تشير فكرة الحوكمة العالمية ، هذا المصطلح الذي اخذ في التدوال في الثقافة العربية ، الي جملة من المفاهيم العامة التي تتلعق بنشر وتعزيز ثقافة السلام العالمي قاعدتها حقوق الإنسان والرفاهية الاقتصادية في العالم.
وفي عصر العولمة اخذ ت هذه الفكرة إبعاد عديدة ومختلفة في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع. علي سبيل المثال شهدت سنة 2002 الهجمات علي مقار التجارة في نيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية في واشنطون، وإجمالا شهد هذا القرن العديد من الحروب الأهلية، والتي قسمت العديد من الأمم الي دويلات صغيرة . صعود ثورات الربيع العربي والاضطرابات السياسية والاجتماعية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مؤشرات جديدة لتغيير مسارات توازن القوى في هذه المناطق. التغير المناخي المفاجئ، والذي يؤشر لمستقبل غير معروف نتائجه علي مستقبل حياة الإنسان في كوكبه الوحيد القابل للحياة والمعيشة فيه. السياسات الاقتصادية الوطنية والعالمية وتطورات الأزمة المالية العالمية الخانقة، كلها جعلت العديد من الأمم تعاني من ويلات الفقر، وعدم المقدرة علي التعامل مع الفقر الاقتصادي لديها، وعجزها التام علي تخليق التقدم.
وهذه المؤشرات التي تجتاح عالم اليوم فرضت علي العديد من المفكرين والمخططين الاستراتيجيين أهمية تبني فكرة الحوكمة العالمية، وأهمية نظريات التكامل الوظيفي بين الأمم في الحد من مظاهر عدم الاستقرار والفوضى العالمية.
أنها الفكرة القديمة الجديدة والتي طرحها العديد من المفكرين، أصحاب نظريات الاندماج والتكامل الوظيفي بين الأمم درء للحروب والنزاعات الداخلية والخارجية. ولكن علينا التفريق بين فكرتي “الحوكمة العالمية” “والحكومة العالمية” ، من حيث النشأة والتطور.
ففكرة الحوكمة، عبارة عن مشروطية، ترتكز علي مدي قدرة الحكومات الوطنية مجتمعة علي تقريب منظومة مصالحها الي بعضها ، وان تكافح جاهدة علي تحقيق الرخاء الاقتصادي لديها، وفي تحقيق الرفاهية والرخاء الاجتماعي والاقتصادي والبيئي العالمي. والمدخل الأساسي للحوكمة العالمية يعتمد علي عدة مبادئ:
(1) مشروعية استعمال القوة والسلطة (2) احترام سيادة الدول الاخري (3) المنافسة ومقوماتها (4) الفعالية في الأداء الوطني والإقليمي والدولي( 5) التعاون(6) الشراكة (7) الربط بين الطلب المحلي والوطني العام مع العولمة .
ولكن هناك مجموعة من التحديات التي تجعل من فكرة الحوكمة غير قابلة للتنفيذ والتحقق من فرضياتها ومبادئها النظرية. (1) إصلاح المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظماتها التخصصية وغير التخصصية، حيث الأمم الصغيرة يتم تجاهلها عند اتخاذ القرارات المهمة عالميا، والمسيطر عليها من طرف الدول ألكبري، مثل الدول الصناعية ومجموعة مجلس الأمن الدولي. والأكثر أهمية من التحديات، وفي عصر “الليبرالية الجديدة ” (2) منظمات مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والتي يجب عليها إن تعيد مأسسة أدوارها، وان تكون أكثر شفافية في حوكمة سياساتها العالمية ، حتى لا تكون مصالح الأمم الفقيرة والضعيفة اقتصاديا رهينة منافع الدول القوية والكبيرة في المحافل الدولية، (3) أيضا أهمية ممارسة الضغط علي الدول الصناعية، من خلال إجماع عالمي، من اجل تخفيضها لمعدلات التلوث البيئي الصادر من مصانعها.
والعمل الأكبر لتحقيق مظاهر ومضامين فكرة الحوكمة العالمية هو من صميم وواجبات الدول الكبرى، وليس الصغرى، فهي القادرة علي الحصول علي إجماع إقليمي وعالمي وتعاونها الثنائي المباشر، وتقديم خطة عولمية حوكمية لإخراج العالم من أزماته. وينبغي عزل كل الاجحافات التي عزلت الكثير من الدول عن العالم، وعدم تمكينها من ممارسة دورها الاقليمى والدولي. وأخيرا فقط مستويات عالية من التنسيق والتعاون في ظل الحوكمة العالمية، وعلاقات الجوار الإنساني يمكن إن تحول أسطورة القبول المتبادل المفقودة بين الأمم الي حقيقة وواقع لصالح البشرية.
ومن هنا يتضح إن الخلط بين بين مفهوم “الحكومة العالمية” و”الحوكمة العالمية” يؤدي الي سؤ فهم المصطلحات التي تستعمل في وسائل الإعلام والكتابات والبحوث في مجال العلاقات والسياسة الدولية وعمليات الاندماج والتكامل، وهذا الخلط يسهم في تكوين حالة من العجز في كيفية تفكير الأخر الذي يعمل جاهدا على ترسيخ مفاهيمه.
فالحكومة العالمية هي إطار نظري يعتمد علي تحول مؤسسات الأمم المتحدة الي حكومة عالمية لها صلاحيات الحكومات الوطنية بصغيرها وكبيرها، وهي حلم منظري العلاقات الدولية مثل الدكتور بطرس غالي وكتابه الموسوم ” الحكومة العالمية “، والذي وضع فيه اللبنات الأولي في كيفية تأسيس ” حكومة عالمية”، أساسها تحويل مؤسسات الأمم المتحدة الي حكومة عالمية.
ويعتبر مفكرو عمليات الاندماج والتكامل الوظيفي اقرب الدعاة الى فكرة الحوكمة العالمية نظرا لاقتراب مبادئها الى شروط الاندماج والتكامل التي خضعت للعديد من الدراسات الامبيريقية والتحليلية( أمثال كارل دويتش واتزيوني وديفيد ميتراني وغيرهم). ويتضح أيضا أن التكامل الوظيفي بين الدول والتجمعات الوطنية هو اقرب الصور الى فكرة الحوكمة منها الى فكرة الحكومة العالمية.
اترك رد