اللغة هي التي تفكّر، والفكر هو الذي يكتب [1]. فكيف بمن قلّ احترامه للغته ولم يحاول اتقانها بأن يدّعي علما، أو يحدث تنمية، أو يثبت تقدّما، أو يقنع الآخرين بما هو عليه من الصّواب. وهل أثبت السّابقون تفوّقهم، وعظمتهم، من خلال اتقانهم لغة الغير، أم هل تمكّن المتأخّرون من التقدّم بغير لغتهم؟ ولم يحدث بأن حاول العلماء المسلمون قديما في بناء الحضارة الإسلاميّة، بأن ادّعوا أنّ البناء يقتضي التبعيّة اللغويّة وإلاّ ما جاز لهم أصلا أن يثبتوا وجود حضارة بُنيت على أسس لغةٍ غير لغة القوم. ولم يثبت المتأخّرون في هذا الزمن بأنّ اتقانهم للغة الغير قد مكّنهم من التقدّم الذي تنشده وتسعى إليه الأمّة فأين الخلل إذن؟
إنّ تقدّم أمّة من الأمم لا يتحقّق إلاّ من خلال اتقانها للغتها، سعيا لبناء أفكارها، ثمّ بكتابة علومها وأبحاثها،والابداع في المضمون والهيكل، وقوّة الاجتهاد في الفروع كما في الأصول. ويكون ذلك بغرض تحقيق النهضة ومواصلة الصعود للوصول إلى أرقى مراتب الحضارة وأقواها. فلا مجال للتهرّب من هذه الحقيقة التي أصبحت لا تُعجب الكثيرين من أبناء العرب والمسلمين. بحيث كَثر الحديث عن اللغات وعن التفوّق في لغة الغير، وقد نسي القوم بأنّ العاجز في ذاته قاصر عن الوصول بغيره. فإنّ الذي يعتقد بأنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شيء، وبأنّ الإجتهاد كامن في أمور الدّين والدنيا، وكلّ ذلك في الكتاب والسنّة، فإنّهما مكتوبتان بلغتك وليس بلغة قوم آخرين. أم أنّ حبّ الظهور والتبعيّة قد أعمت أصحابها فانقلبوا نحو قبلة الغير في التماس عزّة ليست من صنيعهم بقدر ما هي مستوردة.
ويا ليتنا نُتقن لغة الغير، ولكن في الكثير من الأحيان أصبح الغرب يضحك على البعض منا بسبب الفقر اللغوي، والركاكة في الأسلوب والتعبير، بل وتفاهة ما يُقال ويُحكى ويُكتب بلغتهم التي حرّفناها لهم. وكم رأينا من عرب ومسلمين بقوا لسنوات في الغربة ولكن آخرتها كانت اكتسابهم للغة مكسورة، وكأنّها خرجت من الأنقاض، أو كأنّ صاحبها قد تعلّمها تحت ضغط الحرب لا في مدن عريقة بتقدّمها، آهلة بسكّانها، ومشعّة بما فيها. لغة تجلب الحسرة بدل الفرح، وتنغّص القلب بدل أن توسّع عليه وتكسبه فرحة التمكّن ولو من لغة الآخر. تتمنّى سكوت صاحبها ولو لم تراه لسنوات، وتفرح لسكوته ولو كنت تأمل بأن يتكلّم بدون انقطاع بسبب طول الغياب.
فالمشكلة ليست مشكلة تكلّم لغة الآخر، بقدر ما هي مشكلة العقول وما تريد. لأنّ القويّ في ذاته ولغته، سيكون حتما مدركًا لقدرته في التمكّن من لغة غيره لعلمه بما يريد. فهو يُضيف اللغات ليس ليُصبح قويّا بل ليقوى. لأنّ مَكمن القوّة ذاتي، و أمّا زيادتها وتطوّرها فيكون بما عند الغير ولكن عن علم بما يفعل، وعن علم بمَكمن النقص الذي يراد اتمامه، وعن علم بمكمن الحاجة التي أوجبت تحصيلها. وأمّا الضعيف المغلوب على أمره، الذي لا يُتقن ما يقول بلغته التي وُلد في محيطها وتربّى عليها، ولا يُتقن حتّى التعبير عمّا يفكّر به، ثمّ يسعى لتعلّم لغة الغير ظنّا منه بأنّه سيبلغ ما بلغوا، ويتقدّم نحو ما وصلوا، فيقال له رفقا بنفسك يا مسكين. فنقص اللغة هو نقص في التفكير، لأنّك تفكّر بلغة موجودة مفرداتها في الدماغ، وغياب مفردات بعينها، سيغيّب حتمًا الفكرة التي تماثلها واقعا، وبالتّالي أنت ناقص في الفكر كما أنت ناقص في اللغة. وكم حدث من سوء تفاهم ومشاحنات بسبب عدم اتضاح الأفكار المعبّر عنها، أو بسبب غياب الفهم المناسب لما يُقال أو يُكتب، وكان سبب ذلك هو غياب لغة الفهم الملازمة للغة النطق.
وأنت في طريقك لإتقان لغتك والتمكّن منها، لا توجس خيفة من لغة الآخرين فتقع في ما يكون أحلاهما مر، إمّا هروب منها وكره لأهلها، أو اندماجك معها وانحلالك فيها بوصفك تابعا لتلك اللغة، فتابعا لها فكريا، ثمّ بذوبان الشخصيّة ونقض للهوية. بمعنى أنّك ستتعلّم لغتك ولغة غيرك ولكن عن علم بما تريد. استفد بما عند الآخرين وأنت متقن لما عندك. فالذي لا يُبدع بلغته لا يمكن له أن يُقنع الآخر بأفكاره حتما. لأنّ الآخرين مُكتفين من الذي عندك بالذي عندهم، ولا تُقنعهم إلاّ قوّة أفكارك، وقوّة أفكارك مستمدّة من قوّة اللغة التي تفكّر بها وأنت لا تفكّر إلاّ بلغتك الأصلية والأصيلة. أمّا هروبك من لغة الآخر وعزوفك عنها، أو أحيانا استحقارك للغة الآخرين قد يفوّت عليك الخير الكثير. فأنت مسلم والمسلم مُتّبع للحكمة لأنّها ضالّته. وأينما سمعت عنها أو وجدتها، احرص على عدم الزهد فيها. فإنّما تعلّم اللغات هو رفع للزهد في الحكمة، وليس اتباع لقوم آخرين، أو للخيلاء مع بني القوم من أمّتك.
ووجب التنبيه هنا إلى أنّه كونك عربي مسلم لا يستلزم منك بأن تُرغم الغير العرب من المسلمين بتكلّم اللغة العربيّة إلاّ وأنت متأكّد بأنّك ستربطها بالإسلام. فغيرك متمسّك بلغته وهويّته كما أنت متمسّك بذلك. وكونك عربيّا لا يعني بأنّك مسلم أكثر من الآخرين، أو أنّ إسلامك من الدرجة الأولى وإسلامهم ناقص. فالمسلم لا يجلب العداوات مع اخوانه بسبب لغته والتي قد لا يتقنها أصلا كما ذكرنا آنفا. اجعل الذي لا يُتقن لغتك يحبّها بسبب أفكارك وأفعالك، اجعله يحبّها لأنّه مسلم، وأفضل ما يعتزّ به الإنسان هو كلام الله الذّي أنزله بلغة العرب. فالمسلم الغير النّاطق باللغة العربيّة سيفرح يوم أن يرسخ في ذهنه بأنّ لغة القرآن ستكون مصدرا لقوّته وسعادته، وبأنّ الإسلام لم يكن ليجرح هويّته وأصله بقدر ما جاء ليقرّبه من خالقه، ويعرّفه بغيره على سبيل المساواة والأخوّة الإسلاميّة المبنيّة على التقوى والإخلاص. وليس التفوّق القومي المبني على السّفاهة والتخلّف.
وقد يعترض البعض فيقول بأنّه ليس كلّ متفوّق في لغته بمبدع أو مفكّر. وهذا صحيح لمن لا يريد أن يستخدم اللغة ليفكّر. فكان له أن جمّد لغته عن التفكير بها ولم يكتب بما يُفكّر، بل انتقل مباشرة بلغته نحو الكتابة أو الكلام من باب العادة، وبالتالي فإنّه يركّز على استرجاع ما يحفظه بدل أن يؤسّس لأفكار خارج ما يحفظه فحصل التقليد بدل الابداع والله أعلم.
[1] مقولة للدكتور ناصر يوسف.
اترك رد