الوقتُ استثمارُ أُولِى الألبَاب

د . محمد مبارك الشاذلى البندارى استاذ مساعد فى جامعتي الأزهر وأم القرى OMBAREKO@YAHOO.COM
د . محمد مبارك الشاذلى البندارى
استاذ مساعد فى جامعتي الأزهر وأم القرى
[email protected]

كلّنا يفكر في الاستثمار ؛ لأنَّ فيه زيادة ونماء ، فلماذا لا يكون الاستثمار في الوقت ؟ .

هب أنّ هناك مصرفًا يضع في حسابكَ دفعة يوميَّة بعدد ثواني ذلك اليوم 86400 دولارا، بيد أنَّ المصرف يسحب منه كلّ المتبقي في نهايةِ تعاملات اليوم ، ولم تستطع الاستفادة منه .

ماذا تفعل عندئذٍ ؟ بالطبع ستسحب كل مليم في حسابك .

لا شكَّ أن كلَّ واحدٍ منَّا لديه مثل هذا المصرف ، إنَّه ” الوقـــــــــــــــت ” يُعطي كل واحدٍ منَّا مع كلِّ إشراقةِ صباحٍ 86400ثانية ، وفى نهايةِ ذلكَ اليوم تَخسر كلّ ما لم تستطع تَسخيره في عملٍ مثمرٍ بنَّاءٍ .

وإذا أردت أن تعرف قيمة ثانية ، فاسأل شخصًا نجا لتوّه من حادث سيَّارة !

وإذا أردتَ أن تعرف قيمة فيمتو ثانية ، فاسأل شخصًا كسب ميدالية فضية في الألعاب الأولمبية !

إذن ليس في الوجودِ أغلَى من الوقتِ ، وإنَّ الأوقات لتتفاوتُ في يُمنها وبركتها ، وحسن حظّها وسعادةِ جِدّها ، فساعةٌ أعظم من سَاعة ، ويومٌ أفضلُ عند اللهِ من يومٍ ، وشهرٌ أكرمُ من شهرٍ :

هو الجَدُّ حتَّى تفُلُ العيْنُ أختَها … وحتَّى يكونُ اليومُ لليومِ سيِّدا

نعم هو الجَدُّ أى الحظّ .

ومن المؤسفِ أنّ بعض النّاسِ لا يُبَالون بإضاعةِ أوقاتِهم سُدًى وَيضُمُّون إلى هذهِ الجريمةِ السطوَ على أوقاتِ غيرهم لإراقتِها على التُّراب ! وإنَّهم ليقتَحِمُون على العلماءِ خلواتِهم الجَادّة ، ليشغلُوهم بالشؤونِ التَّافهة ! .

فِي حين لو فقد أحدهم جَوهرة ، لحزن عليها حزنًا شديدًا ، بل لو ضاع منه جنيهًا واحدًا لساءه ، فكيف يفرّط في سَاعاتِه وأوقاته ، فكلّ نَفَسٍ ينقص بهِ جزء من الإنسَانِ ، والعمر كلّه قَصير ، والباقى منهُ هو اليَسير .

ورحم الله ابن الجوزى ت 597هــــ إذْ يقولُ :

والوقتُ أنفَسُ ما عُنِيتَ بحفظهِ …وأَراهُ سهلًا مَا عليكَ يضيعُ

وقد حثَّ الإسلامُ على استغلالِ الوقتِ بأفضلِ الوسائلِ ، فحثَّ على مداومةِ العملِ وإنْ كان قليلًا ، وذلكَ أنَّ استدامةَ العملِ القليلِ مَع اطِّرادِ الزَّمن وسَيْرِهِ المَوصُول ، يَجعلُ منَ التَّافهِ الضَّئيلِ زِنَةَ الجِبالِ من حيثُ لا يَشعرُ المَرْء .

وَكرهَ الكثير المنقَطِع ؛ لأنَّه يهيج بالإنسانِ رَغبة سَريعة ، فتدفعهُ إلى الإكثارِ والإسرافِ ،

ثمَّ تغلبُ عليه السآمة ُ فينقطع ، فهذا مَا كَرههُ الإسلام .

ومنْ أعظمِ الصُّور التى نَظر الإسلامُ فيها إلى قيمةِ الوقتِ الحثّ على التبكيرِ ، ورغبته أنْ يبدأَ المسلمُ أعمالَ يومهِ نشِيطًا طيِّبَ النفسِ ، فإنَّ الحرصَ على الانتفاعِ من أولِ اليومِ يستتبعُ الرَّغبة القويَّةَ في أَلَّا يَضِيع سائرُهُ سُدًى .

ونظامُ الحياةِ الإسلاميَّة يجعلُ ابتداءَ اليومِ من الفجرِ ، ويفترضُ اليقظَةَ الكاملةَ قبلَ طلوعِ الشمسِ ، ويكرهُ السَّهر الذى يؤخِّرُ صلاَةَ الصُّبحِ عن وَقتِها المسنُون ، وفى الحَدِيثِ الذى رواهُ أبو داود : ” اللهمَّ بارِكْ لأُمَّتِى في بكُورهَا ” .

ومن كلمات الحسن البصرى – رحمه الله – ت 110هـــ : ” ما من يومٍ يَنْشَقُّ فجرهُ ، إلا نادَى منَادٍ من قِبَلِ الحقِّ : يا ابن آدم ، أَنَا خلقٌ جديد ، وعلَى عملِكَ شَهيد ، فتزوَّد منِّى بعملٍ صَالح ، فإِنِّى لا أعُودُ إلى يومِ القيَامةِ ” .

وإنَّه من الغفلةِ والحرمانِ أن يأْلفَ بعضُ الناسِ خاصَّةً الشباب النومَ إلى الضُّحى ! فتطْلُعَ عليهم الشمسُ وهُم يغُطّون ! على حِينِ تَطلُعُ علَى آخرين وهُم منهمكُونَ في وسائِل مَعاشهم ومصالحِ معادهم ، وإِعمارِ بلدِهم .

روى البيهقىّ عن فاطمة بن محمد – عليه الصلاة والسلام – قالتْ : – مرَّ بى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا مضطجعةٌ مُتَصَبِّحَة ( أى نائمة أوّل النهار ) ، فحرَّكنى برجلهِ ، ثمَّ قالَ : ” يا بُنيَّة ، قُـــــــومِى اشْهَدِى رِزْقَ رَبِّك ولا تكُونِى منَ الغَافلين ، فإنَّ الله يُقسِمُ أَرزاقَ النَّاسِ ما بينَ طلُوع الفجرِ إلى طلُوع الشمسِ ” .

إذ إن الجادّين والكُسَالى يتميَّزونَ في هذا الوقتِ ، فيُعطَى كلُّ امرئٍ حسْبَ استعدادهِ من خيرِ الدُّنيا والآخِرة .

قال بشار بن برد ت 168هــــ :

بَكّرا صاحبى قَبل الهَجِير … إنَّ ذاك النَّجَاح فى التَّبكِير

ولا يقتصرُ الأمر على التبكيرِ فالإسلام يَنظرُ إلى قيمةِ الوقتِ في كثيرٍ من أوامرهِ ونواهيهِ ، فعندما جعل الإعراضَ عن اللغوِ من معالمِ الإيمانِ ، كانَ حكيمًا في مُحاربةِ طوائفِ المتبطّلين ، الذين يُنادى بعضُهم بعضًا : تعالَ نقتلُ الوقتَ بشئٍ من التسليَّةِ !!! ويجلسُون على المقاهى الليل كله ، ومَا درَى الحمقَى أنَّ هذا لَعِبٌ بالعمر ، وأنَّ قتلَ الوقتِ على هذا النَّحو إهلاكٌ للفردِ ، وتدميرٌ مجتمعىّ ، وإِضَاعةٌ للاقتصادِ الوطنىّ .

فمن نتائِج ضَياع الوقت ضَياع كثيرٍ من منابعِ الثّرَوة القوميّة ، كان يمكن أن تستغلّ لولا إهمال الزَّمان والجهلُ باستعماله ، فكم من الأراضى في سيناء الحبيبة كان يُمكن أن تستغلّ ، ومن المصانع يُمكن أن تَعمل ، ومنَ المؤسساتِ المختلفةِ يمكن أن تَنشأ وتُدار بِجزءٍ من الزَّمانِ الفارغِ ، والحمدُ لله اتجهتْ أعينُنا إلى كلّ خيرات بلدنا ، ولا ينقصنَا إلا استثمار الوقت في التَّعمير والبِناء .

وقد حفرت تفريعة قناة السويس في عام ، كما حفر خليج المؤمنين ليربط النيل بالبحر الأحمر ( القلزم ) في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – في عام – أيضًا – ،

ومصرنا غنية بأبنائها في شَتَّى فروع العلمِ والمعارفِ والفنونِ ، تَعتمدُ على كلّ فيما تَخصَّص فيه من نَواحى الحيَاة .

فالعاقلُ الموفَّقُ من يَملأُ كلَّ لحظةٍ وثانية من حَاضرِ عمره ووقته بفائدةٍ أو عملٍ صالحٍ ، وقد كَره سيدنا عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – التَّعطّلَ والبطَالةَ وإضاعةَ الزَّمن سُدًى ، فقال : إنِّى أَكرهُ أنْ أرَى أحدكم سَبَهللًا – أى فارغًا – لا في عمل دُنيَا ولا في عمل آخرة .

ومن الحِكَم التى يجبُ أَلَّا تغيب عن بَالِنَا :” الوقتُ كالسَّيفِ إِن لم تقطَعهُ قطَعَك ” ، ” الأعمالُ أَكثرُ منَ الأَوقاتِ ” ، ” الزَّمنُ لا يقفُ مُحَايدًا ، فهُو إمَّا صديقٌ ودود ، أَو عدوٌّ لَدُود ” ،

إذا فاتنِى يوم ولم أصطنعْ يدًا ……… ولم أَكتسِبْ علمًا فمَا ذاكَ من عُمرِى

إنَّ الوقتَ سيفٌ قاطعٌ وبرقٌ لامع ، ومن الحزمِ انتهازُ الفرصة ، وتركُ التَّوانِى فيما يُخاف عليه الفوت .


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

4 ردود على “الوقتُ استثمارُ أُولِى الألبَاب”

  1. الصورة الرمزية لـ فريد
    فريد

    بارك الله فيك وجزاك الله خيرا يادكتور على هذا الموضوع المهم.

  2. الصورة الرمزية لـ نعيم موسى
    نعيم موسى

    بارك الله فيك د . محمد مبارك البندارى
    على هذا المقال الرائع، وأنا حقيقة أتابع مقالاتك وأقرأها؛ لأنها مفيدة، وربما عملت لها مشاركة على توتير والفيس بوك؛ ليستفيد منها أكبر قدر ممكن.
    لكن ما أردت التنبيه عليه التأكد من صحة الأحاديث، ففي الصحيح غنية عنها.
    وذلك أن حديث فاطمة عند البيهقي قد رواه في شعب الإيمان وضعفه بنفسه.
    وبارك الله فيكم وجزاكم خيرًا

  3. الصورة الرمزية لـ العبدلله
    العبدلله

    نتمنى أن نوفق لحفظ أوقاتنا قبل أن نكون في قبورنا

  4. الصورة الرمزية لـ محمد مبارك الشاذلى البندارى
    محمد مبارك الشاذلى البندارى

    شكرا لمروركم العطر …
    نسأل الله تعالى الإخلاص
    ونسألكم الدعاء
    وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: