أسلوب في المقابلة – إبراهيم بلوح – المغرب

ملخص

إن أسلوب الحوار أو “المقابلة” الذي اعتمده بورديو (P. Bourdieu) في كتابه “بؤس العالم” يمثل ثورة حقيقية بالمقارنة مع ما تناوله في الثمانينات في كتابه “حرفة عالم الاجتماع” de sociologue le métier أو بالنظر إلى الممارسة السوسيولوجية التقليدية عموما، والتي تضع في المقام الأول أفكار الباحث المبدئية التي لا يصح تماما استبدالها بالأفكار الأولية التي يحملها الناس المتصفة بالعفوية والمنتجة لسوسيولوجيا عفوية. فما دامت العلوم الإنسانية تتعامل مع موضوع “يتكلم” فإن قدرها أن تصيخ السمع لهذا الموضوع طالما أنه يتكلم ويبوح بما ينتج ويعيد إنتاج بؤسه الاجتماعي. وهو ما دفع ببورديو إلى أن يثور على قواعد المنهج العتيقة المتداولة والشائعة في السوسيولوجيا وتحديدا إشكالية الحياد الموضوعي وشكل المقابلة المعتمدة. إنه أراد أن يجعل تلك المناهج الأكاديمية “الأنيقة” في خدمة المضطهدين وعوام الناس. ولذلك تلمسه في منجزه مناضلا يدافع عن سوسيولوجيا قابلة للفهم من خلال جمهور عريض من المجتمع.

الكلمات المفاتيح: المقابلة، الإنعكاسية، العنف الرمزي، اللاتساوق الاجتماعي، سوق الخيرات الرمزية واللغوية، التواصل غير العنيف.

-١-

في كتابه ” بؤس العالم “la misère du monde عن منشورات ” لوسوي “le Seuil بباريس، وهو كتاب ضخم ومرجع سوسيولوجي أثير لا غنى عنه في حقل السوسيولوجيا، والذي يثير إشكالية البؤس والتهميش اللذان يعاني منهما سكان الأحياء الهامشية في المدن الفرنسية الكبيرة خلال فترة تسعينيات القرن المنصرم، إذ فاق توزيعه المائة ألف نسخة بفرنسا فقط، وترجم للعديد من اللغات، الأمر الذي يعبر على أن منجزا بهذا الصيت لم يكن فقط ضمن اهتمامات الباحثين والأكاديميين السوسيولوجيين بل وعموم القراء الذين وجدوا فيه متنا يتضمن حكايات فردية ومصائر فردية تعبر عن واقع كائنات بائسة، عمد بيير بورديو Pierre Bourdieu عالم الاجتماع الفرنسي وباحثون آخرون، ما ينيف عن عشرين باحثا اجتماعيا، في أحد أهم فصول الكتاب إلى اعتماد أسلوب الحوار والتحقيق مع مختلف الشرائح الاجتماعية الفرنسية حتى يتمكن من تحديد مظاهر العسر التي يعاني منها المجتمع في فرنسا بمختلف مكوناته البشرية. ولم يستثن بورديو المهاجرين الأجانب، فقد حاورهم أيضا وكشف هموم المضطهدين والمغتربين، وما ينتج حقيقة اغترابهم وسبب بؤسهم حتى يتم تحريرهم من سيطرة هذا الاغتراب والبؤس الاجتماعيين. إنها سلسلة حوارات منهجية وعلمية جعلها الباحث في خدمة أناس أنهكتهم المشاكل اليومية المعاشة، يفصحون ويبوحون بما يجدونه من صعوبات ومشاكل بنمط الجوار والسكن والأسرة والمؤسسة التعليمية والجامعة ومجال الشغل عموما.

ولعل أسلوب الحوار أو المقابلة كتقنية ميدانية تظل إحدى المقاربات المعتمدة لدى عالم الاجتماع حتى يستطيع فهم الجماعات الإنسانية في صيغ انوجادها وتشكلاتها وكذا صيغ ارتباط الفرد بها. فالحوار والمساءلة يظلان المورد الأساس الذي يعطي للسوسيولوجيا المعنى والمبنى المعرفي .فإلى أي حد استطاع بيير بورديو من خلال منجزه إصاخة السمع والتقاط تفاصيل التفاصيل عبر أسلوب الحوار؟ وقبل ذلك ما هي شروط الحوار وأدواته؟ وكيف يرى العلاقة بينه وبين المستجوَب؟ وهل باستطاعته القطع مع أسئلة الحس المشترك ومع الخيميائي الذي يسكنه؟ وهل عليه بالفعل القيام بذلك، أي الانصهار الوجداني مع المستجوَب؟ أم يفترض فيه اعتماد ذلك الحياد الذي طالما اشترطته السوسيولوجيا التقليدية؟ وما المعايير والمبادئ التي تستند عليه المقابلة والحوار السوسيولوجيان؟ ألا يحمل الحوار في حد ذاته عنفا رمزيا تجاه المستجوَب خصوصا وأن كل سؤال ينبش في الذاكرة الخاصة لهذا الأخير؟ إنها أسئلة تبرر بمقدار معين تسليط الضوء على أسلوب الحوار الذي اعتمده بورديو في منجزه “بؤس العالم” ومدى قدرته على استجلاء وفهم الواقع الذي يحيا ضمنه المستقصَى عنه.

-٢-

إن السوسيولوجيا تتأسس علميا وموضوعيا على الاجتماعي le social. هذا الأساس الذي ترتكز عليه في حركة ذهاب وإياب بين عدة نظرية ومعطيات ميدانية، حيث أنها لا تفصل بينهما. فكلاهما يكمل الآخر. والحال أن العدة النظرية بدون ميدان تعتمل فيه الوقائع والظواهر الاجتماعية عمياء، كما أن الواقع بدون عدة نظرية يصير أجوفا. لذلك فالسوسيولوجيا ممارسة ميدانية بامتياز. إنها تقتضي عملية الهدم والبناء مع المحافظة على الصرامة والدقة العلميتين وخصوصية الواقع.

غير أن السوسيولوجيا لا تدعي لنفسها الفهم الدوغمائي الوثوقي doxa والنهائي للتجربة الحقلية، وبالتالي فهي قادرة على طرح بديل للمشاكل والأعطاب المجتمعية، بقدر ما تضع نفسها على عتبة الفهم. إنها تعتبر نفسها خطوة أولى على طريق الفهم والتفسير. تحاول مقاربة الفعل الاجتماعي واكتشاف الثابت والمتحول داخل المجتمع عبر استدماج واستلهام فهم خاص للممارسة السوسيولوجية praxis. إلا أن بلوغ هذا المرمى يقتضي خارطة طريق، بلغة السياسيين، أو منهجا في الحوار والمساءلة والاستقصاء يتتبعه عالم الاجتماع حتى يتمكن من ملامسة المعنى واستقرائه دون السقوط في الذاتية والرضوخ للإجابات الجاهزة.

لقد قضى بيير بورديو عقودا عديدة في إجراء حوارات واستقصاءات سوسيولوجية[1]، منهجسا بمعرفة تفجير السؤال النقدي لفهم وتعرية الظاهرة الاجتماعية. إنها معرفة لا تعيد وصف صورة الواقع المعاش تماما كما تفعل وتتناقل الصحف، ولكنها تعيد تركيب هذه الأخيرة وتعمل على تفكيكها حتى يتأتى له الكشف حقيقة عما يجب فهمه قبلا لنقده وتغييره في ما بعد. وهنا تتفتق عبقرية بورديو في تعامله مع مختلف تلك المقابلات والأحاديث، إذ عرضها بشكل منهجي في كتابه وبطريقة ” يكون فيها الناس المنتمون إلى فئات يمكن التقريب بينها أو مواجهة بعضهم ببعض في المجال الفيزيائي ( كحراس المساكن الشعبية والسكان من بالغين ومراهقين، عمالا حرفيين وتجارا يسكنون هذا النوع من المساكن)”[2] كل ذلك من أجل تمكين مختلف الشرائح الاجتماعية الفرنسية والمهاجرة أيضا من فهم ما ينتج حقيقة بؤس وجودهم من خلال شتى ” الأوجاع التي نشأت عن تصادم المنافع والاستعدادات، وأساليب الحياة المختلفة التي يساعد عليها تعايش أناس يختلفون في كل شيء، في أماكن السكن والعمل خاصة”. [3]

إنه يشرح ويفكك النسق العام بعيدا عن التشبت بالكتب التقليدية أو الارتكان لما تراه المعرفة الأكاديمية، إذ يقول ” إنني لا أعتقد بأنه يمكن للمرء أن يعتمد على الكتابات العديدة التي توصف بالمنهجية والمتعلقة بتقنيات الاستقصاء “[4] وبعيدا أيضا عن كل الوصفات الجاهزة والمقاربات المطمئنة. لقد ولدت لديه هذه العقود خلاصة مفادها أن الممارسة السوسيولوجية يجب أن تكون على أعلى مستوى من الحذر والاحتياط من مغبة الوقوع في المعرفة المعَدة والمطبوخة سلفا أو الانصهار العاطفي والشعوري بين مجرِي الحوار والمجرَى معه. خصوصا وأن الباحث يثقل كاهله العبء الرمزي الذي يمارسه عليه التاريخ، فهو ينتج تاريخه ببحثه المضني عن الهوية والانتماء، وهو بذلك لا محالة ساقط في لعبة التاريخ والتأريخ.

إن الباحث الذي يمثله بيير بورديو هو ذلك الذي يعمل على تقويم الفكر والمعرفة بأسئلة الواقع المعيش. إنها معرفة أخرى مقابل المعرفة الأكاديمية المزهوة دائما بنفسها. معرفة لا تنكتب في فضاء الفكر الأكاديمي المتعالي والمغلق بل في ذلك الفضاء الخارجي الذي يعكس مختلف أشكال الفقر والغبن والاستضعاف والاستبعاد والبؤس الاجتماعي.

ومن نافل القول التذكير بأن ثمة علاقة تقوم أثناء الاستجواب بين الباحث الاجتماعي والمستجوَب. هذه العلاقة التي لا يمكن توقع مجراها ولا نتائجها. فهي تمثل حقل تأثير وتأثر بين سوسيولوجي ليس بالضرورة مصلحا اجتماعيا ولا ينفعل وجدانيا مع ظاهرة العسر والعطب الاجتماعي، يدرس الحقل بحذر إبستمولوجي كبير وبحياد وبرود كبيرين، وبين مستجوَب يعيش الأزمة وتتعالى زفراته وسخطه. أتراه قادرا على التعبير عما يعتمل داخله؟ وهل باستطاعته الكشف عن ذلك والتعبير عنه بشكل يمكن المحقِق من فهم وتحليل ظاهرة العُسر؟ أم سيفضل الصمت لأن هناك أسبابا خفية قد تمنعه من قبيل الخصوصية أو الخوف من الآخر أو فوبيا تعرية الذات إلى غير تلك من الأسباب المعقدة والمتعددة بتعدد المستجوَبين؟

كل هذه الالتواءات والعوائق المنهجية والميدانية المعقدة دفعت ببورديو إلى إقامة مقاربة معرفية علمية لا علموية، مادتها احتياطات منهجية وعلمية، وعدتها البراديغم السوسيولوجي الصارم le paradigme sociologique. هذا الأخير الذي يعبد الطريق الملكي نحو الفهم. إن مهمة المحاوِر- الباحث الاجتماعي- مهمة نضالية لا تقتنع بحوارات تتسم بلهو “باسكالي” ولا تقف عند حدود الجاهز واليقيني .وتجدر الإشارة إلى أن أول قاعدة اشترط بيير يورديو أن تتوفر لدى الباحث الاجتماعي القائم بالمحاورة أو التحقيق تتمثل فيما أسماه بالانعكاسية،Réflexivité والتي تقضي بأن يمارس قواعد حرفته ومبادئها القيمية على عمله نفسه. وشدد على ضرورة تحليله لعمله وخطابه ونشاطه تحليلا انعكاسيا ” ذاتيا “. وبعبارة أخرى عليه أن يستعمل حواراته وتحقيقاته وما توصل إليه ليغربل دوره وليكشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي وتطبعه، والتي قد تؤثر على ممارسته العلمية وتشوش رؤيته للأسباب الحقيقية والوجيهة التي تنتج بؤس المجتمع. وفي هذا الصدد يتساءل بورديو قائلا: ” كيف يدعي المرء بأنه يقوم بالتعرف على المسلمات دون أن يعمل على التعرف على مسلماته الخاصة؟ وخاصة دون أن يبذل جهدا كي يستخدم مكتسبات علم الاجتماع بشكل انعكاسي من أجل التحكم في تأثيرات الاستقصاء ذاته ولينهمك في المقابلة متحكما بتأثيرات الاستجواب التي لا يمكن تجنبها”[5]

ولذلك أصبح مفهوم الانعكاسية في نظر بورديو شرطا أساسيا لكل عمل نزيه وموضوعي في مجال العلوم الاجتماعية. والحال أن هذا الشرط من شأنه أن يخلق لدى الباحث السوسيولوجي نوعا من ردة الفعل الدائمة والحاضرة المؤسسة على تمرس مهني وعلى عين سوسيولوجية ثالثة تكشف ما هو مخفي وليس ما هو ماثل أمامه تماما حسب مبادئ جاستون باشلار Gaston Bacheler. إنها تتيح له إمكانية السيطرة على مجريات الحوار وعلى البنية الاجتماعية التي ينشدها الباحث ويتحقق في حقلها الحوار المرغوب فيه والمفضي إلى تحليل اجتماعي عميق لدلالات الإجابات. فكيف باستطاعة الباحث السوسيولوجي إذن تطبيق باراديغمه الصارم على عمله نفسه؟ وما السبيل إلى بناء حوار بعيد عن كل المؤثرات التي تحول دون الفهم الكامل للعطب ومظاهر العُسر؟

كما أسلفنا الذكر تنشأ ثمة علاقة بين المستجوِب والمستجوَب. هذه الأخيرة التي تطرح أكثر من علامة استفهام، إذ تترك لا محالة آثارا على المستجوَب وعلى رؤيته الشخصية للحوار في عموميته، جدواه وضرورته. خصوصا وأن الحوار أو التحقيق المراد إنجازه لكشف مكامن العطب والعُسر اللذين يعاني منهما غالبا ما يعتبره تسللا إلى عالمه الشخصي. إذ أن الباحث الذي يعمل على مد جسر التحقيق والحوار متخذا في ذلك البناء قواعده الخاصة وكيفيات حواره بشكل أحادي دونما تفاوض مسبق ومعلَن بينه وبين المستجوَب يوشك أن يمارس تجاوزا أو عنفا رمزيا على هذا الأخير .

ولعل اختلاف وتفاوت المستوى الثقافي واللغوي – الرساميل الرمزية- والمكانة الإجتماعية أو المهنية المتميزة التي قد يشغلها المحاوِر والتي تنتج ما أسماه بورديو ب” اللاتساوق الاجتماعي” يزيد من صعوبة عمله كباحث سوسيولوجي .لذلك صار لزاما عليه إصاخة السمع المُمَنهج والفعال والإنصات لدقائق الأمور لفهم منطقها الداخلي ولإعطائها المعنى المفترض بعيدا عن عفوية الحوار غير الموجَه وعن التسلط والإعداد المسبق للأجوبة ” دكتاتورية الاستمارة” ، والتي غالبا ما يحيل المحاوِر المحاوَر عليها بشكل من الأشكال وكأنه بذلك يضعها له في فمه عبر أسئلة موجهة ومقدمة سلفا تحمل في ثناياها الجواب ذاته. إن بورديو سعى إلى بناء علاقة إنصات منهجية، تنأى عن الحرية الخالصة للمقابلة غير الموجَهة، كما عن صرامة الاستمارة.

ووعيا من الباحث السوسيولوجي بأهمية الحوار ودوره في الكشف عن المخفي المجسد للعطب الاجتماعي، يرى بورديو أن المحاوِر عليه أن يلم بالوضع الكلي للتحقيق والمحاورة عبر محاولة الدخول إلى عالم المستجوَب بتبني لغته وخطابه وتاريخه الخاص إن أمكن. مما يمَكن من إحداث نوع من التكيف Adaptation أو الألفة والتي من شأنها أن تقحم المحاوِر في وجهات نظر ومشاعر وأفكار المحاوَر، وذلك من خلال أسئلة تبدأ بسؤال عادة ما يكون بسيطا للوصول إلى أخرى أكثر عمقا. إن الباحث السوسيولوجي مدعو الآن وباستمرار إلى تعديل ممتلكاته اللغوية والرمزية، أو بتعبير بورديو “سوق الخيرات اللغوية والرمزية”،[6] بشكل يمتزج وممتلكات المستجوَب. ومن هنا يطرح بورديو سؤالا مهما وأساسيا: من يحاوِر من؟

وبغية الإجابة على هذا السؤال طلب بورديو من العاملين إجراء الحوار أو التحقيق مع أناس يعرفونهم هم أنفسهم من قبل. ولنعكس الصورة لنتلمس الحقيقة. لنتصور مثلا أن باحثا سوسيولوجيا فرنسيا قام بهذا التحقيق مع مستجوَب مغاربي فقير اللغة، وأن هذا الأخير تختلف بالطبع ممتلكاته اللغوية والرمزية كليا أو جزئيا عن ممتلكات المستجوِب – علما أن كل الباحثين أجمعوا على أن حصر انتباه المحاوَر باستمرار وجرد المعلومات والأجوبة التي قد تكون متسرعة، مزيفة، غامضة.. من الصعوبة بما كان- ترى هل ثمة فرصة كاملة وسانحة لإجراء الحوار عبر قناة غير مشفرة؟ بمعنى أن الباحث سوف لن يجد أدنى صعوبة في استصغاء وفهم المواقف والأوضاع والتعابير واللغة التي تخص المحاوَر على اختلاف الممتلكات؟ يبدو أن المهمة هنا صعبة.

لكن حرفة كالتي يحوزها بورديو قادرة على أن تطفو على سطح الممارسة السوسيولوجية، حيث أوكل محاورة العمال العرب وأبناءهم مثلا لباحثين اجتماعيين مغاربيين يعيشون في الحي نفسه، وتربطهم علاقات جوار أو صداقة تمتد لسنوات. مستفيدا من التطبيق المنهجي للاستراتيجية التي اعتمدها ويليام لابوف William Labov في دراسته للهجات سود حي هارليم بأمريكا.[7] لكن إلى أي حد لا تقودنا معرفة المستجوِب الشخصية للمستجوَب إلى الابتعاد عن الحياد العلمي؟ ألا تشكل هذه الألفة التي تربط الباحث بمجاله الاجتماعي عائقا منهجيا أمامه؟

يجيبنا بورديو في منجزه ” بؤس العالم” أن هذا التقارب rapprochement يعد أحد شروط “التواصل غير العنيف” بتعبيره، فضلا عن أنه يجعل المحاوَر يتكلم بأريحية وبعمق أكبر، لأن المستجوِب منحه أولا وانتهاء تلك الضمانة على عدم تعرية البواعث الذاتية والشخصية للمحاوَر، وبعيدا أيضا عن كل أشكال التأسف أو السخرية. لأن قوام العلاقة بين الطرفين هي الثقة المتبادلة بينهما، والهدف الأسمى من هذه المقابلات أولا وأخيرا يعبِر عنه بورديو بقوله: ” ليس لنا الرثاء ولا الضحك ولا الكراهية، بل الفهم”[8] مما يجعل الطرفان على وفاق وتلاؤم يعطي لكل جزئيات الحوار أهمية بالغة من قبيل العلامات اللفظية، الإشارات، الاقتطاعات، التقاطعات، الأخطاء اللغوية، تعابير الوجه… وهذا كله يساعد إلى درجة كبيرة في دراسة الأجوبة وتفاصيلها عند الفراغ من الحوار.

هكذا يجد المستجوَب نفسه منخرطا بشكل طوعي volontier في الحوار باعتباره عاملا جوهريا في عملية البناء النظري لبداية ونهاية التحقيق. فالحوار الناجح في نظر بورديو هو الذي يتكون عبر سلسلة من الحوارات المضنية، وليس ذاك الذي يتسارع البعض إلى إنجازه عبر لقاء أو اثنين ضانا أن الحظ قد حالفه من أول وهلة، وكأن من اليسير الالتفاف على استحكامات العطب المجتمعي المعبر عنه من خلال ذات تمتلك إرادة ووعيا فقط بمجرد اعتماد الطرق المنهجية التقليدية المتصفة بالموضوعية. وهذا ما أكده بورديو من خلال كشف النقص الذي يعتور هذه الطرق حيث إنها ” تفتقد في معظم الأحيان إلى الجوهري، وقد يكون ذلك لأنها تبقى تحت سيطرة الوفاء لمبادئ منهجية قديمة تنتج في كثير من الأحيان عن الرغبة في محاكاة دقة العلامات الخارجية لأشهر الطرق العلمية”[9]

بعد ذلك تأتي الخطوة التالية حيث يتم تسجيل الحوار وتحريره. وهنا تبرز حنكة وحرفية بورديو في التوثيق. فالرجل كان يؤمن بالكتابة، بل وحتى الكتابة التي تسجل الانفعالات والأحاسيس والإيماءات ونبرات الصوت.. ذلك كله لتوفير أعلى شروط المقروئية الممكنة للتحقيق السوسيولوجي باعتباره لحظة تواصل أصيلة .

– ٣-

إن الباحث السوسيولوجي يفترض فيه أن ينشئ سلسلة حوارات تواصلية بينه وبين المستجوَب دون مطبات أو عوائق، عبر وضعيات بعيدة عن تفاوت الممتلكات اللغوية والرمزية، والتي تسمح للمستجوَب بالتعبير عن مظاهر العطب والعسر والخلل الذي يعاني منه داخل المجتمع. إنها وضعيات مشجعة على انبثاق حوار استثنائي وفعال. آنذاك يمكن أن نتحدث عن انعقاده انعقادا سليما يمكننا من إعادة اكتشاف ” الحقيقة ” الاجتماعية من منابعها الأصلية ومن أصولها التي ترجع إليها باستمرار من دون زيف أو تحوير، والتي تقبع غير بعيد عن أفعال وأقوال الفاعلين أنفسهم وما يحيونه في حياتهم اليومية ولا تستولَد من بطون الكتب. إنها مقابلات وشهادات تتعلق بالوجود الاجتماعي والظروف المعيشية التي تعري عن ظاهرة البؤس الاجتماعي في تمام تجلياته، وتلفت انتباه الساسة والحكام نحو هذا العالم البئيس الذي يغرق وحيدا في صراعاته الداخلية وأعطابه وكذا رهاناته الخاصة. وهو الأمر الذي يتطير منه الأكاديمي التقليدي الذي يموج في جهازه المفاهيمي عوض محاورة البشر والنظر في مجمل حكاياتهم وسردياتهم.

إن أسلوب الحوار “المقابلة” الذي اعتمده بورديو في كتابه ” بؤس العالم” يمثل ثورة حقيقية بالمقارنة مع ما تناوله في الثمانينات في كتابه “حرفة عالم الاجتماع” le métier de sociologue أو بالنظر إلى الممارسة السوسيولوجية التقليدية عموما، والتي تضع في المقام الأول أفكار الباحث المبدئية التي لا يصح تماما استبدالها بالأفكار الأولية التي يحملها الناس المتصفة بالعفوية والمنتجة لسوسيولوجيا عفوية. فما دامت العلوم الإنسانية تتعامل مع موضوع “يتكلم” فإن قدرها أن تصيخ السمع لهذا الموضوع طالما أنه يتكلم ويبوح بما ينتج ويعيد إنتاج بؤسه الاجتماعي. وهو ما دفع ببورديو إلى أن يثور على قواعد المنهج العتيقة المتداولة والشائعة في السوسيولوجيا وتحديدا إشكالية الحياد الموضوعي وشكل المقابلة المعتمدة. إنه أراد أن يجعل هذه المناهج الأكاديمية “الأنيقة” في خدمة المضطهدين وعوام الناس. ولذلك تلمسه في منجزه مناضلا يدافع عن سوسيولوجيا قابلة للفهم من خلال جمهور عريض من المجتمع.

[1]- بورديو، ب.(2010). بؤس العالم، الجزء الثالث، منبوذو العالم. ر. بعث (مترجم). دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الاعلامية. ( النسخة الأصلية نشرت في 1993) ص: 364
[2]- المرجع نفسه، الجزء الأول، ص: 18
[3]- المرجع نفسه، ص: 18
[4]- المرجع نفسه، ص: 363
[5]- بورديو، ب.(2010). بؤس العالم. الجزء الثالث.المرجع السابق، ص: 365

[6]- بورديو، ب.(2010). بؤس العالم، الجزء الثالث. ص: 366
[7]- المرجع نفسه. ص: 396
[8]- بورديو، ب.(2010). بؤس العالم. الجزء الأول.المرجع السابق، ص: 14
[9]- بورديو، ب.(2010). بؤس العالم، الجزء الثالث، المرجع السابق. ص: 363


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد