محمد العناز/ لجنة التواصل في مختبر التأويليات والدارسات النصية واللسانية / كلية الآداب تطواننظم مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية مؤخرا ومركز دراسات الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والترجمة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان/ جامعة عبد المالك السعدي/ المغرب مؤتمره الدولي الأول في موضوع: “في الحاجة إلى التأويل” بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين المتخصصين في عدد من الجامعات العربية والمغربية.
وقد شهد اليوم الأول جلسة افتتاحية أدارها رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها د. محمد عبد الواحد العسري الذي أكد على أهمية الموضوع وانفتاحه على حقول متعددة فلسفية ولغوية وأدبية، ونوه بالغنى الذي يميز المداخلات وإحاطتها بأكثر أسئلة التأويل حيوية وراهنية. ثم تلتها كلمة عميد الكلية التي ألقاها بالنيابة د. مصطفى الغاشي مدير مركز دراسات الدكتوراه فأثنى فيها على المجهود الذي بذله أعضاء مختبر التأويليات ونجاحهم في استقطاب نخبة رصينة من الكفاءات الأكاديمية المتخصصة. كما أشاد بأهمية إصدار أعمال المؤتمر تزامنا مع موعد انعقاده. وقد ختمت هذه الجلسة بكلمة د. محمد الحيرش منسق مختبر التأويليات التي أشار فيها إلى المسوغات العلمية التي دفعت المختبر إلى اختيار موضوع “في الحاجة إلى التأويل” مجالا للمدارسة والبحث، مؤكدا أن الحاجة إلى التأويل هي أساسا حاجة إلى الفكر والإبداع، وحاجة إلى مواصلة تجديد الأسئلة الفكرية المتصلة بلغاتنا وذواتنا وتراثنا.
وقد دارت الجلسة العلمية الأولى حول “التأويل في الفلسفة”، وقد نسقها د.عز الدين الشنتوف الذي أعطى الكلمة في البداية للفيلسوف والمفكر المغربي د.عبد السلام بنعبد العالي. وقبل أن يبدأ مداخلته حرص على توجيه تحية خاصة إلى القيمين على تنظيم المؤتمر لما لاحظه عليهم من دقة وعقلانية في الإعداد والتواصل، ولما لمسه فيهم من جدية طوال سنة كاملة من التحضير ذكَّرته بالأجواء العلمية للندوات الكبرى التي دأبت على تنظميها كلية آداب الرباط كندوة ابن رشد (1978)، وندوة ابن خلدون (1979)، وندوة أبي حامد الغزالي (1988)، وغيرها.
هذا وقد عالجت مداخلة د. بنعبد العالي إشكالا فلسفيا دقيقا يرتبط بعلاقة السلطة بالمعرفة على نحو ما صارت توجه مجريات الفكر الفلسفي الحديث. فقد كان الأمل يحدو ديكارت في إقامة معرفة “تجعلنا سادة على الطبيعة ممتلكين لها”، وكان أوغست كونت فيلسوف الوضعية يؤكد أن “المعرفة قوة وسلطة وتمكن”. وبذلك تتجاوز هذه العلاقة حدود الطابع الإيبستيمولوجي المؤسَّس على قيام علوم جديدة كالفيزياء الرياضية والتجريبية لتروم بناء معرفة جديدة بديلة قوامها ضبط القوانين المتحكمة في الطبيعة والإنسان. وهو ما دفع بالأستاذ بنعبد العالي إلى التأكيد أنه إذا كانت علاقة المعرفة بالسلطة ليست وليدة اليوم، فإن إشكالية المعرفة والسلطة إشكالية معاصرة. ذلك أن هذه العلاقة من منظور الإشكالية المعاصرة لا تكتفي بالقول إن للمعرفة وظيفة تمكنها من أن تغدو قوة وسلطة في يد من يمتلكها، بل إنها تذهب إلى حد القول إن في المعرفة سلطة. لهذا ليست القوة والسلطة والعنف مجرد علاقات تقع خارج المعرفة، إنها ما به يتحدد نسيج المعرفة ويتتشكل. بل إن الأمر سيتجاوز ذلك عند كوكبة من المفكرين المعاصرين الذين يستلهمون جينيالوجيا نيتشه إلى حد إرساء مفهوم القوة والعنف في قلب عملية توليد المعاني وداخل كل فعل من أفعال التأويل. فإرادة المعرفة هي إرادة قوة وتوليد لسلالم من التراتبات والمفاضلات.
وفي المداخلة الثانية حول “الهيرمينوطيقا والنظرية الاجتماعية” ركز د. عز العرب لحكيم بناني على أهمية الفهم والتأويل في صياغة خصوصية العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد بيَّن أن أهمية الهيرمينوطيقا المعاصرة تظهر في إعادة بناء العلوم الاجتماعية من الزاوية الجزئية والكيفية غير العامة والكمية، ومن خلال إعطاء الأولوية للفهم بدل التفسير، وإدماج أحكامنا المسبقة في الانتقال من المباعدة أو التغريب إلى هيرمينوطيقا التمالك. وتظهر قيمة الهيرمينوطيقا عموما في استثمار النظرية الاجتماعية الكيفية في تطوير فلسفة اجتماعية بناء على قيم ثقافية وتاريخية تراعي الخصوصية والكونية وتعود إلى التراث بالقدر الذي تنفتح على المعاصرة.
أما في المداخلة الثالثة فقدم د. رشيد بن السيد دراسة بعنوان “منهج النقد التاريخي للنص المقدس عند سبينوزا”، وبين فيها أن السجالات الدينية واللاهوتية التي عرفتها أوروبا أدت إلى جعل مذهب النص والنص وحده Sola scriptura ، الذي أعلن عنه مارتن لوثر، مفتاحا أساسا لقراءة الكتاب المقدس وتأويله. فالرهان أصبح مرتبطا أساسا بالتماسك والتجانس الداخلي والخارجي للكتابات المقدسة. وقد نتج عن تشكل هذا الوعي إزالة للحدود الفاصلة بين تأويل النصوص المقدسة وتأويل النصوص الدنيوية بشكل تدريجي، فمنهج تأويل الكتاب المقدس لا يختلف في شيء عن منهج تأويل الكتب الأخرى. إذ عملت المقاربة التاريخية للنصوص المقدسة على إخضاع الكتاب المقدس للفحص والتدقيق بالاعتماد على العادات والآراء القديمة وكل معطيات المعيش البشري؛ وبهذا فقد غدت فكرة النور الطبيعي أو العقل مستندا حيويا لتأويل النصوص المقدسة.
في اليوم نفسه انعقدت الجلسة العلمية الثانية مساء، وكان موضوعها “التأويل في اللسانيات وفلسفة اللغة”؛ وقد تكفل بتسييرها د. سعيد غردي. افتتحت هذه الجلسة بمداخلة د. محمد غاليم، وهي بعنوان “بعض مقتضيات الكفاية المعرفية في لسانيات الخطاب وتأويله”. وفيها فصل القول في أن تطور العلوم المعرفية أصبح يحتم دمج النظرية اللسانية، وضمنها لسانيات الخطاب وتأويله، في سياق نظرية صورية شاملة للمعرفة تأخذ بعين الاهتمام نتائج مختلف مكونات هذه العلوم، كعلم النفس المعرفي البشري والحيواني بفروعهما، وعلم الاجتماع وفلسفة الذهن وفلسفة اللغة وغيرها. بل إن هذا الدمج أضحى معيارا لتمييز النظريات التي تستجيب لما يسمى اليوم كفاية معرفية من غيرها من النظريات. وهي كفاية من مقتضياتها الذهاب إلى أبعد من التخصيص الوصفي للبنيات الدلالية والخطابية وتأويلها، بوضعها في إطار أعم يحدد الأسس المعرفية العميقة للتصورات التي تشكل هذه البنيات ويقوم عليها هذا التأويل.
هذا وأورد د. محمد الرحالي في المداخلة الثانية المعنونة بــ”عن التأويل” أن كثيرا ما يشكو المرء من سوء تأويل ما يكتب أو يقرأ. وعلى مر التاريخ البشري تفرقت الناس مللا ونحلا، وتجمعت في فرق وأحزاب وشيع، ونشأ عن ذلك ما نشأ. وقد أسهم في ذلك بقسط معين تعدد التأويل واختلافه، أو تضاربه وسوء إدراكه. ففي الحضارات المختلفة وضع الفلاسفة والمناطقة واللغويون والبلاغيون والمفسرون (أو المؤولون) والفقهاء وغيرهم الصناعات والقواعد الكفيلة بضبط التأويل وتقييده. وعلى الرغم من التراكم الكبير الذي أُنجز مازال الناس على ما كانوا عليه من تعدد التأويلات واختلافها. وفي هذا الخصوص أثار الباحث السؤال الآتي: كيف نشترك في الأنساق المعرفية الأحيائية الداخلية نفسها المسؤولة عن بناء المعنى والتأويل، ومع ذلك نختلف في تأويل الدخل؟ وركز الباحث في معالجة هذا المشكل على قضية التأويل اللغوي، أو التأويل المحكوم بقواعد النسق المعرفي اللغوي الداخلي المحدد بواسطة الاستعداد الوراثي-الأحيائي للبشر. وقد مكنه هذا من أن يبين أن اختلاف التأويل يرجع إلى مجموعة من الخصائص المتصلة بالطبيعة البشرية التي تبرز اللغة جزءا كبيرا منها.
أما في المداخلة الثالثة فتناول د. محمد الحيرش موضوع “تحولات اللغة وتحولات التأويل: نحو تأويلية فيلولوجية”، وقد أكد فيها أن كل حديث عن التأويل هو حديث عن مفهوم له تاريخ عريق وممتد يضرب بجذوره في أقدم الحضارات الإنسانية، ويبرز على نحو أخص في الحضارات التي استندت في بناء هويتها إلى نصوص مرجعية من طبيعة دينية أو دنيوية. لذلك اتسع فيها الاهتمام بهذه النصوص من خلال إعمال النظر في مصادرها وطبائعها، والعناية بلغاتها، وفك المستغلق من ألفاظها واستعمالاتها. فالتأويل اقترن منذ البدء باللغة، لكونها هي الوسيط الرمزي الذي أتاح للإنسان القديم أن يتواصل مع العالم المحيط به، ويتفاعل مع أبعاده المرئية والمجردة، ويستكشف عن حقيقة ظواهره الطبيعية والخارقة.
ومن هذا المنطلق قاربت الدراسة طبيعة العلاقة بين اللغة والتأويل وتتبعت تحولاتها وإبدالاتها. ففي جزئها الأول بينت كيف أن الحاجة إلى التأويل ملازمة للغة ومتأصلة فيها. وقد اقترحتْ لذلك بعضَ التحليلات المستمدة من التفاعل مع ما تتيحه التأويليات وفلسفة اللغة في هذا الخصوص. كما وقف الجزء الثاني من هذه الدراسة على عينات قديمة وحديثة من العلاقة التي ينسجها التأويل بعلوم اللغة في عدد من المواقف التأويلية وبيَّن طبيعتها ومقتضياتها. وإلى جانب هذا أولت الدراسة اهتماما بانعطاف التأويل في أزمنتنا الحديثة من الانتظام داخل الإبدال الإيبستيمولوجي إلى الانتظام داخل الإبدال الأنطولوجي، مع بيان ما ترتب على ذلك من تحولات جوهرية في موقع النظر إلى اللغة وأسلوب تناولها. أما الجزء الثالث والأخير منها فرجع إلى بعض المساعي التي تروم التقريب بين مهمة التأويل ومهمة الفيلولوجيا، وتدافع عن الحاجة إلى تطوير تأويلية فيلولوجية (نصية) تأخذ بعين الاهتمام أصالة النصوص وفرادتها.
وشهدت فعاليات اليوم الثاني من المؤتمر ثلاث جلسات، اثنتان منها انتظمتا معا في محور “التأويل في الأدب”، وقد نسق الجلسة الأولى د. محمد غاليم. ففي مداخلة د عبد الرحيم جيران الموسومة بــ “من التأويل إلى التآول”، اقترح تصورا انتقل بموجبه من مفهوم التأويل إلى مفهوم التآول. وقد مهد له بمقدمة تطرقت إلى مفهوم التأويل وردته إلى توجهين: أحدهما شعري أسطوري، والثاني عقلاني. ثم بسط تصوره التآولي من خلال الكشف عن الآليات التي يشتغل بها، واختبارها في مجموعة من النصوص للاستدلال على كفايتها وفاعليتها. وقد أنهى د. عبد الرحيم جيران مداخلته بمناقشة أوضاع التأويل التي أرجعها إلى ثلاثة أوضاع هي: الوضع التطابقي والصراعي والتوافقي، ومثل لهذه الأوضاع بنصوص من حقلي الفلسفة والأدب مبرهنا على كيفية اشتغال التآول بموجب الأوضاع التأويلية المذكورة، وعامدا إلى استنباطها من عينات نصية مختلفة.
وعقب ذلك تدخل د. محمد بازي في موضوع “مشروع القارئ البليغ: المسارُ المسْلوكُ والأفق المنْتَظَر”، وأشار إلى أن اهتماماتِه المعرفية يحركها سؤالان كبيران: كيف نبني مُؤَوّلين بُلغاء؟ وكيف نحتمي بــ “قوانين” بلاغة التأويل لحل إشكالات الفهم والمعنى؟ ومن هذين السؤالين خلص إلى مقترحات سبق له أن عالجها في كتابه “التأويلية العربية”، وهي المتعلقة بمواصفات المؤَوِّل البليغ، وأدواته، ومهاراته. وفي كل هذا استأنس بمنجزات البلاغيين القدامى وتصورات المفسرين، وبعض منجزات النُظّار الغربيين في مجال التأويل. وأكد في هذا السياق أن علوم البلاغة لا تزال في حاجة إلى مقترحات جديدة تُفيد من العلوم المحايثة لنشأة البلاغة القديمة كأصول الفقه، وعلوم التفسير، وعلوم القرآن، وعلمي اللغة والنحو، وفي الوقت نفسه تغتني بالمقترحات البلاغية الحديثة. ثم قدم الباحث بعد ذلك عرضا للخطوط الكبرى لما يسميه “تأويلية التساند”، و”تأويلية التقابل”، و”تأويلية الطرازات المستعارة”.
أما د. نزار مسند قبيلات فقدم ورقة بعنوان “من التخيّل التاريخي إلى التأويل” حلل فيها نصا روائيا للأسير الفلسطيني باسم خندقجي. وقد استوحى في تحليله هذا مصطلح “التخيل التاريخي” (للناقد عبد الله ابراهيم) بوصفه بديلا مستجدا عن مفهوم الرواية التاريخية، ذلك أن العودة إلى المستند التاريخي وإعادة صوغه في تكوين روائي يفرض تساؤلات باتت غير معهودة. فهو يكشف عن أن الروائي لم يشأ إعادة خلق عالم خاصٍ به وحسب، بل إنه يروم التلاعب بالوقائع الثقيلة للتاريخ، في سعي منه لفرض تصور فهْمي جديد يعكس ذاتية الكاتب وتجربته. إن النّوايا لدى الكتّاب ما انفكت تضطلع بأدوار الغاية منها توسعة الرؤية والبحث في الراكن التاريخي من خلال عملية التخيل. ولهذا يتعين على المؤول إدارة قادرة على إدراك منطلقات الكاتب وخلفياته التي صدر عنها؛ فتغدو عملية فحص مدى المطابقة بين الواقعي والسردي غير مجدية، لأن التأويل يستثير إمكانات جديدة تروم تفهم المزج الحاصل بين التاريخي والسردي في بوتقة التخيل.
وضمن الجلسة نفسها تدخل د. عبد الرحمن التمارة بورقة عنوانها “التراث السردي: التأويل بالحكاية عبد الفتاح كيليطو نموذجا”. وقد تناول فيها بالتحليل ثلاث مقولات مترابطة هي: الفعالية المنهجية، والدينامية الدلالية، والإنتاجية المختلفة. ومن هذا تَظهرُ المقولة الأولى مقترنة بالتأويل بوصفه آلية منهجية لدراسة النص السردي التراثي. وكشف ثرائه الدلالي. وتَتجلّى المقولة الثانية متّصلة بتنوُّع التأويل وغنى أدواته في القراءة والتحليل، ومنها الحكاية التي تسعف في توليد دلالات متنوعة وأبعاد مختلفة للنص السردي التراثي. وتَبرزُ المقولة الثالثة مرتبطة بتجربة نقدية ساهم مؤسّسها في بناء خطاب نقدي تحكمه خلفية معرفية واستراتيجية تنظيمية وآليات منهجية مخصوصة. وقد أسهم هذا في تحقُّق تجربة نقدية مغايرة للمألوف في قراءة الأدب السردي التراثي العربي، لأنها تجربة سعت إلى ربط خطابها النقدي القائم على تأويل التراث بأزمنتنا الراهنة.
وبعد استراحة قصيرة انطلقت أشغال الجلسة العلمية الموالية (ودائما في محور التأويل في الأدب) التي نسقها د. عبد الحكيم الشندودي. وقد استهلها د. عبد الله بريمي بمداخلة تناول فيها موضوع “السميائيات الثقافية والضرورة التأويلية”، وأكد فيها أن السميائيات تشكّل جزءا لا يتجزّأ من حركة تاريخية وعلمية ممتدّة. وتتمثل مهمّتها في إظهار الآليات والخصائص التي ترتكز عليها حياتنا الثقافية وطرق عيشنا المشتركة والعمل على تفسيرها. إنها تفعل ذلك للكشف عن طبيعتنا الثقافية غير المدركة التي تُصنع بها حركات أجسادنا وإيماءاتنا ومشاعرنا والطريقة التي نرتبط بها مع الآخرين، بل حتى مع أقرب المقربين. لذلك إذا استطعنا أن نقبل فكرة يوري لوتمان وبوريس أوسبنسكي بصدد تطوير الدرس السّميائي بوصفه نسقا معرفيا شاملا، فإن هذا النّسق سيكون دون جدوى وغير مثمرٍ إنْ هو لم يُستثمر في تعزيز قدراتنا على تحليل قضايانا الثقافية واليومية التي نعيشها من خلال استيعاب أشكال التعبير والمحتوى التي تصوغ حياتنا وتمنح شكلا محققا لذواتنا.
وفي المداخلة الثانية قدم د. محمد بوعزة ورقة بعنوان “تأويل النص من الجماليات إلى السياسات”، وفيها أثار إشكالا حيويا للبحث يتأسس على أن كل تأويل هو بالضرورة تأويل ثقافي. ولما كانت الثقافة مجالا لصراع الخطابات والإيديولوجيات، فإن التأويلات تتورط صراحة أو ضمنا في لعبة السياسات بما هي مجال للتنافس حول الخيرات الرمزية والمادية. ولتوضيح هذا البعد السياسي الحيوي للتأويل اختار الباحث حقل الدراسات الثقافية أداة لمقاربة موضوعه، وذلك لعدد من المسوغات المعرفية نجمل بعضها فيما يلي:
– إن ما هو أساسي في الدراسات الثقافية هو الروابط التي تسعى إلى توضيحها بين استعمالات القوة والتمثيلات الثقافية، وما يترتب على ذلك من سياسات ثقافية تكون في معظم الأحوال تراتبية؛ أي غير عادلة تكرس التفاوتات الاجتماعية؛ وهذا يفرض ضرورة استقصاء أشكال تمثيل المجموعات المهمشة، والحاجة إلى المساهمة في التغير الثقافي.
– ارتباطا بهذا المسوغ، أعادت الدراسات الثقافية تأويل الإنتاج الثقافي من منظور الجماعات المهمشة في المجتمع، وذلك بهدف ترسيخ سياسات ثقافية عادلة.
– ترى الدراسات الثقافية أن إنتاج المعرفة النظرية هو ممارسة سياسية. فالمعرفة ليست ظاهرة محايدة، ولكنها مسألة تموضع تفرض على كل ممارسة تأويلية استحضار الموقع الذي تتكلم منه ذات المؤول، وإلى من تتوجه وإلى أية غايات ترمي.
– ترى الدراسات الثقافية، على خلاف النظرية الأدبية الشكلية أن الجماليات (الأدب والفنون) غير منفصلة عن السياسات، لأنها نتاجات ثقافية تخضع لاستخدامات القوة؛ وبالتالي تترتب عليها تحيزات إيديولوجية طبقية، وعرقية، وجندرية…
أما د. محمد مساعدي فتناول في ورقته “الحقيقة والتأويل بين التنظير العلمي والأدبي من الإبدال البنيوي إلى الإبدال التأويلي”. تطور النظريات العلمية التجريبية بما هي سيرورةُ تكيّفٍ مستمرٍ مع الطبيعة تسعى إلى فهمها وتفسيرها والسيطرة عليها. ولكي يبني العلمُ تعميماتِه ونماذجَه فإنه ينطلق من الوقائع والمعطياتِ التي خضعت للتجربةِ ليتوقعَ الاحتمالاتِ التي تخفيها الطبيعةُ. ومن هذا المنطلقِ فالنظرياتُ العلمية لا تعدو أن تكون فَهْمًا مؤقّتا للطبيعة وتفسيرا ظرفيا لها. إلا أن الإنسانَ حين يُغالي في ثقته بهذا الفهم المُؤقَّتِ والتفسيرِ النسبيِّ قد يقع في شَرَكِ رَفعِه إلى مستوى الحقيقة المطلقة، فيتوهمُ أنه أدرك الحقيقةَ وسيطر على الطبيعة ونجحَ في كشف أسرارِها الخفيةَ؛ والحال أن ما يحسبه الإنسان كَشفًا علميا في زمن ما سرعان ما يصبح متجاوزا في عصور لاحقة.
وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققته البنيوية إلا أنها لم تسلم من انتقادات أهمها ارتهانها ببصيرة منطقية جعلتها سجينة تصورات وضعية ظلت تحجب على الدوام ذلك العماء الأنطولوجي الملازم للأدب، بما في ذلك الأنساق الخفية التي تسكن أعماق النصوص الأدبية ولا تستطيع آليات العلم والمنطق سبر أغوارها. لهذا لم تعد الحقيقة التي تبحث عنها هذه التصورات مجرّد ظواهر أو وقائع يمكن التحكّم فيها علميا، بل أصبحت ماهيات أنطولوجية تُفْصِحُ عن وجودها من خلال الأدب والفنّ عامة، وإمكانات نصّية قابلة للتحقّق بهذه الطريقة أو تلك بحسب القدرات المعرفية للقارئ وخبرته الجمالية ومهاراته التأويلية.
في الجلسة العلمية الأخيرة كان موعد الحضور النوعي والكثيف الذي تابع أشغال المؤتمر مع دراسات قاربت موضوع “التأويل في النص الديني والنص التاريخي”. وقد سير هذه الجلسة د. يحيى بن الوليد، واستهلها د. مولاي أحمد صابر بمداخلة في موضوع “التأويل: قراءة جديدة في التداول اللغوي للمفردة بين الشعر والقرآن”. وفيها ناقش الفكرة الشائعة التي تقول بنوع من “التطابق” اللغوي بين مفردات لغة القرآن ومفردات لغة الشعر، وهذا “التطابق” ناجم عن خلط منهجي بين العائد المعرفي للمفردة القرآنية وبين الحمولات الثقافية لمفردات اللغة المتداولة بين الناس شعراء وغيرهم. وقد اقترح الباحث ضرورة إعادة النظر المنهجي في طبيعة استعمال القرآن لمفردات اللغة، لأن السبيل اليوم إلى تجديد فهم القرآن الكريم وتأويله هو الاهتداء إلى تأويلات تناسب مقتضيات الزمان الذي نعيش فيه ونحياه، والخروج من الفهم التجزيئي لآياته وسوره، وبناء فهم كلي لقضاياه ومضامينه. فالأجزاء لا يتأتى فهمها والإحاطة بها إلا من خلال الكليات الكبرى التي تشملها؛ فالكليات تحدد الغاية والقصد من الجزء، وفصل الجزء عن الكل في الفهم قد يعزله عن هذه الغاية وذلك القصد.
أما د. عبد الرحيم الحسناوي فقدم ورقة عالجت موضوع “النص التاريخي: دلالات التفسير والتأويل”، واتجه فيها إلى إثارة جملة من القضايا المتّصلة بتفسير الوثائق التاريخية وتأويلها، وذلك في ارتباط وثيق بالتطور والتجديد المستمرين اللذين عرفتهما المعرفة التاريخية في بداية القرن العشرين حينما أصبح التاريخ علما اجتماعيا قائما بذاته. واللافت للانتباه هنا هو أن المناظرة حول علمية التاريخ لا تزال مستمرة، فالمؤرخ لم يتوقف إلى حدود اليوم عن المشاركة في السجال الذي يتوخى انتزاع شرعية علمية واضحة للدراسات التاريخية. إضافة إلى هذا أسند الباحث إلى الوثيقة التاريخية أهمية حيوية لكونها تمثل للمعرفة التاريخية مسوغا لقيامها، إذ لا تاريخ من دون وثيقة كما يقال…
وكان د.أحمد مونة آخر متدخل، فقد تناول في مداخلته المعنونة بــ “مقتضيات النفي في الاستدلال الاستصحابي في النظر الأصولي” الطبيعة الحجاجية لعلاقة النفي في الاستدلال الاستصحابي لدى علماء المنهجية الأصولية؛ وذلك من خلال تعقب حد الاستصحاب وبيان مقوماته، والكشف عن وجوهه الاستدلالية ذات الصبغة التناظرية. كما تعقبت المداخلة جملة الدعاوى التي يوردها أصحاب الرأي القائل بعدم حاجة النافي في سياق الاستدلال الاستصحابي إلى الدليل على نفيه، ويراكم في أثناء مناقشته لهذه الدعاوى والرد عليها عديدا من الحجج التي تؤكد أن هذا الضرب من الاستدلال الأصولي ظاهر الانتماء إلى مجال الاستدلال الحجاجي التناظري الذي ينتظم فيه النفي بوصفه آلية ضرورية في النظر إلى الأدلة، ومعايرة قيمتها الحجاجية.
هذا وقد أنهى المؤتمر أشغاله بجلسة ختامية نسقها د. محمد الحيرش، وتناول فيها الكلمة عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان د. محمد سعد الزموري الذي نوه فيها بنجاح هذا المؤتمر وبرصانة المداخلات العملية التي تعاقبت على جلساته. كما أثنى على تمكن اللجنة التنظيمية من إصدار أعمال المؤتمر كاملة بالتزامن مع أيام انعقاده. ثم تلتها كلمة ممثل الضيوف التي ألقاها د. نزار مسند قبيلات من الجامعة الأردنية، وشكر فيها كلية الآداب والعلوم الإنسانية على حفاوة الاستقبال، وكرم الضيافة، وأشاد فيها بمختبر التأويليات والدراسات النصية على حسن التنظيم، وإيجابية الأجواء العلمية التي أتاحها لجميع المشاركين في أشغال المؤتمر. وانتهت فعاليات هذا المؤتمر بكلمة ختامية لممثل مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية ألقاها د. عزيز بوستا وشكر فيها كافة المتدخلين في دعم هذا المؤتمر وعلى رأسهم عمادة الكلية ورئاسة جامعة عبد المالك السعدي، كما شكر كافة الضيوف والمشاركين في النقاش النوعي الذي واكب الجلسات العلمية للمؤتمر، ثم أعلن في ختام كلمته عن موضوع المؤتمر القادم الذي ستدور أشغاله حول: “التأويليات وعلوم النص”، وسينظم بشراكة مع “مؤسسة مؤمنون بلا حدود”.
صور للفعالية:
اترك رد