المقاصد الاجتماعية للتشريع: مقصد التعارف … الخواتري محمد

الخواتري محمد: باحث بسلك الماستر ـ الحوار الديني والحضاري ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة السلطان مولاي سليمان

وضع الشارع الحكيم التكاليف ابتداءا قصد تكريم الإنسان بما هو فرد له استقلال وخصوصية ، وبما هو عضو في تركيبة مجتمعية الغاية من خلقه عمارة الأرض والاستخلاف فيها.
إن الشريعة الإسلامية انطلاقا من شموليتها واستيعابها لكل النوازل قد عالجت في طياتها قضايا الفرد والمجتمع دون تفريط ولا إفراط ، وسبقت بذلك النظريات العلمية المعاصرة التي اهتمت بدراسة الاجتماع البشري وظواهره و المشاكل التي تواجه المجتمعات وسبل معالجتها.
كانت المقاصد الاجتماعية حاضرة في توجيهات الوحي وكلياته العامة بالرغم من أن علماء المسلمين قد تعاملوا مع النصوص من حيث كونها موجهة للأفراد ونادرا ما خوطبت جماعة المسلمين بتكليف عام.
من خلال هذا المقال نحاول الوقوف عند مقصد مهم من مقاصد الإسلام الاجتماعية والذي يشكل دعامة في التقارب والتحاب بين جماعة المسلمين وتوطيد الصلة بينهم وهو مقصد التعارف.
التعارف في الإسلام من المقاصد الكلية الجامعة التي دعا لها القرآن الكريم وحثت عليها السنة النبوية لما لها من أثر في تقوية النسيج المجتمعي وزيادة الألفة بين أفراد المجتمع ، واختلال هذا المقصد أو غيابه يؤدي بالضرورة إلى الفرقة والتناكر والتباغض وبذلك إلى التناحر والتقاتل.
في القرآن الكريم نجد أن الله حدد مقصد الخلق في التعارف، قال تعالى:” يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” .
قال السيد قطب في تفسير هذه الآية:” يا أيها الناس والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكر وأنثى ، وهو يطلعكم على جعلكم شعوبا وقبائل ، إنها ليست التناحر والتخاصم ، إنما هي التعارف ، وأما اختلاف الألسنة والألوان واختلاف الطبائع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعارف للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات”
وفي الحديث الشريف: ” الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وماتناكر منها اختلف” ، بل وقد حذر الرسول صل الله عليه وسلم وأخبرنا أن من علامات الساعة فشو التناكر بين الناس ، والتناكر: التجاهل وهو عكس التعارف ، فقد سأل النبي صل الله عليه وسلم عن الساعة فذكر من أشراطها:” ويُلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد أن يعرف أحدا”
وقد جعلت الشريعة من مقاصد بعض العبادات تحقيق التعارف وتوطيده ومن ذلك:
 تحقيق مقصد التعارف من خلال فريضة الحج:
فالحج مناسبة لاجتماع المسلمين على اختلاف أوطانهم ولغاتهم وألوانهم ، يجمعهم همّ واحد وهو أداء المناسك والتقرب إلى الله بأنواع الطاعات، هذا الاجتماع القصد منه أن يتعارف أفراد الأمة ويتعاطفون فيما بينهم ويتبادلون المنافع والخبرات والنصح والإرشاد ، ويتم التعرف على أحوال المسلمين في كل مكان ويتم تدارس حاجاتهم وسبل التضامن والتعاون على البر والتقوى.
 تحقيق مقصد التعارف من خلال الجُمع والجماعات:
كانت المساجد حلقة الاتصال بين المسلمين ، به يتم التعارف والتآلف ومنه تعرف أحوال المجتمع وفيه كانت تقضى الخدمات الاجتماعية .
” وقد شرع الله تعالى الاجتماع للصلوات الخمس والجمعة والعيدين لما في الاجتماع من حصول التنافس في الخيرات ، والتنشط عليها والتعلم والتعليم لأحكامها … وكذلك لما يحصل في الاجتماع للصلوات في المساجد من تعارف وتواصل بين المسلمين وتتوطد معرفة الجيران وأهل الحي الواحد بإتيانهم إلى الصلاة في المساجد.”
ثم إن للتعارف ثمرات عظيمة منها:
• التآلف والتحاب
فالتآلف والتحاب ثمرتين مباشرتين من ثمار التعارف ففي الحديث المذكور آنفا عن أبي هريرة رضي الله عن قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم:” الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف” ، وفي حديث آخر عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صل عليه وسلم:” المؤمن مألفة ولا خير فيمن لا يألف ولا يألف”
• التعاون والتكامل.
مما يروم مقصد التعارف تحقيق التعاون والتكامل، فبعد التعارف يتكامل الناس ويتعاونون من أجل تحقيق أهدافهم المشتركة إن على مستوى الأفراد كآحاد أو على مستوى الدولة والمجتمع تحقيقا للمصلحة العامة
والشريعة الإسلامية لأجل تحقيق مقصد التعارف وتفعيله داخل النسيج المجتمعي قد وضعت عدة آليات منها:
• إفشاء السلام
التحية باب التعارف ومدخله الأمثل ، ولا تحية أروع من السلام ، وقد حث الإسلام على إفشاء السلام وإشاعته بين الناس .
فقد كان أول دعوة أشاعها النبي صل الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة هي إفشاء السلام فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صل الله عليه وسلم المدينة استشرفه الناس فقالو: قدم رسول الله ، قال: فخرجت فيمن خرج فلما رأيت وجهه عرفت أنّ وجهه ليس بوجه كذاب. فكان أول ما سمعته يقول: ” أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ” لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ”
• صلة الأرحام والقرابة
إن ذوي القربى والرحم هم أولى الناس بتعزيز روابط التعارف بهم ، فإنهم أولى الناس وأقربهم والتعرف إليهم والتزلف لهم من آكد الواجبات خاصة الوالدين لما لهم من حقوق حتى ولو كان على غير دين الإسلام ، قال الله عز وجل:” وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبها في الدنيا معروفا”
ففي الحديث عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال:” تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإن صلة الرحم محبة في الأهل ، مثراة في المال ، منسأة في الأثر”
• حسن الجوار:
من الوسائل المساعدة على تفعيل مقصد التعارف بين أفراد المجتمع حسن الجوار، فقد حرص الإسلام أشد الحرص على تعظيم شأن الجار وتوقير ، فنظرا لكثرة الاحتكاك مع الجيران والتعامل معهم أوصى الله تعالى خيرا بجميع أنواع الجيران ، ذوي القربى منهم والغريب القريب والبعيد ، المسلم وغير المسلم، قال تعالى:” والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ”
وفي الحديث:” والله لا يؤمن والله يؤمن والله لا يؤمن ، قيل من يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يؤمن جاره بوائقه”.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد