سوسيولوجيا الثقافة -1-

سوسيولوجيا الثقافة للطاهر لبيب -1-

توطئة عامة:

يقع كتاب “سوسيولوجيا الثقافة” لمؤلفه عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب في أربع وستين (64) صفحة من الحجم المتوسط (21 x 13,5 سنتم) مرقونةً بخط دقيق جداً.

وكانت أول طبعة لـ”سوسيولوجيا الثقافة” قد صدرت سنة 1978، تناولَتْه منذ ذلك التاريخ طبعاتٌ مختلفة في القاهرة ودمشق وعمان وتونس والمغرب. والطبعة التي ننجز منها هذا التقديم مغربية، أصدرتها سنة 2006 مطبعة فضالة بالمحمدية.

معروف عن الكاتب الذي درس في فرنسا اشتغالُه بل تخصُّصُه في المجال السوسيولوجي، وتأسيسُه في تونس عام 1985، مع عدد من الباحثين العرب، الجمعيةَ العربية لعلم الاجتماع، والتي ترأسها لسنوات.

الكتاب غني بالنصوص ذات الصلة بالموضوع، وحافل بأسماء مؤلفيها، وأعلامِ المدارس المتخصصة في هذا الشأن. ويبدو بلا ريب أن الكاتب يسعى من خلال هذا الحشد النصي الغزير المكثف إلى تعريف القارئ العربي على أكبر قدر ممكن من المشتغلين في حقل سوسيولوجيا الثقافة، ووضْعِه على خطى مواكبة الأسس الكبرى والخطوط العريضة والكثير من تفاصيل هذا العلم الغزيرة منتجاته.

يتكون الكتاب من مقدمة وخاتمة وثلاث عشرة (13) فقرة، مجموع سطورها عدّاً هو: 1434 سطراً. أقصرُها: فقرة “نظرية البنى الفوقية” (25 سطراً)، وأطولها: فقرة “تاريخ الفكر واستقلاليته النسبية” (275 سطراً).

هذا التقديم ليس قراءة في الكتاب، بل هو بالتلخيص أشبه، تذكيراً منا بالجهد المؤسِّس الذي بذله هذا المؤلف المرموق على صعيد السوسيولوجيا في العالم العربي عموماً، ورغبة منا في وضع زبدة الآراء المتخصصة الدقيقة المعروضة في الكتاب بين يدي المطلع المهتم، وحرصاً منا أخيراً على تعميم الفائدة ونشرها في المواقع الإعلامية ذات الصلة. لذا “يمسح” هذا التقديم فقرات الكتاب كلَّها، محافظاً على أصول صيغ عناوينها.

تمهيد:

حدد التمهيد الذي يحتوي عدّاً على 216 كلمة، و21 سطراً، والذي لم يتجاوز الصفحة الواحدة، موضوعَ الكتاب، ومنهجيتَه، وبعض تداعيات هذه المنهجية.

أ- موضوع الكتاب:

الكتاب عبارة عن: «مساهَمة متطورة في نظرية البنى الفوقية»[i].

ب- منهجية الكتاب:

اتساع المجال السوسيو ثقافي مفهومياً ومنهجياً وتطبيقياً، أملى على الكاتب اختياراً أولياً هو تحديد الإطار النظري العام الذي تندرج فيه الظواهر الثقافية في علاقتها بالمعطيات الاجتماعية، على الرغم من أن طبيعة الموضوع تستدعي وضعَ هذه المساهمة في سياق عام لمجال السوسيولوجيا.

ج- من تداعيات المنهجية:

طريقة تعريف الكاتب لسوسيولوجية الثقافة ستؤدي إلى:

أولاً: تناول العلاقة بين البنية التحتية والبنى الفوقية باعتبار هذه العلاقة منطلقاً نظرياً للعمل السوسيو ثقافي، وذلك عبر إفراد مكانة خاصة لدور الفئات المثقفة التي تقوم بالربط العضوي بين البنيتين في لحظة تاريخية معينة.

ثانياً: غض الطرف عن أنماط الإنتاج الفكري وأشكال العلاقة القائمة بينهما وبين المعطيات الاجتماعية، لأنها تتطلب عرضاً تصنيفياً يتجاوز حدود الكتاب. لذا يتم الاهتمام بالثقافة “المثقفة” في الكتاب دون الثقافة الجماهيرية، ولكن من منظور لا يفصل بين قطاعات الثقافة أو بين مستوياتها المختلفة.

1- متاهات الكلمة:

مفهوم الثقافة الذي أصبح ضحية النجاح الذي حظي به، من المفاهيم التي تجمع جمعاً فريداً بين التداول والغموض والتلون، حتى صار الاتفاقُ على تعريف له بالمستحيل أشبهَ، في ظل وجود ما لا يقل عن 160 تعريفاً له، وفق إحصاء ببلغرافي لتعريفات مصطلح الثقافة أجراه الباحثان الأمريكيان كروبير وكلوكهون سنة 1952. فكم عساه يكون عدد التعريفات بعد ما يناهز ستة عقود؟ هنا يتبنى الكاتب وجهة نظر المفكر الفرنسي إدغار موران الذي يعتبر الثقافة «كلمة فخ، خاوية، منومة، ملغمة، خائنة»[ii].

المخرج الذي اختاره الكاتب، إزاء هذه الصعوبة في هذا التحديد المفهومي، هو الرصد الكرنولوجي المقتضَب لتطور معنى الكلمة، حيث كانت تعني الطقوسَ الدينيةَ في القرون الوسطى، وفلاحةَ الأرض في القرن السابع عشر، والتكوينَ الفكري عموماً والتقدم الفكري للشخص خصوصاً وما يتطلبه ذلك من عمل وما ينتج عنه من تطبيقات في القرن الثامن عشر. ولم تَكتسب مضموناً جماعياً إلا مع انتقالها إلى ألمانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كمقابلٍ لكلمة حضارة التي كانت تطلق على الجانب المادي في حياة الأشخاص والمجتمعات، وموازاةً مع اعتبار درجات التقدم الفكري في هذا البلد معياراً أساسياً للتمييز بين مراحل تطور تاريخ البشرية.

2- مقابلة أولى – الثقافة والحضارة:

صحيح أن الاستعمال الفرنسي لكلمة الثقافة يشمل في آن معاً الأبعادَ الفكرية والماديةَ للتقدم، ولكن ما يميز التصور الألماني إجمالاً، هو طغيان النزعة إلى تمييز لا يعبَّر عنه دائماً بنفس الحدة في التآليف الألمانية بين الثقافة بمعناها الروحي والفكري والعلمي، وبين الحضارة بمعناها المادي، تمييزٍ يكاد يكون انعكاساً لما ألِفَتْه عبقريةُ هذا الفكر من فصل بين الروح والطبيعة.

هنا يصَدِّر المؤلف حديثَه عن المقابلة بين الثقافة والحضارة بأكثر المقابلات استعمالاً، مقابلةِ فيبر، مبتدِعِ صيغة “سوسيولوجية الثقافة”، بين الحضارة بما هي جملة المعارف المعترَفِ إنسانياً بصلاحيتها وإمكانيةِ نقْلها، وبين الثقافة باعتبارها جملة من العناصر الروحية والمشاعر والمُثلِ المشترَكة المرتبطة بمجموعة وزمن معينَيْن.

ثم ثنّى بثلاث مقابلات أخرى، تقْلِب أُولاها مقابلةَ فيبر، فتُحول الثقافةَ إلى جملة الوسائل المتحكِّمة في الوسط الطبيعي، وتَجعلُ الحضارةَ جملةَ الوسائل المحكَّمةِ في سيطرة الإنسان على ذاته وتطويرِ نفسه روحياً وفكرياً، وتؤطِّرُ ثانيتُها هذه العلاقةَ من منظور يعتبر الثقافةَ جزءً من حضارة أعم جغرافياً، حضارةٍ تضم جملةَ ثقافاتٍ تجمَعها روابطُ معينة، وتطغى على ثالثتها النزعةُ التطورية، فتَكُون الحضارةُ مرحلةً متقدمة تقدماً لا تتضمنه بالضرورة كلمةُ ثقافة.

ثم تناول بالنقد العاملَ المشترَكَ لهذه المقابلات، والمتمثلَ في عزل المعرفة عن الواقع، استقلالاً بعالَم “أرقى” خاصٍّ بنخبة لها قيمُها وتصوراتٌ “عليا” تؤدي وظيفتين: الإيهامِ بحاجة الإنسان والإنسانية إلى هذه النخبة، والدفاعِ عن طبيعتها المتميزة التي لا يمكن التمكن منها إلا بجهد فكري خاص يتضمن تهميشاً بل عداءً لمعطيات الواقع المادي.

ويبلُغ النقدُ أوجَه بالتنصيص على مماهاة هذه المقابلات بين عالم الثقافة وعالم السعادة، وما ينتج عن ذلك من انجذاب أصناف اجتماعية إلى هذا العالم انجذاباً يظل معه بعضُها في مستوى التّوْق المكبوت. والثقافةُ بهذا المعنى الجامع بين الضرورة والامتناعِ هي عمليةُ إثباتٍ لمكانة “المثقف”، للدور القيادي الذي يُسنِده أصحابُها إلى أنفسهم كموجهين للواقع، وعمليةُ إدماج أيديولوجية واجتماعية موازية للحاجيات وللتتوقات.

3- المنعطف الانثروبولوجي:

لم تخِفَّ نسبياً حدةُ تمييزات هذه المقابلات إلا مع منتصف القرن التاسع عشر، حيث انتقلت اللفظتان ثقافة وحضارة من المفرد إلى الجمع، حين “تعرف” الاستعمار على ثقافات وحضارات أخرى لشعوب “مجهولة”.

وكان أول تعريف أنثربولوجي للثقافة هو ذاك الذي اقترحه الأنثربولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور[iii] سنة 1871. وقد وَجه تعريفُه الوصفي ذو النفَس الدوركهايمي أعمالاً وتعريفات لاحقةً حافظت على توسيع الحقل الثقافي الذي يضم هذه المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما”. وهو تعريف يتبطن أكثر من الحد الأدنى لخصائص الظاهرة الثقافية من وجهة أنثربولوجية، هي:

1- الكلية الجامعة التي تترابط فيها المعطيات الفكرية والعاطفية والمادية.

2- التشكل الذي يختلف قوة ومرونة حسب الحالات، والذي بدون حد أدنى منه يعسُر التمكنُ من الظاهرة الثقافية.

3- التعلم الاكتسابي والاستيعاب الاجتماعي.

4- المشاركة: المعيار الأساسي للظواهر الثقافية هي اشتراك مجموعة من الناس في الموقف منها.

ولم يحُلْ هذا الحد الأدنى من الاتفاق دون وجود تعاريف كثيرة صُنفت تصانيف مختلفة ومتنوعة تبعاً للاهتمامات والمنهجيات.

4- مقابلة ثانية – الطبيعة والثقافة:

وعلى الرغم من هذه الكثرة المختلفة المتنوعة، فإن المقابلة الأساسية التي حافظت عليها الأنثربولوجية هي المقابلة بين الطبيعي والثقافي، مدعومةً بالمقارنات بين الحيواني والإنساني، وبين ما هو بيولوجي أو فطري، وبين ما هو مكتسب في الوجود الاجتماعي. وفي هذه المقابلة اعتبار للإنسان كائناً وحيداً يخلق الثقافة.

ثم إن هذا الاتفاق على الميزة الاكتسابية للثقافة ضمن الوسط الطبيعي والاجتماعي للإنسان خارج إطار غرائزه، لم يُغفِل بعضَ محاولات الربط بين الثقافة و”الطبيعة البشرية”، محاولات ظلت تَسِمُ الأنثربولوجيا حتى ليفي ستراوس الذي حررها من هذا القيد، بنفيه وجودَ إنسان طبيعي، فلا ثقافة عنده إلا بعد تجاوز الطبيعة عبر المرور من الطبيعة إلى الثقافة بوسائل كثيرة ومتنوعة، أهمها اللغة كوسيلة اتصال، وأبرزها اعتناق مبدأ تحريم الزواج بذات القربى. إن القرابة مثلاً لا تكتسب طابعَها كظاهرة اجتماعية بفضل ما يجب أن تحافظ عليه من الطبيعة، بل بفضل السيرورة الأساسية التي بها تنفصل عن الطبيعة. وأوضح مثال بنيوي لهذا المرور من الطبيعة إلى الثقافة -وإن كان جزءً من أمثلة لقيت اعتراضات كثيرة حتى من ذووي نفس الاختصاص- مثالُ المثلث الطبخي الستراوسي، كنموذج ينتقل فيه النيِّئُ إما “ثقافياً” إلى مطبوخ، وإما “طبيعياً” إلى متعفن. فعملية الطبخ تمثل نشاطاً وسطياً بين الطبيعي والثقافي.

5- محاولات التجاوز:

حافظت الأنثربولوجيا الثقافية على “إحالة” البعد الطبيعي بيولوجياً كان أو بسيكولوجياً فطرياً إلى دراسات خاصة كمادة مستقلة، وإن كانت بعضُ المبادرات قد اغتنمت في العشرين سنة الأخيرة[iv] فكرةَ تكامل الاختصاصات لإحداث القطيعة الكلاسيكية بين الإنسان والطبيعة.

ففي بداية القرن العشرين، ميز كرويير بين ثلاثة ميادين حسب درجة تعقدها.

1- ميدان “اللاعضوي”: موضوع الدراسات الكيمياوية والفزيائية.

2- ميدان “العضوي”: موضوع الدراسات البيولوجية والبسيكلوجية.

3- ميدان “ما فوق العضوي”: موضوع العلوم الاجتماعية. وهو الوحيد الخاص بالإنسان كمبدع للثقافة وحامل للتاريخ.

إذا كان من المفروغ منه، من وجهة نظر المفكر الفرنسي إدغار موران، أن الإنسان ليس مكوَّناً من شقين متراكبين، أحدهما بيو – طبيعي، والآخر بسيكو اجتماعي، وأن كل إنسان هو كلية بيولوجية بسيكولوجية سوسيولوجية، فإن مفهوم “الإنسان النوعي” المرتبط بمفهوم الكلية عند ماركس الشاب، قد أبرز، قبل بلورة مفهوم الطبقة الاجتماعية، عضويةَ الارتباط بين الإنسان والطبيعة بشكل خال من اللبس. فالإنسان هو الموضوع المباشر لعلوم الطبيعة، والطبيعة هي أيضاً الموضوع المباشر لعلم الانسان. إن الواقع الاجتماعي للطبيعة، والعلم الطبيعي البشري،. هي عبارات متطابقة.

لقد صار نقد الأنثربولوجيا موقفاً كلاسيكياً. ولكن لا يجوز، اتكاءً على انتقادها، الذهابُ رأساً إلى نفي متسرع وغير علمي لمساهمتها، ولا الخلط بين نقد الهيمنة الاستعمارية كمرحلة تاريخية وبين الفكر الذي أنتجته هذه الهيمنة إلى درجة تقرير أنها علم كان يجب ألا يكون. التعاطي السليم مع الأنثربولوجيا ينبغي أن يتم وفق طرق نقدية معينة، وباستحضار تطور هذا العلم حسب معطيات واعتبارات جديدة، مع إبقاء المجال مفتوحاً على إمكانية –وربما ضرورة- الرجوع أحياناً رجوعاً استعمالياً على الأقل إلى الدراسات الأنثربولوجية.

وهذا لا ينفي وجودَ تمايز بين الأنثربولوجيا وسوسيولوجية الثقافة. وعلى رأس معايير هذا التمايز: طبيعةُ المجتمعات التي التي اهمتمت بها كل منهما. ففي حين اهتمت سوسيولوجية الثقافة بالظواهر الثقافية في المجتمعات ذات التركيب الطبقي، لم يكن ميدان الأنثربولوجيا غير المجتمعات الموصوفة بالبدائية. المشكلة على هذا الصعيد هي مشكلة التحويل المفهومي والمنهجي من حقل إلى آخر مختلف، ثم مشكلة الانتقال من مفهوم موسَّع شامل للثقافة إلى مفهوم تصنيفي حسب معطيات التركيب الاجتماعي الموجود، ثم مشكلة التباين المنهجي، والتي تتمثل في وجود كثير من الأعمال غير الماركسية، من تلك التي تصنَّف بسوسيولوجية المعرفة، على اعتبار أن اعتماد المنهجية الماركسية مكن الأعمال المعروفة في سوسيولوجية الثقافة من تحقيق مشروع الربط بين أنماط الإنتاج الفكري ومعطيات الواقع الاجتماعي الاقتصادي بطريقة فريدة وعميقة.


[1] الطاهر لبيب، سوسيولوجيا الثقافة، مطبعة فضالة، المحمدية، 2006، ص 5.

[2] المرجع نفسه، ص 6.

[3]: (1832 – 1917).

[4] لا ننس أن تاريخ إصدار تاريخ الكتاب


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

اترك رد