التغـير الاجتمـاعي في الـوطن العـربي بين السيـاسة والـعنف
إنّ الشباب بوصفهم يشكلون الغالبية العظمى من أعضاء المجتمع العربي هم الأساس الذي ينبني عليه التقدم في كافة مجالات الحياة، فهم أكثر فئات المجتمع حيوية، و قدرة و نشاطا، و إصرارا على العمل و العطاء، و لديهم الإحساس بالجديد و الرغبة الأكيدة في التغيير ممّا يجعلهم أهم سبل علاج مشكلات المستقبل، و هذا في حد ذاته مطلب أساسي للتطوير والتغيير.
يعيش الشباب في العالم العربي مجموعة من التحولات في طرق العيش و أساليب التفكير وأنماط السلوك على صعيد العلاقات الاجتماعية أو الثقافة و القيم السائدة. فالتداخل بين المحلي و العالمي بفعل التأثير المتعاظم لثورة الاتصالات و المعلومات قد انعكس على مختلف الشرائح الاجتمـاعية، إلاّ أنّ الشباب و بحكم خصائصهم و تطلعـاتهم و تأهيلهم العلمي كانوا أكثر تأثرا بهذه التحولات و ما نجم عنها من تأثيرات سلبية أو إيجابية على السواء.
و حين ندرس الشباب في إطار التنمية الاجتماعية و الاقتصادية نربطهم بتيار التغير الاجتماعي الأساسي في المجتمع المتجه نحو دعم التطوير العلمي والتكنولوجي والثقافي، و هذا التطوير يحتاج أساسا إلى المشاركة الايجابية من الشباب، تلك التي تقوم بدورها على تدريبهم على إدراك و استيعاب مقومات التغيير، فتكون شخصياتهم أكثر قدرة على الإنجـاز. على أنّ أهم ما يسهم به الشبـاب في مسيرة التنمية و التحديث هو مـا يتمتعون به من القدرة على الإبداع و الابتكار، فالشباب يتطلع باستمرار إلى تبني كل ما هو جديد، و من ثم فهم مصدر من مصادر التغير الاجتماعي في المجتمع.
و التغير الاجتماعي، يعد من السّمات التي لزمت الإنسانية منذ فجر نشأتها حتى عصرنا الحاضر، لدرجة أصبح التغير معها إحدى السّنن المسّلم بها، بل و اللازمة لبقاء الجنس البشري، و الدالة على تفاعل أنماط الحياة على اختلاف أشكالها لتحقق باستمرار أنماطا وقيما اجتماعية جديدة يشعر في ظلها الأفراد أنّ حياتهم متجددة. و هو يعرّف على أنّه:” كل تغير يطرأ على البناء الاجتماعي في الوظائف و القيم و الأدوار الاجتماعية خلال فترة زمنية محددة و قد يكون هذا التغير إيجابيا أي تقدما و قد يكون سلبيا أي تخلف”[1]. و يقصد به كذلك “نوع من التباين و الاختلاف الذي يؤدي إلى حدوث تغير في أنساق التفاعل و العلاقات وأنماط السلوك و النشاط الإنساني و يعد السّمة المميزة لطبيعة الحياة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة”[2] .
إنّ عملية التغير الاجتماعي كما تفيد الخبرة التاريخية بشكل عام، تسير أحيانا بشكل تدريجي بطيء إلى درجة تبدو معها و كأنّها عملية تلقائية غير محسوسة، و في مثل هذه الأحوال يغلب عليها الطابع السلمي، و تؤدي الإجراءات السيـاسية هنا الدور الأساسي في قيادة هذه العملية و سيرورتها. و أحيانا يحدث الـتغير عن طريق هزّات ثـورية عنيفة و سريعة، تبدو بمنزلة قطيعة شبه كاملة مع المرحلة التي سبقتها و في هذه الحالة تقترن عملية التغير باستخدام كثيف للقوة، و انتشار واسع لمظاهر العنف الاجتماعي و يترتب عليها كلفة اجتماعية و اقتصادية باهظة.
و الأنظمة العربية و خلال تاريخها الطويل أنتجت حياة سياسية صعبة و قاسية على المواطن العربي إمّا لأنّها تواكب العصر و مستجداته، أو لأنّها لم تف بمتطلبات الإنسان العربي في النهضة و العمل العربي المشترك و الوحدة و غير ذلك من أهداف و طموحات. أو أنّ بعضها بقي يمارس السلطة بأسلوب و آليات قديمة، لا تتكافأ مع حقوق الإنسان العربي المتعاظمة، لأنّ تحديات المرحلة أوجبت عليه البحث عن دور له في وطنه و أمته و حتى في العالم.
و كان هذا معناه أنّ الحياة السياسية في الوطن العربي، بحاجة ماسة إلى تنمية سياسية، تترافق و تتماشى مع تنمية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية تتجاوز الحالة السياسية التقليدية التي تفتقر بطبيعتها و بنيتها إلى طبقة متوسطة تشكل الرهان الحقيقي في النهضة والتنمية.
و الملاحظ مؤخرا في الساحة اليومية العربية بروز حركة احتجاجات عارمة و في الكثير من البلدان على غرار ما حدث في الجزائر ومصر و تونس و ليبيا و سوريا و اليمن. فأغلب المطالب و تلك الاحتجاجات و المظاهرات في الكثير من المجتمعات العربية النابعة من عمق الشارع، والطامحة إلى التغيير خصوصا من الناحيتين السياسية و الاجتماعية، راجعة إلى حقيقتين لا ثالثة لهما:
– أولهمـا حـالة الانسداد التاريخي و السياسي التي دخلت فيها أوضـاع العالم العربي جرّاء إخفاق الدولة و السياسات الرسمية القائمة في مجال تطوير البنى و التشريعات المنظّمة للحقلين السياسي و الاقتصادي، و في مجال تطوير النظام التعليمي التربوي، الأمر الذي قاد السيـاسة إلى العنف و المغامرة، و قاد الوعي إلـى التكديح العقلي و التصحر الفكري.
– وثانيتهما تزايد معدل الوعي السياسي- لدى قطاعات عريضة من الجمهور الاجتماعي- بالحقـوق المدنية و السياسية نتيجة انتشار التعليم و ثورة الاتصالات و المعلومات[3].
و في قلب مخاض الهندسة السياسية الجديدة ضمن التحول الديمقراطي في ظل هذه الحركية يأتي دور الشباب في ضخ دماء جديدة في الشرايين السياسية المغلقة، التي تكلست و ضاقت قنواتها من جرّاء دهون الاستبداد، و لم يعد بمقدورها تحقيق تدفق متسارع للحيوية السياسية. فالشباب العربي حتى يقوم بهذا الدور يحتاج إلى من يزرع في أعماقه هوية مدنية –حضارية- جديدة، و لن يتسنى له ذلك إلاّ من خلال منظمات مدنية فاعلة، تعبر عن رأسمال اجتماعي يقوم على الثقة و المشاركة و الاحترام المتبادل. فالشباب بحاجة إلى هذه الهوية، و هذه المنظمات الجمعوية، و يكتسب الشباب الهوية المدنية من البرامج التعليمية و التنشئة السياسية التي تؤثر في تكوين شخصيته، و تجعله قادرا على الفعل الاجتمـاعي و السياسي و الإنسان المسؤول، و تلك هي البذور الجنينية لأية ممارسة سياسية تهدف إلى التغيير.
لكن الملاحظ من خلال مجريات الأحداث اليومية، في الفترة الراهنة، و ثورة الشارع العربي المطالب بالتغيير في حياته اليومية و في جميع الميادين، كانت هنالك عدة دوافع من وراء ذلك، لكن الدافع الرئيسي أو الشرارة التي أوقدت الشارع ليست هي الحركات الجمعوية و المجتمع المدني، من منظمات مدنية و أحزاب معارضة، لأنّها هي في حد ذاتها نراها تريد ركوب موجة التغيير هاته مع محاولتها السيطرة على هذه العملية بشكل كامل. و لربما نجدها ثورة اتصالات، على اعتبار ما نلحظه من تأثير لمواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية (الفايسبوك-تويتر-…)، إضافة لوسائل الإعلام على مختلف أشكالها (المرئية و المكتوبة و المسموعة)، في تأطير فلول الشباب الطامح إلى القضاء على الأنظمة الحالية بمختلف أطيافها.
لكن الذي يهمنا أكثر هنا، هو إبراز السبب الذي أدى بعملية التغير الاجتماعي إلى اتخاذ منحى عنفي يقترن باستخدام القوة و السلاح. و ذلك ما يقودنا إلى طرح التساؤل التالي:
هل كان من اللزوم أن تنحرف سيرورة التغيير الاجتماعي في الوطن العربي باتجاه أساليب القوة و العنف، كشكل من أشكال الفعل الاجتماعي؟.
وللوصول إلى إجابة كافية شافية على هذا التساؤل، كان لابد لنا من استحضار تلك الآراء الكثيرة و المختلفة حول هذه النقطة بالذات، و هي آراء متباينة تباينا يصل حد التناقض، و لكن جميعها يندرج ضمن اتجاهين أساسيين:
– الاتجاه الأول: يرى رواده بأنّ التغير الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلاّ عن طريق القوة و استخدام العنف.
– الاتجاه الثاني: يؤكد أصحابه على أنّ التغير الاجتماعي يمكن أن يتم عن طريق الأساليب السياسية، و أنّ العمل السياسي هو الأساس. و العنف أمر غير حتمي و لا ضروري و يترتب عليه نتائج غير مرغوب فيها.
ففي الاتجاه الأول يمكن إبراز ما جاء به – فرانتز فانون– عندما رأى أنّ :” العنف وحده، العنف الذي يمارسه الشعب، العنف المنظم الواعي الذي ينير قادة الثورة، هو الذي يتيح للجماهير أن تحلل الواقع الاجتماعي و أن تملك مفتاحه. و دون هذا النضال، و دون هذه المعرفة النابعة من النضال، لا يكون ثمة إلاّ تهريج”[4]. فهو حسبه أن عملية التغير الاجتماعي عملية تقترن بالعنف بشكل دائم و أكيد، و الدليل على ذلك اقتران عدد كبير من حالات التغير الاجتماعي الجذري في عدد كبير من البلدان باستخدام القوة.
و لكن الأخذ بهذه النظرة، و وصفها بأنّها حقيقة ثابتة، على الرغم من صدوره عن عاطفة ثورية صادقة، و ينم عن شعور عميق بوطأة الظلم الاجتماعي، إلاّ أنّه يجب إعادة النظر إلى هذه الرؤية، كون مسايرة العنف لعملية التغير الاجتماعي، يمكنه أن يقود إلى حرب أهلية ذات تكلفة اجتماعية باهضة، أو أن يأخذ شكل حرب عصابات، لا تقل تكلفتها الاجتماعية و الاقتصادية عن الحروب الأهلية، و ذلك ما رأيناه جليا في ميدان التحرير بالقاهرة بين شعب ثـائر و عملاء للحزب الحاكم و رجال الأمن، أو كما سبق في تونس بين المتظاهرين و قناصة النظام السابق.
أمّا أصحاب الاتجاه الثاني المنادون للعمل السياسي كأساس حضاري للتغير الاجتماعي، فيرون أنّ لا مكان للعنف و القوة في حركة التغير، و ذلك ما يعبر عنه – إيفرز تيلمان– بقوله:” إنّ العنف ليس آلة تتصف بالكمال. إنّه يعجز، أولا، عن حل التناقضات الاجتماعية فيكتبها، فتميل إلى التفاقم. و هو يبقى، ثانيا محدودا، بما هو سلطة مكثفة للطبقة السائدة، بالسلطة المضادة للطبقات الخاضعة”[5].
و يشير – جاك ووديز– إلى الفكرة نفسها بقوله:” أمّا العنف في عملية التغير الاجتماعي كان جزءا أساسيا من هذه العملية فأمر لا يمكن أن ينكره أحد، و أمّا أن لا نرى سوى العنف فهذا بمعنى تبني وجهة نظر ضيقة و بالغة الخطر سياسيا”[6].
هذا بمعنى أنّ الاحتجاجات العنفية تبقى جانبية و محدودة و لن تصبح الشكل الأساسي للعمل و التغيير، على حين يتم فيه الاعتماد على أشكال أخرى للفعل الاجتماعي يغلب عليها الطابع السياسي، و من ثم يبدو من الصحيح أن نقول: إنّه إذا كان محك العنف حتميا في بعض الحالات فهو غير حتمي في جميع الحالات.
و في العالم العربي، و خلال عقود مضت، عانت الشعوب العربية و لا زالت الويلات من ظلم اقتصادي مسرف، و من تعسف سياسي و اجتماعي بالغي الشدة و الوضوح، و مع ذلك لم تتحرك الطبقات المضطهدة و لم تطهر أية جهة من القاعدة العريضة لتلك المجتمعات العريضة لتنادي بتحسين أوضاعها. و لا توجد في هاته البلدان حركات ثورية ذات معنى، توحي بإمكانية تغيير الوضع القائم أو الثورة عليه، و هذا راجع إلى الفهم السلبي لهذا الظلم على مستوى مختلف الطبقات الاجتماعية. بمعنى قدرة الدولة أو قدرة النخب الحاكمة على تبرير هذا الظلم أيديولوجيا بطريقة أو بأخرى، أي عن طريق العمل السياسي الذي تتبناه الدولة. و لتدعيم هذه الرؤية نستدل بما جاء به – عامل مهدي– حول هذه النقطة بالذات، فيرى:” أنّ أي نظام اجتماعي أو سياسي يبقى، ما دام بقي مقبولا، فإذا رفض طرحت قضية تغييره.فوجوده مرتبط بوجود نوع معين من الوعي الاجتماعي هو الملائم لوجوده، و بقاؤه رهن من ثمّ ببقاء هذا النوع من الوعي”[7].
و يضيف إلى هاته الرؤية تأكيد – غرامشي– على أهمية العمل السياسي في الحفاظ على وضع قائم أو تغييره. فهو يعطي العمل الفكري و السياسي أولوية على العامل الاقتصادي في حد ذاته، ليس كافيا و لا يصبح فاعلا إلاّ من خلال استثارته طريقة معينة في التفكير و العمل، و هذا ما عبر عنه بقوله:” يمكن استبعاد أن تكون الأزمات الاقتصادية بحد ذاتها سببا في أحداث أساسية، فهذه الأزمات يمكنها فقط أن تخلق التربة الأكثر صلاحية لنشر طرق معينة للتفكيـر، و لطرح و حل المسائل التي تتداخل في كل التطور الجاري في حياة الدولة”[8].
و يمكن أن نستدل هنا بأمثلة من الـواقع المعاش، فالاحتجاجات التي جرت في الجزائر خلال شهر جـانفي 2011، حقيقة كان ظاهرها مطالب اقتصادية تقضي بتخفيض أسعار المواد الغذائية الأولية، لكن باطنها كان شيئا مغايرا، فما تلك المطالب سوى الشـرارة التي أوقدت الشـارع، لكن الحقيقة هي تردي الأوضاع المعيشية للمـواطن، و انخفاض دخل الفرد، و البطالة المتفشية في أوسـاط الشباب و خاصة خريجـو الجامعات، و التهميش و المحسـوبية، و البيروقراطية، و هدر المال العام، و انتشار الفساد بكل صوره.
و نفس الشيء بالنسبة لتونس، فالثورة حقيقة قامت تضامنا مع الشاب البوعزيزي، لكن قامت الجماهير الثائرة على الظلم الممارس من قبل النظام الحاكم و العائلة المسيطرة، إضافة إلى رجال الأعمال المحسوبين على النظام الذي اضطهد تلك الشعوب و همّش كل الطبقات الاجتماعية و الأمر نفسه ينطبق على النظام المصري و ما جرى من أحداث، نتيجة مطالبة المجتمع بمختلف أطيافه الرئيس مبارك بالتنحي عن الحكم.
فسلطة الدولـة، مع وصفها بأنّها جهـازا إداريا سياسيا، وظيفته الأساسية، تتلخص بتثبيت الوضع القـائم، أو توجيهه باتجاه معين، تبدو كأنّهـا قائمة على القسر و الضبط و القـوة، إذ أنّ هذه السلطة، تعني القـوات المسلحة و الشرطة و الأمن و القضاء و السجون و المصالح الحكومية و مؤسسات الدولة الاقتصادية و وسائل الإعلام… . غيـر أنّها قبل ذلك كله، هي تتضمن سلطة الأفكـار، أي التأثير الذي يمارسه الفكر في عقول الناس فيقنع غالبيتهم بقبـول الوضع القائم أو رفضه و التوجه إلى وضع جديد. و المهم هنا، أنّه ليس من الضروري أن يقوم هذا الاقتناع على أسس صحيحة، فقد يكون خداعا، و لكنه على أي حال لابد أن يضمن موافقة الأغلبية، و دون هذه الموافقة، يصعب الاقتناع بأنّ الدولة تستطيع البقاء و الاستمـرار. و لا يمكن تصور دولة أو جهـاز حاكم يستطيع أن يحكم يسيطر رغما عن الجميع. و تم فاستخدام القوة و النزوع إلى العنف رهن بعدة معطيات أو ظروف معينة و هو ليس أقلية على حسـاب حقوق الأغلبية في المجتمع.
فالعنف في إطار التغير الاجتماعي راجع إلى عدة أسباب و عوامل مختلفة، لكن جلها تصب في نوعين من الأسباب. أسباب أساسية، و أسباب فاعلة[9]. فأمّا الأسبـاب الأساسية فهي تلك التي تتميز بكونها أكثر ديمومة و عمقا و يمكن أن تكون أرضية لأسباب أخرى كثيرة تتفرع منها. أمّا الأسباب الفاعلة فهي تلك التي يمكن أن تزهر في مرحلة معينة و تختفي في أخرى، و يمكن أن يختلف أثرها من وقت إلى آخر أو من مكان إلى آخر، و يمكن ردّها إلى غيرها أي أنّها منبثقة أو ناتجة عن غيرها التي هي أكثر عمقا و ديمومة، أي إلى الأسباب التي ندعوها أساسية. و هذا لا يعني على الإطلاق أنّها غير مهمة أو قليلة الفاعلية و التأثير، بل يعني فقط أنّها ناتجة عن غيرها أي إنّ تأثيرها و فاعليتها غالبا ما ترتبط بوجود أو غياب تلك التي نعدها أساسية رغم أنّها في مراحل معينة أو تجارب معينة تبدو و كأنّها الأكثر فـاعلية و أثرا. و ما الأمثلة التي سقناها قبلا إلاّ خير تبرير على ذلك.
في الجزائر و غيرها من الدول العربية، و في سياق الأوضاع الراهنة، تمت حملة اعتقالات و مضايقات بوليسية ضد المحتجين على الكثير من الأوضاع، كارتفاع أسعار المواد الغذائية، و تزايد معدلات البطالة، التي كانت سببا في اندلاع أعمال العنف. و لكن هذه الأسباب يمكن أن نردها إلى أسباب أخرى أكثر عمقا، فالأزمات السياسية أو حملة الاعتقالات أو تجاوز القانون…، لا يمكن حدوثها في الغالب إلاّ في حال غياب الديمقراطية. لذلك نعد غياب الديمقراطية هو السبب الأساسي، أمّا الأسباب الأخرى التي ذكرناها فهي أسباب مباشرة أو فاعلة غير أنّها ترتكز في الأساس على غياب الديمقـراطية. كذلك الأمر بالنسبة لارتفاع الأسعـار أو البطـالة، يمكن ردها إلى حـالة التخلف الاقتصـادي و الاجتماعي على الأغلب، و من ثم فهذا الأخير هو السبب الأساسي و الأكثر عمقا أكثر من غيره.
بمعنى أن كل تلك الاحتجاجات و المظـاهرات على تردي الأوضـاع الاجتماعية، و ارتفاع معدلات البطالة، و تهميش الطاقـات الشـابة، و غلاء الأسعـار، كلها متغيرات تـابعة للمتغير المستقل ألا و هو التخلف الاقتصـادي و الاجتماعي. و كل تلك المتغيرات التابعة من شأنها أن تهيأ الأرضية الصالحة و المشجعة لانتشار عدد كبير من الآفات الاجتماعية، من فساد و جريمة و عنف و استبداد. و النخب الحاكمة نتيجة التأخر الاقتصادي و سوء استخدام الموارد البشرية منها و الطبيعية تظهر بمظهر العاجز عن تقديم مبررات وجودها بطريقة عقلانية مقنعة، بحكم افتقارها للحلول الضرورية لذلك، و تعجز عن حل المشاكل الاجتماعية التي أشرنا إليها بحكم الضعف الوظيفي الذي يصيب جهازها الإداري و هذا ما يمهد لظهور حركات ثورية ضدها ، فهناك علاقة واضحة بين ظهور الحركات الثورية الجذرية و بين وعي عام بأنّ المجتمع يواجه مشاكل اجتماعية و اقتصادية و أوضاعا سلبية كثيرة و لكن دون كفاءة على حلها.
فالدولة حتى تفرض نفسها، و تجد الحلول اللازمة واقفة في وجه كل التحولات التي يردها أغلبية المحكومين، ليس عليها استعمال القوة و القسر كحل دائم و وحيد. بل لابد لها من تحقيق هيمنة فكرية تؤهلها للحصول على اقتناع شرائح واسعة من المجتمع و تأييدها. و ذلك لن يتأتى لها إلاّ من خلال أشخاص أعدوا لذلك. إذ أنّ المعرفة العلمية للوضع الاجتمـاعي و السيـاسي في أي من المجتمعات هي التي تتيح إمكانية العمل على تثبيت هذا الوضع و تبريره أو تغييره، و لكن هذه المعرفة ليست متاحة لكل الشرائح، لأنّها تقتضـي حدا معينا من المعرفة الوقـائع و التحولات الاجتماعية و التاريخية، فضلا عن بضاعة علمية صحيحة قادرة على إدراك انتظامها و قوانينها. و هذا لا يتوافر إلاّ لدى من أعدّ لهذا الغرض، أو من هو قادر عليه بحكم طبيعة عمله، أي المثقف، أو مجموعة من المثقفين القادرين على هذا العمل. و من ثمّ، عندما يقـوم المثقف بدوره الذي أعد له بالأصل، غالبـا ما يجسد وعي المجتمع و ضميره الحي، الذي يحاسب و ينظر، و يعبر عن المطامح الكبرى لعامة الشعب، أو الجماهير الواسعة و يؤثر فيها بواسطة الكلمة.
و في هذا المطاف يرى – محمد حسنين هيكل– أنّ المثقف:” شخص تسع همومه هموم الآخرين، لحد تتعدى اهتماماته مصالحه الشخصية. و هكذا فإنّه يشعر شعور آخرين و يعبر عنهم و يبلور مطامحهم و آمالهم. و ينبههم إلى حقوقهم التاريخية حتى و إن لم تكن واضحة أمامهم و بدرجة وضوحها نفسها أمامه، ففئات المثقفين هي التي تمهد للثورة”[10]. فالمثقف حتى يقوم بدوره على أكمل وجه، لابد من أن توفر له ظروف و متطلبات خاصة، و من أهمها حرية إبداء الرأي، و حرية الكتابة و النشر، و المشاركة في صنع القرار على كثير من المستويات، و دون هذا المستوى لا يستطيع هذا المثقف أن يحقق ما يصبو إليه من مكاسب و متطلبات، يعدّها حقا له، و بغير هذا لن يقدر على تحقيق ذاته في النهاية. و لذلك نجد نخبة المثقفين شديدي الحذر و الحساسية تجاه مسألة حرية الكلمة، و حقل حق المشاركة و حرية التعبير.
و لذلك فالمثقفـون الذين لا يتمكنون من الحصـول على العمل الذي يتناسب مع مـؤهلاتهم و مكـانتهم أو يضطرون إلى القيام بأعمال لم يعدّوا لها بالأصل، يشكلون في الغالب، شريحة ناقمة، يمكن لأية جهة أن تستغلها في سبيل تدمير النظام القائم عن طريق الثورة أو حتى عن طريق العنف الفردي الذي يوصف أحيانا بالإرهاب. و إذا لم تتمكن الدولة أو النخب الحاكمة من استيعاب المثقفين و تجنيدهم بما يخدمها، و من تحقيق هيمنة ثقافية، و ما يترتب عليها من إقناع شرائح واسعة و مختلفة من المجتمع بمشروعية الوضع القائم، تميل عملية التغير الاجتماعي باتجاه العنف.
إذن و من خلال ما تقدم، فالدافع الكامن وراء نزوح سيرورة عملية التغير الاجتمـاعي باتجاه أسـاليب العنف و القوة كشكل أساسي للفعل الاجتماعي، راجع إلى عدة أسباب أهمها غياب الديمقراطية الفعلية على الصعيد السيـاسي و الاجتمـاعي في الدولة، و نعني بالديمقراطية الفعلية، ليس فقط قدرة الشعب على إبداء ما يريد قـوله، بل القدرة على القول، و إتاحة القول موضع التنفيذ الفعلي، و ما يرتبط بهذا الأمر من حقوق شخصية و مدنية و حرية فكرية.
إضافة إلى حالة التخلف و ما يترتب عليها من مشاكل و آفات اجتماعية، منها تدني المستوى المعيشي و غلاء الأسعار، و سوء استخدام الموارد و ضعف الإمكانيات و ما ينجم عن ذلك من فساد مالي و إداري، و ارتفاع معدلات البطالة، و غياب العدالـة الاجتماعية. زد على ذلك طبيعة الدور الذي تقـوم به النخبة المثقفة في الحيـاة الاجتمـاعية و السياسية في هذه المجتمعات من العالم العربي، و مدى حضورهم و اتساع الحيز المعطى لهم للمشاركة في صنع القرار السياسي و علاقتهم بالسلطة.
تلكم هي إذن أهم الأسباب الأساسية في مسألة العنف الاجتماعي في إطار التغير الاجتماعي، و هي ليست الوحيدة أو أنّها الأكثر فعّالية، بشكل مطلق، و في جميع الأحوال، بل تعني فقط، أنّها الأكثر عمقا و ديمومة بشكل عام، و تمثل أرضية أو أساسا لأسباب أخرى قد تكون شديدة الفعّالية في ظروف معينة، في المجتمعات العربية، و لكنها لا تتمتع بالعمق و الثبات نفسه الذي تتمتع به الأسباب الأساسية هذه.
المراجــع:
[1] – محمد الدقس، التغير الاجتماعي بين النظرية و التطبيق، دار مجدلاوي للنشر و التوزيع، الأردن، سنة 1987، ص19.
[2] – عبد الله محمد عبد الرحمن، علم الاجتماع النشأة و التطور، دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، سنة 2005، ص304.
[3] – عبد الإله بلقزيز، محررا: الإصلاح السياسي و الاقتصادي و التعليمي، في: الاجتماع السياسي و التنمية و الاقتصاد و فقه الإصلاح- مدخل لتكوين طالب العلم في عصر العولمة، الشبكة العربية للأبحاث و النشر، سنة 2010، ص198.
[4] – فرانتز فانون، معذبو الأرض، ترجمة: سامي الدروبي و جمال الأتاسي، الطبعة 2، دار الطليعة، بيروت، سنة 2010، ص 139.
[5] – إيفرز تيلمان، السلطة البرجوازية في العالم الثالث: نظرية الدولة في التشكيلات الاجتماعية المتأخرة اقتصاديا، ترجمة: ميشيل كيلو، الطبعة1، دمشق، سنة 1986، ص 23.
[6] – جاك ووديز، نظريات حديثة حول الثورة، ترجمة: محمد مستجير مصطفى، الطبعة2، دار الفارابي، بيروت، سنة 1986،ص23.
[7] – عامل مهدي، في الدولة الطائفية، الطبعة2، دار الفارابي، بيروت، سنة 1986، ص37.
[8] – غرامشي أنطونيو، فكر غرامشي: مختارات، تحسين الشيخ علي، الطبعة1، دار الفارابي، بيروت، سنة 1972، ص152.
[9] – إبراهيم سليمان الخضور، مقال: التغير الاجتماعي بين القوة و السياسة، دراسة في أسباب العنف الاجتماعي (روسيا- الصين-كوبا- اليابان) نموذجا، مجلة جامعة دمشق، المجلد22، العدد(1+2)، سنة 2006، ص317.
[10] – محمد حسنين هيكل، السلام المستحيل و الديمقراطية الغائبة: رسائل إلى صديق هناك، الطبعة8، شركة المطبوعات للنشر و التوزيع، بيروت، سنة2001، ص284 ص285.
اترك رد