بحث: د. منى خالد محمد علي
ملخص
تزايدت في الآونة الأخيرة الكثير من قصات الشعر الغريبة بين أوساط الشباب المسلم، حتى صارت من الظواهر الدخيلة في مجتمعاتنا المحافظة، لذا جاء هذا البحث بعنوان “القزع مفهومه وحكمه في الإسلام”، لبيان الحكم الشرعي حوله.
يهدف البحث إلى: إبراز سماحة الدين الإسلامي الحنيف وإهتمامه بالمظهر اللائق للإنسان المسلم، ودراسة هذا الموضوع من ناحية فقهية شرعية، ونشر الوعي الديني بين الشباب المسلم حول هذه الظاهرة المخالفة لأحكام ديننا الحنيف.
تم تناول القزع من حيث معناه في اللغة والاصطلاح، ومن خلال مفهومه تم الحديث عن أدلة كراهية القزع في السنة النبوية الشريفة.
تطرق البحث كذلك إلى بيان حكم القزع، وبيان حكمة النهي عنه موثقاً ذلك بالأدلة الشرعية والأقوال الفقهية ذات الصلة بالمسائل المتعلقة بالموضوع.
الكلمات المفتاحية: القزع، التشبه، حكم، الإسلام.
Summary
Recently, a lot of strange hair styles increased among the Muslim youth, until they became an extraneous phenomenon in our conservative societies, so this research entitled “Al-Qaza is its concept and wisdom in Islam”, to show the legal ruling on it.
The research aims to: highlight the tolerance of the true Islamic religion and its interest in the proper appearance of the Muslim person, study this issue from a legal jurisprudence side, and spread religious awareness among Muslim youth about this phenomenon that contradicts the provisions of our true religion.
Al-Qaza ‘was addressed in terms of its meaning in language and convention, and through its concept, evidence of Al-Qaza’s hatred in the noble Sunnah was discussed.
The research also touched on the statement of the ruling of qaza, and the statement of the wisdom of forbidding it, documented by legal evidence and jurisprudence related to issues related to the subject.
مُـقَـدّمَـــة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، واجعلنا ممن يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وبعد:
من بين الظواهر والسلوكيات التي انتشرت في المجتمعات المسلمة قصات الشعر متعددة الأشكال والأنواع التي تم استيرادها من الغرب، ومن ضمن هذه القصات قصة القزع التي زاد انتشارها بين الشباب والشابات المسلمات في الآونة الأخيرة، ولعل من الأمور التي ساعدت على انتشار هذه الظاهرة:
أ. انجراف الشباب وراء الموضة والجهل بالحكم الديني في هذه المسألة.
ب. الرغبة في الشهرة والافتخار بهذا الفعل ولفت أنظار الناس إليهم.
ت. تأثر الكثير من الشباب والشابات بمشاهير الفن والرياضة من خلال مشاهدتهم لهم عبر وسائل الإعلام المختلفة.
ث. ضعف الوازع الديني لدى الكثير من الشباب والشابات وعدم التزامهم بتعااليم الدين الإسلامي الحنيف.
ج. عدم قيام أولياء الأمور بالقيام بدورهم كاملاً تجاه أبناءهم وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وعدم نصحهم وتوجيههم إلى الإقلاع عن مثل هذه الظاهرة.
والذي يؤلم حقاً كثرة انتشار مثل هذه الظواهر والسلوكيات في مجتمعاتنا والتي لا تمت لقيم مجتمعاتنا وعاداتنا بصلة، وتطلع شبابانا وشاباتنا بل وحتى أطفالنا إلى الغرب على أنهم القدوة لهم في تصرفاتهم وحياتهم، ولم يعلموا أن النبي ﷺ قد حرص على مخالفة اليهود والنصارى وأوضح ذلك في كثير من المناسبات، وهذا ما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع أملاً في نشر الوعي الديني بين الشباب والشابات، واستخلاص الأحكام الفقهية في موضوع القزع.
الدراسات السابقة:
بتتبع موضوع “القزع مفهومه وحكمه في الإسلام” لم أجد فيما أطلعت عليه بحثاً علمياً فقهياً تحدث عن الأحكام الفقهية المتعلقة بالقزع، وإنما وجدت بعض من المقالات المختصرة في الشبكة العنكبوتية والتي تناولت الحديث عنه من جوانب مختلفة، مما دفعني إلى الحديث عنه وعن الأحكام الفقهية الخاصة به.
منهج البحـث:
يحاول هذا البحث أن يدرس هذه الظاهرة التي انتشرت في كثير من مجتمعاتنا المسلمة بين شبابنا وفتياتنا، مستخدماً في ذلك المنهج الوصفي التحليلي لمناسبته لطبيعة لهذا البحث.
هيكل البحث:
تقتضي طبيعة الموضوع توزيعه إلى ثلاثة مباحث، وخاتمة تتضمن أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول: تعريف القزع في اللغة والاصطلاح.
المطلب الأول: تعريف القزع في كتب اللغة العربية.
المطلب الثاني: تعريف القزع في الاصطلاح.
المبحث الثاني: أدلة النهي عن القزع وبيان أنواعه.
المطلب الأول: أدلة النهي عن القزع
المطلب الثاني: أنواع القزع
المبحث الثالث: حكم القزع في الشرع، وحكمة النهي عنه.
المطلب الأول: حكم القزع في الشرع
أولاً: كراهية القزع والأدلة على ذلك.
ثانياً: تحريم القزع والأدلة عليه.
المطلب الثاني: حكمة النهي عن القزع
وأخيراً الخاتمة التي تحتوي على أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها البحث.
المبحث الأول
تعريف القزع في اللغة والاصطلاح
المطلب الأول: تعريف القزع في كتب اللغة العربية.
قال ابن فارس: (قَزَعَ) الْقَافُ وَالزَّاءُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى خِفَّةٍ فِي شَيْءٍ وَتَفَرُّقٍ، ومِنْ ذَلِكَ الْقَزَعُ: قِطعُ السَّحاب المتفرقة التي تمر أسفل السَّحاب الكبير، والواحدة قَزَعَة . وقَزَعَ الظَّبْيُ قُزُوعاً، كمنَعَ: أسْرَعَ، وخَفَّ، وأبْطَأ، ضِدٌّ .
وتقزع الْفرس تهَيَّأ للركض، وَالْقَوْم تفَرقُوا، والسحاب تقشع وَالرجل بَقِي من شعره قَلِيل متفرق. والقزعة: خصل من الشّعْر تتْرك على رَأس الصَّبِي كالذوائب مُتَفَرِّقَة فِي نواحي الرَّأْس والقليل من الشّعْر وسط الرَّأْس خَاصَّة .
الْقَزَعُ أيضاً: أَنْ يُحْلَقَ رَأْسُ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ شَعْرٌ مُتَفَرِّقاً. وَرَجُلٌ مُقَزَّعٌ: لَا يُرَى عَلَى رَأْسِهِ إِلَّا شُعَيْرَاتٌ. وَفَرَسٌ مُقَزَّعٌ: رَقَّتْ نَاصِيَتُهُ .
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي الِاسْتِسْقَاءِ: لَا قَزَعٌ رَبابُها، وَلَا شِفّانٌ ذِهابُها؛ الذِّهابُ: الأَمْطارُ اللَّيِّنة؛ وَفِي الْكَلَامِ مُضافٌ مَحْذُوفٌ تقديرُه: وَلَا ذَاتُ شِفّانٍ ذِهابُها. والذَّهَب، بِفَتْحِ الهاءِ: مِكيالٌ معروفٌ لأَهْلِ اليَمَن، وَالْجَمْعُ ذِهابٌ وأَذهابٌ وأَذاهِيبُ، وأَذاهِبُ جَمْعُ الْجَمْعِ .
المطلب الثاني: تعريف القزع في الاصطلاح.
لا يكاد يخرج معنى القزع الاصطلاحي عن معناه اللغوي، ولقد اتفق فقهاء المذاهب الفقهاء الأربعة على تعريف القزع بأنه”حلق بعض شعر الرأس وترك بعضه، أو أن يحلق الشخص بعض مواضع متفرقة من الرأس”.
فقد جاء في كتاب الدر المختار تعريف القزع ” وَهُوَ أَنْ يَحْلِقَ الْبَعْضَ وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ قَطْعًا مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ” .
وتحدث المالكية عن تعريف القزع حيث جاء تعريفه في كتاب البيان والتحصيل بأنه”حلق بعض الرأس دون بعض” .
وجاء أيضًا في كتاب الذخيرة للقرافي بأنه” أَنْ يَحْلِقَ الْبَعْضَ وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ تَشَبُّهًا بِقَزَعِ السَّحَابِ” ، وجاء في كتاب القواننين الفقهية تعريف القزع هُو: “أَن يحلق الْبَعْض وَيتْرك الْبَعْض” .
وجاء تعريف القزع عند فقهاء المذهب الشافعي بأنه: “حَلْقُ بَعْضِ الرأس” ، وجاء تعريفه في كتاب روضة الطالبين بأنه: “حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ، سَوَاءً كَانَ مُتَفَرِّقًا أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ” . وجاء معنى القزع في كتاب حاشيتا القليوبي وعميرة عن القزع بأنه” حَلْقُ، بَعْضِ الرَّأْسِ وَلَوْ مُتَعَدِّدًا” .
وتحدث فقهاء المذهب الحنبلي عن القزع في عدد من كتبهم، حيث جاء في كتاب المغني، في فصل حلق بعض الرأس، وهو ما يسمى بالقزع . وجاء في كتاب الشرح الكبير على متن الاقناع” ويكره القزع وهو حلق بعض الرأس” .
المبحث الثاني
أدلة النهي عن القزع وبيان أنواعه
المطلب الأول: أدلة النهي عن القزع
وردت عدد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تنهى عن القزع، ومن هذه الأحاديث:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ القَزَعِ»، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قُلْتُ: وَمَا القَزَعُ؟ فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِيَّ، وَتَرَكَ هَا هُنَا شَعَرَةً وَهَا هُنَا وَهَا هُنَا، فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ وَجَانِبَيْ رَأْسِهِ. قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: فَالْجَارِيَةُ وَالغُلاَمُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي، هَكَذَا قَالَ: الصَّبِيُّ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَعَاوَدْتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا القُصَّةُ وَالقَفَا لِلْغُلاَمِ فَلاَ بَأْسَ بِهِمَا، وَلَكِنَّ القَزَعَ أَنْ يُتْرَكَ بِنَاصِيَتِهِ شَعَرٌ، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ شَقُّ رَأْسِهِ هَذَا وَهَذَا .
2. عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ القَزَعِ» ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقَزَعِ» قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ وَمَا الْقَزَعُ قَالَ: «يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ» .
3. عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقَزَعِ فِي الرَّأْسِ» ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ الْقَزَعَ لِلصِّبْيَانِ» .
4. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ شَعْرِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ» . رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
5. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: «لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ»، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي»، فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: «ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ»، فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا» .رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
7. وعَنْ عَلِيٍّ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا»
فجميع هذه الأحاديث النبوية الشريفة تتحدث عن القزع والنهي عنه في حق الرجل، فالواجب عليه حلق شعره كله أو تركه كله، وفي هذا الأمر توسعة له، ولكن ليس له أن يحلق البعض ويترك البعض، أما المرأة فلا يجب عليها حلق شعرها لأنه جمال وزينة، ويجوز لها أن تأخذ جزء منه إن طال ولا بأس في ذلك.
ولقد ورد أن زوجات التبي ﷺ قصصن شعرهن بعد وفاته، فقد روى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ «فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ فَاغْتَسَلَتْ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثلَاثًا» قَالَ: «وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ » ، ففعلهن هذا يفهم منه شيئان:
الأول: كان شعرهن رضي الله عنهن معفي ولم يكن مقصوصًا في حياة النبي ﷺ.
الثاني: أن الشعر للمرأة نوع مهم من الزينة التي تحفظ للزوج وإعفاؤه أيضًا من الزينة التي تتصنع بها المرأة لزوجها، فإن مات ولم ترج نكاحاً ففي هذه الحالة تقصه، إذ هي قد استغنت عن الزينة.
ولعل أمهات المؤمنين رضي الله عنهمن فعلن ذلك بعد وفاته تركن منهن للزينة، واستغنائهن عن الشعر الطويل وتخفيفاً لمؤونة رؤوسهن .
المطلب الثاني: أنواع القزع
تحدث ابن القيم عن أنواع القزع، ولقد جاء في كتابه تحفة المودود بأحكام المردود أن أنواع القزع أربعة أنواع :
أَحدهَا أ: َن يحلق من رَأسه مَوَاضِع من هَا هُنَا وَهَا هُنَا مَأْخُوذ من تقزع السَّحَاب وَهُوَ تقطعه.
الثَّانِي: أَن يحلق وَسطه وَيتْرك جوانبه كَمَا يَفْعَله شمامسة النَّصَارَى.
الثَّالِث: أَن يحلق جوانبه وَيتْرك وَسطه كَمَا يَفْعَله كثير من الأوباش والسفل.
الرَّابِع: أَن يحلق مقدمه وَيتْرك مؤخره وَهَذَا كُله من القزع وَالله أعلم.
وذكر مراتب القزع في كتاب أهل الذمة بقوله”وَأَمَّا حَلْقُ بَعْضِهِ وَتَرْكُ بَعْضِهِ فَهُوَ مَرَاتِبُ:
أَشَدُّهَا: أَنْ يَحْلِقَ وَسَطَهُ وَيَتْرُكَ جَوَانِبَهُ كَمَا تَفْعَلُ شَمَامِسَةُ النَّصَارَى.
وَيَلِيهِ: أَنْ يَحْلِقَ جَوَانِبَهُ وَيَدَعَ وَسَطَهُ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ السَّفَلَةِ وَأَسْقَاطِ النَّاسِ.
وَيَلِيهِ: أَنْ يَحْلِقَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَيَتْرُكَ مُؤَخَّرَهُ.
وَهَذِهِ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ دَاخِلَةٌ فِي الْقَزْعِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهَا أَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ. فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ لِضَرَرٍ بِرَأْسِهِ أَوْ لِاسْتِخْرَاجِ ضَفِيرَةٍ تُؤْذِي عَيْنَيْهِ جَازَ حَلْقُ بَعْضِهِ هَذَا، وَالْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ أَوْ حَلْقُ جَمِيعِهِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَر .
ويلاحظ اختلاف عدد الأنواع التي ذكرها ابن القيم في بعض كتبه، تارة تعد أربعة أنواع وتارة أخرى تعد ثلاثة أنواع، وبالرغم من اختلاف عددها يتبين أن جميع هذه الأنواع المذكورة تدخل في معنى القزع النهي عنه.
المبحث الثالث
حكم القزع في الشرع، وحكمة النهي عنه.
المطلب الأول: حكم القزع في الشرع.
اختلف الفقهاء حول حكم القزع إلى قولين: –
أولاَ: كراهية القزع.
أجمع فقهاء المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة على كراهية القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون للعلاج ونحوه وهي كراهة تنزيه، ولقد ذكروا ذلك في عدد من كتبهم .
ثانياً: تحريم القزع
ذكرنا كراهية الفقهاء للقزع، ولكن إذا فعله فعله صاحبه على وجه التشبه بالكفار أو الفساق، ففي هذه الحالة يكون محرماً لا مكروهاً.
فالتشبه بالكفار محرم لقول الرسول ﷺ ” مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ” ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -: ” مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ” ، أي تَزَيَّى فِي ظَاهِرِه بِزِيِّهِمْ، وَسَارَ بِسِيرَتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ فِي مَلْبَسِهِمْ وَبَعْضِ أَفْعَالِهِمْ. فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْإِثْمِ وَالْخَيْرِ .
فدلالة هذه الأحاديث تحريم التشبه بالكفار في لبسهم وأفعالهم، والقزع من أفعال الكفار، فيحرم خاصة في عصرنا الحالي لأن فيه جمعاً بين الكروه والمحرم، فالمكروه هو القزع والمحرم هو التشبه بأفعال الكفار.
ولقد جاء التشريع بتحريم تشبه المسلمين بالكفار في عباداتهم أو أعيادهم أو أزياءهم الخاصة بهم وأفعالهم وسلوكهم والألة على ذلك كثيرة في القرآن والسنة، منها:
1. قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) .
جاء في تفسير ابن كثير حول تفسير قوله تعالى: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية” .
2. وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ.
3. وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .
ففي هذه الآيات الكريمة يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أَيْ فِي زَمَانِهِمْ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ حُجَجًا وَبَرَاهِينَ وَأَدِلَّةً قَاطِعَاتٍ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَغْيًا مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِنَّ رَبَّكَ ، ثم جعل لسيدنا محمداً ﷺ شريعة من الأمر، شرعها له ، وأمره باتباعها ، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وهم كل من خالف شريعته.
3. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ» .، ففي قَوْله ﷺ: حَتَّى تَأْخُذ أمتِي بِأخذ الْقُرُون قبلهَا” أَي: حَتَّى تسير أمتِي بسير الْقُرُون قبلهَا” أي الروم والفرس .
4. وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ» .وفي قَوْله: (سنَن من قبلكُمْ)، أَي: طَرِيق الَّذين كَانُوا قبلكُمْ، وَالسّنَن بِفَتْح السِّين: السَّبِيل والمنهاج، أي طريق من الأمم السابقة .
فوجه الدلالة من خلال هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية منع التشبه بالمشركين، وهذا المنع يقتضي التحريم، ويدخل في ذلك حرمة القزع لأن فيه تشبه بأفعال أهل الكتاب.
المطلب الثاني: حكمة النهي عن القزع.
هناك اختلاف بين الفقهاء حول حكمة كراهية القزع، فقيل إنه تشويه للخلق، وقيل: لأنه أذى الشر والشطارة،
وقيل: لأنه زي اليهود .
قال ابن القيم: قال شيخنا وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل، فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسياً وبعضه عارياً، ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل، فإنه ظلم لبعض بدنه، ونظيره نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة، بل إما أن ينعلهما أو يخفيهما .
والحكمة من النهي عن القزع ترجع لعدة أسباب:
1. إذا كان فيه تشبه بخصائص أهل الكفر، كحلق وسط الرأس وترك جوانبه، كما يفعل رهبان النصارى، أو إذا قصد من فعله تقليدهم.
2. أو إذا كان فيه تشويه للخلقة، لأن النبي ﷺ نهى عن المثلة، وهي تشويه الخلقة.
3. إذا كان فيه تشبه بالنساء، ولقد لعن الرسول ﷺ فاعله في الحديث الصيح حيث قال ” لَعَنَ اللهُ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ” . ففي هذا الحديث دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ، وَعَلَى النِّسَاءِ التَّشَبُّهُ بِالرِّجَالِ فِي الْكَلَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَشْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْمُتَرَجِّلَاتُ مِنْ النِّسَاءِ: الْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ بل وفي وجميع الأحوال .
الخاتمة
الحمد لله كثيراً على توفيقه لي لإتمام هذا البحث، فقد فرغت بعونه وتوفيقه من الكتابة في موضوع ” القزع مفهومه وحكمه في الإسلام”، والذي أسأل الله تعالى أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، ولقد توصلت في نهاية هذا البحث إلى الخاتمة والتي تتضمن على أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها هذا البحث.
أولاً: النتائج
1. حرصت الشريعة الإسلامية على الاهتمام بالمسلم، وما يحقق له المظهر اللائق ويسعده، ولذلك قال الرسول ﷺ ” مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» ، أي أن يتعاهده بالتسريح والدهن مع الالتزام بأوامر الله تعالى والبعد عما نهى عنه.
2. وجود عدد من النصوص الشرعية التي تحدثت عن حرمة التشبه، وكراهة القزع، إلا أنها في مجملها تدل على تحريم القزع، لأنه يجمع بين المكروه وهوحلق الرأس وترك بعضه، وبين المحرم وهو التشبه بالكفار.
3. الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، أدى إلى إدخال كثير من المحرمات من بلاد الكفر، مما جعل شبابنا وشاباتنا يتشبهون بها.
ثانياً: التوصيات
1. ضرورة قيام كل من الأسرة، المدرسة والمجتمع بدورهم كاملاً في توجيه وتحذير الشباب والشابات من التشبه بالكفار والتزام النهج الإسلامي القويم والبعد عن المحرمات.
2. دعوة أهل العلم والدين إلى مناقشة هذه الظاهرة المستجدة التي أفتتن بها الشباب والشابات في المجتمع المسلم، وتبصيرهم بالأحكام الشرعية المتعلقة بها من خلال النصوص الشرعية في الكتاب والسنة وما أجمع عليه العلماء.
4. ضرورة تنوير الذين يمتهنون مهنة الحلاقة في البلاد الإسلامية من المسلمين بالابتعاد عما نهى عنه الشرع وحرمه حتى يكون كسبهم حلالاً طيباً.
وبعد فإنني اختتم البحث مقرة بالعجز والتقصير، فإن أصبت فمن عند الله عز وجل، وإن أخطأت فمن نفسي وعجزي عن الكمال، فإن الكمال لله وحده، والله أسأل الهدى والرشاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الكلمات المفتاحية: القزع، التشبه، حكم، الإسلام
اترك رد