التأصيل القرآني للاستكبار والاستضعاف

في سياق الربيع العربي:

ضرورة التأصيل القرآني لمفهوم الاستكبار والاستضعاف


بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي الأمين

إن أولى ما تجنح إلى تحصيله الهمم العالية وأحق ما وجب صرف الجهود لدركه والأخذ بعنانه ما كان موصلا للتقرب به إلى الباري سبحانه وطلب الزلفى منه, وما كان فيه خلاص الأمة و رشدها وذلك العلم النافع الذي يهدي إلى تقوى الله تعالى ويرسم معالم السلوك إليه سبحانه. ولا جدال أن أشرف العلوم وأولاها بالدرس تبينا وبيانا ما كانت قضاياه مستوحاة من كتاب الله العزيز. ولا سبيل إلى فهم كلام الله والتدبر في آياته بله الاستنباط منه للإسهام في إصلاح حال الأمة به إلا بفقه مصطلحاته التي هي مفاتيحه التي لا تفتح أبوابه إلا بها.

ورحم الله الراغب الأصفهاني الذي اعتنى بتحقيق الألفاظ المفردة في القرآن، فكان في ذلك رائد زمانه، إذ جمع بين اللفظ اللغوي والمعنى القرآني في نسق علمي محكم. يقول رحمه الله: “… وذكرت أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن, العلوم اللفظية, ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه, كتحصيل اللبن في كونه أول المعاون في بناء ما يريد أن يبينه”(1).

فالاستعمال القرآني للألفاظ خصها بمدلول خاص, وأعطاها أبعادا أكثر عمقا وأوسع دلالة تجاوزت بها ما وضع لها في لسان العرب.

لذلك أضحى تخصيص المصطلح القرآني بالبحث والدراسة أولى الأولويات وضرورة الضرورات لبث وعي قرآني جديد بالمفاهيم التي يشتمل عليها كتاب الله المجيد. ذلك أن هذا المصطلح لا يخلو من بعدين أساسيين: بعد معرفي وبعد نفسي؛ “أما البعد المعرفي فهو يتمثل فيما يحمله المصطلح من دلالات معنوية ترتقي من مستوى المعاني الجزئية لتكون قضايا كلية كبرى ومبادئ عامة, بل وأصولا مذهبية أحيانا… فكل مصطلح قرآني قد وضع إذن عنوانا لقضية كبرى وليس عنوانا لمعنى جزئي. وأما البعد النفسي فهو يتمثل فيما يحمله المصطلح من طاقة تأثير على النفوس من شأنها أن تعبئها لاستيعاب المعاني التي وضعت لها استيعابا إيمانيا عميقا وأن تستنفرها من أجل تطبيقها في الواقع, وذلك من خلال الصياغة التي صيغ بها المصطلح ومن خلال البناء الدلالي الذي بني عليه”(2).

من هذا المنطلق ومن واقع ما تعيشه الأمة من مخاض تأتي أهمية دراسة مفهوم الاستكبار والاستضعاف في القرآن الكريم, فهذا المفهوم يعد من أهم المفاهيم القرآنية في مجال الاجتماع الإنساني التي تبرز الرؤية الإسلامية في تفسير المجتمع والتاريخ.

إن لدى كل مزيج مريج من الفلسفات الحديثة والمعاصرة نسقا واضحا لتحليل الواقع ونقده وتحليل التاريخ ورسم مسار ممكن للمستقبل ونحن نبقى في عموميات مطالبنا الراقية نعبر عنها بعواطفنا الجياشة الصادقة المشتاقة لغد الإسلام الأغر.

نريد أن يكون التفاتنا لمعاني الاستكبار والاستضعاف فقها واضحا وأن يكون تعلقنا بهذه المعاني نبراسا يضيء لنا تاريخ المسلمين, ودليلا لفرز أصناف المجتمع المسلم المعاصر وخطة لبناء مستقبل الأمة.

لا يكفي أن نقول (لولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (3) لكن ينبغي أن نعطي لهذه الآية الكريمة وأخواتها الأبعاد الفلسفية والفكرية والتاريخية ونحلل التاريخ على ضوء هذا المحور الصراعي بين المستكبرين والمستضعفين على مر الأجيال في التاريخ.

الله عز وجل قص قصص من كان قبلنا باعتبار أنه كان هنالك في وجه كل نبي مستكبرون ومع كل نبي مستضعفون, القرآن الكريم لا يتحدث عندما يقص علينا نبأ من كان قبلنا إلا عن صراع المستضعفين بقيادة الرسل والأنبياء والدعاة إلى الله مع المستكبرين من أمثال فرعون وقارون وصناديد قريش.

والمجال الذي تتصرف فيه النصوص القرآنية في تحليلها لما وقع لمن كان قبلنا هو أوسع وأسمى مغزى من أي تحليل مادي محدود ومقيد, يرى أن الأفراد في المجتمع ينقسمون إلى أفراد مستثمرين مالكين وأفراد محرومين مستغلين, وتنقسم سائر الشـؤون الاجتماعية بنفس التقسيم فيكون داخل المجتمع نوعان من كل منها يطابق كل منهما التفكير الخاص لإحدى الفئتين الاقتصاديتين. ذلك أن المفهوم المزدوج الاستكبار والاستضعاف يجمع زيادة على التفاوت الاقتصادي وعلى الظلم الاجتماعي اللذين يتضمنهما المصطلحان البعد العقدي. فالمستكبرون والمستضعفون كما يقص الله عز وجل في كتابه العزيز علينا نبأهم, نزاعهم ليس على الأرزاق فقط بل يتعداه إلى نزاع مركب كلي شمولي في معاني استرذال فئة لفئة, واحتقار فئة لفئة, واستعلاء فئة على فئة, ومنع فئة المستكبرين فئة المستضعفين أن يعبدوا الله, لأن العبودية لله وحده هي التي ترفع الظلم وتعطي معنى حقيقيا للحرية.

فليس الاستكبار صيغة للتكبر ونوعا من الشموخ يوصف به الفرد الأناني المستعلي فقط إنما هو وجود تكتل اجتماعي, سياسي, واقتصادي يطأ المستضعفين, ويعلو في الأرض بغير الحق, ويفسد فيها ويصد عن سبيل الله, ذلك السبيل الذي لايقر بحال أن يعلو أحد من خلق الله على أحد, أو يظلم أحد أحدا, أو يحكم أحد بغير ما أنزل الله, أو تستأثر فئة بالمال والسلطان.

الاستكبار صد عن سبيل الله قبل كل شيء, صد يستند إلى البطش الذي يسلحه المال المنهوب والسلطان المستبد به من غير رضى المستضعفين.

جماع القول أنه لا يصح استعمال المصطلح القرآني التقابلي: استكبار-استضعاف إلا إذا كان الاضطهاد في الرزق وفي المقومات الأرضية مقترنا بالاضطهاد في العقيدة.

من هنا أضحى السعي إلى الكشف عن مفهوم الاستكبار والاستضعاف في القرآن من الأهمية بمكان لفهم الذات و تأصيل خطاب الذات في أفق إعادة بناء الذات. و في زماننا أصبحت الحاجة ملحة إلى تأصيل مفاهيمنا حول الإنسان والمجتمع والتاريخ في ظل هيمنة المفاهيم الواردة والدخلية.ولا يمكن أن نقرأ ثراتنا إلا بأعيننا ووحينا.

والله ولي التوفيق وهو يهدي إلى سواء السبيل.

الهوامش:


* الكاتب: باحث في الفكر الإسلامي.

(1)- “معجم مفردات القرآن” ص: 8

(2)- “مفهوم الشهادة على الناس في القرآن الكريم وأبعاده الحضارية” للدكتور عبد المجيد النجار.ص19

(3)- البقرة: 249.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد