إتقان اللسان العربي كما هو في مصادره الأصلية والاحتكاك بكتب الأدب القديم، بما هي أقرب الى عربية القران ولسان الوحي.
– لفقه الواقع يحتاج الطالب لدراسة مادة السيرة النبوية، و بعض العلوم الوضعية وعلى رأسها القانون باعتباره جزءا من المكونات المعرفية للثقافة السياسية المعاصرة وعلم الاقتصاد السياسي ودراسة مجملة للتاريخ والفكر الإنساني والتسلح بلغة أجنبية.
في المنطلق البيداغوجي:
– التعليم يشمل الجوانب الثلاثة التي تتحدث عنها البيداغوجيات الحديثة فهو تعليم يشمل: الجانب المعرفيو الجانب الوجداني والجانب المهاري (المهارات العقلية واليدوية).
– مركزية الأستاذ في التعليم الجامعي، فالأستاذ ليس مجرد ناقل للمعرفة فقط بل هو قدوة للطالب.
– محورية الطالب في العملية التعليمة التعلمية.
– اقتران العلم بالهدى.
– تفاوت الناس في التعلم.
– مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب.
– اقتران التعليم بالتعلم .
– توظيف وسائل الإيضاح.
– مراعاة زمن التعلم والتعليم.
– السؤال: وهو من الوسائل المحورية في العملية التعليمية.
– روافد المنطلق الديداكتيكي:
الرافد الأول: يرتبط بالفكر التربوي الإسلامي القديم.
الرافد الثاني للمنطلق الديداكتيكي الأبحاث العلمية التي تنجز من قبل المتخصصين.
– الرافد الثالث: ما تنجزه الفرق التربوية، وهيئة الإشراف التربوي والأساتذة من تقارير تربوية ترصد فيها العملية التعليمية التعلمية.
-الرافد الرابع: مختلف الوثائق التربوية التي تصدرها الجهات المختصة.
– ديداكتيك مواد العلوم الشرعية يسهم في تنظيم مضامين كل مادة في ارتباط بالأنشطة والتطبيق.
– الديداكتيك هي علم متطور باستمرار وميدان يتطلب البحث التجريبي وممارسة التدريس.
توصيات:
– التخصص العلمي وحده غير مؤهل للتدريس.
– افتقار أساتذة الجامعات إلى الإعداد التربوي القبلي. ويقترح في هذا الشأن قيام وزارة التعليم العالي بإنشاء مركز تربوي متخصص في تدريب أساتذة الجامعات على طرق التعليم الجامعي الحديثة، وأن يستقطب له خبراء من الدول المتقدمة في هذا المجال.
– لابد من معرفة طرق التدريس الحديثة المبنية على فلسفة أن الطالب الجامعي هو الذي ينبغي أن يبحث بنفسه عن المعلومات المتعلقة بالمقرر، مما يدفعه للبحث عنها في مصادرها.
– التدريس الجامعي المتميز هو العملية التي تثير دافعية الطلبة للتعلم بطرق تحدث تأثيراً جوهرياً ودائماً وإيجابياً على الطريقة التي يفكرون ويتصرفون ويشعرون بها.
– جعل الطالب محور العملية التدريسية، ويصبح دور الأستاذ الجامعي : التوجيه والتحفيز والتقييم، ويتحول الطالب من خلال هذه الطريقة من الاتكالية إلى الاعتماد على النفس، ومن النفور من البحث العلمي إلى الشغف به.
– تطوير طرق التدريس في الجامعة بما يتناسب مع فلسفة اعتبار الطالب الجامعي محور عملية التدريس، وليس متلقيا لها، ولذا ينبغي إنشاء مركز لتطوير التعليم الجامعي في كل جامعة.
– إعادة النظر من قبل وزارة التعليم العالي، في الحرية التي تمنح حصانة لمن يستحق ومن لا يستحق، ووضع معايير وشروط حديثة لتقويم الأساتذة لتمنح الحرية الأكاديمية بموجبها للأساتذة الجديرين بها، ممن يتم تقويم أدائهم لفترة كافية في التدريس والبحث العلمي والتوجيه والإرشاد وخدمة المجتمع.
– واقع تدريس العلوم الشرعية في الجامعة لا يزال بحاجة إلى المزيد من الدراسات والبحوث التقويمية للوقوف على آليات تطوره واستجاباته للظروف المستجدة .
والحمد لله رب العالمين
20رجب1438ه/18أبريل 2017م
بتاونات

لائحة المصادر والمراجع
– القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
– أحمد بن حنبل مسند الإمام أحمد بن حنبل ؛ تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخرون : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثانية 1420هـ ، 1999م.
– الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261هـ) ، المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1375هـ/1955م.
– صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، 1390ه، بيروت.
– البخاري: صحيح البخاري، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير اليمامة ط 3- 1407ه، بيروت.
– مسلم: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– ابن تيمية :مجموع فتاوى ابن تيمية، مكتبة ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن العاصمي.
– أبو إسحاق الشاطبي (ت 790هـ)الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق محمد عبد القادر الفاضلي، المكتبة العصرية، بيروت، 2003.
– جابر بن عبد الحميد وآخرون: مهارات التدريس دار النهضة العربية القاهرة 1982.
– الفيروزبادي: القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة ط 1993/3 و ط. دار العلم بيروت لبنان.
– د. فريد الأنصاري رحمه الله : مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية، منشورات رسالة القرآن ط1سنة 2006 م.
– د. فريد النصاري :أبجديات البحث في العلوم الشرعية ، منشورات الفرقان- ط 1 أبريل 1997. مطبعة النجاح الدار البيضاء.
– محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي : مختار الصحاح ،مكتبة لبنان ناشرون – بيروت الطبعة طبعة جديدة ، 1415 – 1995.
– د. محمد الدريج : التدريس الهادف مطبعة النجاح الجديدة ، البيضاء 1994.
– عبد السلام عبد الله الجقندي: دليل المعلم العصري في التربية وطرق التدريس/، دار قنيبة دمشق ط1: 1428/2008
– ابن القيم : مدارج السالكين بين إياك نعبد و إياك نستعين، تحقيق محمد حامد الفقي، توزيع دار الرشاد الحديثة- الدار البيضاء- المغرب.
– سلسلة التكوين العدد6. 1999/1420. التعلم والأساليب والمعرفة.
– – سنن ابن باجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.
– – سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
– – سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وغيره، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– – سنن الدارقطني، تحقيق السيد عبد الله هاشم، دار المعرفة، 1386ه.
– – سنن الدارمي، تحقيق فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، ط1- 1407ه، بيروت.
– – سنن النسائي الصغرى- المسمات “المجتبى”- تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب.
– الدكتور سعيد حليم: المرجع في كيفية التدريس ، الطبعة الأولى: 2009.
– الدكتور سعيد حليم: علاقة المتعلم بالأستاذ في ظل المستجدات التربوية، ط2: سنة 2009.مطبعة أنفو- برانت فاس الليدو.
– الميثاق الوطني للتربية والتكوين “اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين يناير 2000.
– الفيروزبادي: القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة ط 1993/3 و ط. دار العلم بيروت لبنان.
– عبد الرحمن بن خلدون- المقدمة: تحقيق محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة القاهرة .

الكلمات المفتاحية: المنطلق الابستمولوجي – المنطلق البيداغوجي – المنطلق الديداكتيكي – التدريس الجامعي.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد