الحياة الثقافية والاجتماعية للطائفة اليهودية بالدار البيضاء في عهد الحماية

برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول وجدة – المغرب، تمت مناقشة أطروحة الباحث محمد الناسك لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ تحت إشراف الدكتور محمد منفعة، وذلك في موضوع “الحياة الثقافية والاجتماعية للطائفة اليهودية بالدار البيضاء في عهد الحماية”، يوم 14 ماي 2013 ، وقد انتهت المناقشة بحصول الباحث على درجة الدكتوراه بميزة “مشرف جدا”.

ملخص الورقة:

يقول جلال الدين الرومي في “المثنوي”:

منذ أن كان من الغاب اقتلاعي، ضج الرجال والنساء في صوت التياعي

كل من يبقى بعيدا عن أصوله لا يزال يروم أيام وصاله

لكن كل من افترق عمن يتحدثون لغته، ظل بلا لسان، وإن كان لديه ألف صوت[i]

لقد وجدت في هذه الأبيات من قصيدة “أغنية الناي” للرومي أصدق تعبير عن سعادتي الغامرة وأنا بينكم. بعد أن عدت إلى حيث أصولي، وأصبح لي لسان بوجودي بين من يتحدثون لغتي.

إن مسألة الثقافة، أو بالأحرى مسألة الثقافات، تشهد تجدداً يجعل منها مسألة راهنة، سواء أكان على المستوى الفكري أم على المستوى السياسي، ولم يكن الحديث عن الثقافة أوسع مما هو عليه اليوم.[ii]

وربما يعتمد مستقبل العالم بأسره على الثقافة، ففي 1993 أعلن صامويل هنتنغتون (Samuel P. Huntington) في مقالة أشبه بالنبوءة في مجلة «Foreign Affaires» أن مرحلة جديدة من تاريخ العالم قد بدأت “وفي هذا العالم الجديد لن تكون المصادر الرئيسة للصراع اقتصادية أو أيديولوجية في المقام الأول؛ فالانقسامات العميقة بين البشرية والمصدر المهيمن على الصراع ستكون ذات طابع ثقافي”.[iii]

إن موضوع الأٌقليات “من الموضوعات الهامة والقديمة المتجددة مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحدث في الحقب التاريخية المختلفة”[iv]. “فالعلاقة بين المجموعات المهيمنة وغير المهيمنة ثقافيا ودينيا ولغويا ضمن نظام سياسي ما انفكت مشكلة قائمة في السياسة على مر التاريخ”.[v] “وهو موضوع تداخل تخصصات عديدة مثل الاجتماع والأنثروبولجيا والسياسة والتاريخ ودراسات الحضارة وعلم الوراثة. لذلك فهو يثير الجدل والمناقشة والاختلاف بين قطاعات واسعة من الأكاديميين والمهتمين بالمشكلات الإنسانية. وتخطى هذا الاهتمام قاعات الدراسة، لأن مشكلة الأقليات والعنصرية برزت واقعيا على سطح حياة كثير من المجتمعات بالذات حديثة الاستقلال، لأنها مرتبطة بالوحدة الوطنية وكيان الدولة الجديدة المتماسكة وبقضايا التنمية والتطور الاقتصادي”[vi] وهذا ما جعل “دراسة موضوع الأقليات في أي مجتمع دراسة منهاجية تصطدم بعدة صعوبات؛ فهي غالبا ما تكون حساسة بالنسبة للدارس سواء أكان ينتمي إلى الأقلية في مجتمعه أم إلى الأكثرية وبخاصة في المجتمعات النامية أو حديثة الاستقلال”.[vii]

إن هذا العمل يعتبر مساهمة في الجهد الأكاديمي لكتابة تاريخ اليهود المغاربة والوقوف على دورهم في تاريخ وطننا بعيداً عن الأحكام المسبقة أو”الداخلية المطمئنة” وفقا لتعبير هشام جعيط،[viii] وخاصة في الفترة المعاصرة والتي ما زال البحث فيها لم يحقق التراكم الذي يمكننا من تقييم شامل وموضوعي لدور اليهود.

الأطروحة والمنهج:

يقول عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة: “ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوِيُّ شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم وحالهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار؛ فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول: سنة الله التي قد خلت في عباده”.[ix]

لقد كان فرض الحماية الفرنسية في 1912 تتويجا لعقود من تربص الغرب الإمبريالي بالمغرب، وخلالها دخل المغرب “مرحلة التحولات” لقد كانت الصدمة عنيفة والتحولات سريعة، وليس بعد “أحقاب متطاولة”، وفقا للتعبير الخلدوني، زلزت بنية الدولة والمجتمع، وكانت الطائفة اليهودية أكثر تأثرا بها؛ فوقع لها نتيجة ذلك تحول في الأنموذج،[x] أي تغير في نظرتها إلى نفسها والعالم وعلاقتها بالآخر، وهذا ما سعينا إلى إثباته في هذا البحث بالوقوف على التحولات خلال فترة الحماية، وبيان الكيفية التي حدثت بها، والوسائل التي سخرت في ذلك. وحاولنا ألا يكون هذا البحث إطاراً لحشر كم من الوقائع والأحداث،[xi] فقد بذلنا غاية ما نستطيع من جهد لرصد التحولات ومحاولة تفسيرها وتأويلها ووضعها في سياقها الإقليمي أو العربي أو الدولي حتى نستجلي جميع أبعاد الصورة.

وعملنا على تفنيد ما قيل ويقال عن وجود «ثقافة يهودية» مستقلة عن ثقافة الأغلبية على غرار «الشعب اليهودي» و«العبقرية اليهودية»، وهي أساطير اختلقتها الحركة الصهيونية، واعتمدتها في دعايتها لاجتثاث الطائفة اليهودية من فوق أرض المغرب وتهجيرها.

وعمدت في بحثي هذا إلى تمحيص العديد من المصطلحات المستخدمة لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية؛ لأنها متحيزة واستبدلتها بمصطلحات أخرى أكثر حياداً وموضوعية وبعداً عن الحمولة الأيديولوجية، ولها قدرة تفسيرية أكثر. وقد أوليت أهمية لهذا الجانب بعد ملاحظة أن الأعمال الأكاديمية المغربية عن اليهود المغاربة أغفلته؛ فتجد بعض الباحثين يستخدم الكثير من المصطلحات على علاتها دون أن يكلف نفسه عناء تمحيصها.

مراجع البحث ومصادره

اعتمدت في إنجاز هذا العمل على مؤلفات لا غنى لكل باحث في تاريخ مدينة الدار البيضاء عنها، وكان أنفعها لنا بشكل خاص الأعمال القيمة لأندري آدم (André Adam) عن مدينة الدار البيضاء[xii]، ومكنتني «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» لعبد الوهاب المسيري، والتي تعتبر مرجعاً أساسيا لكل دارس ومهتم بتاريخ اليهود واليهودية والصهيونية، من إضاءة الكثير من الجوانب النظرية لهذا البحث.

واستفدت في هذا الجانب أيضا من مؤلفات المؤرخ الإسرائيلي الذائع الصيت شلومو ساند (Shlomo Sand) وخاصة:

»Comment le peuple juif fut inventé«

»Les mots et la terre: Les intellectuels en Israël«

ينقض ساند في الأول الأساطير الصهيونية المؤسسة لإسرائيل، مثل أسطورة «الشعب اليهودي»، و«الشتات»، وفي الثاني يفكك جملة من مصطلحات الخطاب الصهيوني.

وكانت وثائق أرشيف المكتبة الوطنية بالرباط صوى في بداية إنجاز هذا البحث.

واستفدت في قسم المطبوعات بالمكتبة الوطنية من مونوغرافيات قيمة لمركز الدراسات الإدارية العليا لإفريقيا وآسيا المعاصرة (CHEAM) عن مدينة الدار البيضاء، وهي مصدر أساسي عن فترة الحماية.

ووقفت في المركز الوطني للتوثيق بالرباط على وثيقتين (ميكروفيلم) في غاية الأهمية الأولى، بحث تخرج أحد ضباط الشؤون الأهلية يدعى دورانج (Lt. Dorange) عن الطائفة اليهودية بالدار البيضاء أنجزه سنة 1948.[xiii] أما الثانية؛ فتقرير عن التعليم بالمغرب من (1945- 1950).

وشكلت وثائق الأرشيف الدبلوماسي في مدينة نانط الفرنسية العمود الفقري لهذا البحث، وقد اختلفت إلى هذا المؤسسة مرتين الأولى في 2001 والثانية في 2008.

تتميز وثائق هذا الأرشيف بغزارتها وتنوعها وهي تشمل كل فترة الحماية الفرنسية بالمغرب. ومن أهم الوثائق التي استفدت منها، وثيقة تقع في حوالي 30 صفحة عن الطائفة اليهودية بالدار البيضاء بعنوان: «Note sur les Israélites Marocains de Casablanca». وبخصوص الصهيونية يعتبر بحث «Le Sionisme au Maroc» لضابط الشؤون الأهلية إتيان كوادان (E. Coidan)، من أهم الدراسات في موضوع تاريخ هذه الحركة بالمغرب، وهو يشكل مرجعا أساسيا لكل باحث في الموضوع. وتكاد تضاهيه في الأهمية دراسة بعنوان:

«Bulletin de Renseignements sur la Colonie Juive du Maroc et sur le Mouvement Sioniste«.

لقد أخضعت هذه الوثائق للنقد والتمحيص وعرضتها على مصادر أخرى، الصحافة الوطنية والفرنسية وأحيانا البريطانية والأمريكية وأيضا على وثائق بريطانية.

وكانت الرواية الشفاهية عونا لي في توضيح بعض ما استشكل علي في وثائق الحماية، وكذلك كشف المسكوت عنه فيها وتفنيد بعض مضامينها.

واستفدت في إعداد هذه البحث من وثائق مركز التوثيق اليهودي المعاصر في باريس، وهي عما يسمى «المحرقة» و«معاداة السامية» وتاريخ «الجماعات اليهودية» قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.[xiv]

ويزخر أرشيف مكتبة الرابطة اليهودية العالمية،[xv] بوثائق عن الأوضاع الاجتماعية لليهود المغاربة. وهذه الوثائق في معظمها تقارير كتبها معلمو مدارس الرابطة.

واعتمدت في هذا البحث وثيقة قيمة من الأرشيف البريطاني، وهي دراسة في حوالي 30 صفحة من القطع الكبير عن اليهود المغاربة كتبها في 1968 القنصل البريطاني بالدار البيضاء.

ومما تجدر الإشارة إليه أن عملنا هذا يتداخل في جوانب منه مع حقل الأنثروبولوجيا، وفي هذا الصدد استفدنا من كتابات المفكر الفرنسي كلود ليفي ستراوس (Claude Levi-Strauss) وآخرين.

كما استفدت من بعض ما كتبه رولان بارت (Roland Barthes)، أحد أقطاب السيميائيات، عن الزي والموضة،[xvi] ومما كتبه بعض الباحثين عن هذا الجانب من أعماله[xvii].

تشكل الشبكة العنكبوتية العالمية (الإنترنت) مصدراً لا غنى عنه للباحث في التاريخ، شأنه شأن الباحثين في حقول معرفية أخرى، فهي واسطة سريعة للبحث عن المعلومات ومصادرها، ومنها مراكز البحث ودور الأرشيف وما تحتويه من وثائق. توفر هذه الواسطة على الباحث الوقت والجهد والمال. وقد ساعدتني في سد الكثير من الثغرات، وكذلك الحصول على الكثير من الوثائق واقتناء بعض المؤلفات.

وكان أفيد موقع لنا، موقع إسرائيلي يضم جميع الصحف اليهودية والصهيونية التي كانت تصدر في عدد من دول العالم ومن ضمنها المغرب.[xviii] كما استفدت من موقع فرنسي يضم أرشيفا ضخما من الدوريات والمجلات باللغتين الفرنسية والإنجليزية تعنى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية.[xix] وأتاح لي التسجيل في موقع أمريكي، مقابل 100 دولار، الاطلاع على أرشيف ضخم من الصحف تعد بالملايين، منها ما يعود تاريخها إلى 240 سنة.[xx] ولا يفوتنا في هذا الصدد التنويه بالموقع الإلكتروني للجريدة الرسمية للمملكة المغربية[xxi] الذي يضم جميع أعداد هذه الجريدة باللغتين العربية والفرنسية، وهي مصدر أساسي للباحث في تاريخ المغرب خلال فترة الحماية.

وانطلاقا مما وفرته لنا المظان من مادة قسمنا هذا البحث على ثلاثة أبواب، الباب الأول يقع في فصلين والثاني في ثلاثة فصول، أما الباب الثالث؛ ففي فصلين. فضلا عن مقدمة وتمهيد وخاتمة.

لا تخفى أهمية المصطلح وخطورته في أي مجال من مجالات البحث العلمي لذا ركزت في مقدمة هذا العمل، كما في ثناياه على تعريف المصطلحات وتمحيصها، ومنها مصطلح «الأقلية».

ومن المصطلحات التي وقفت عندها أيضا مصطلحي “طائفة و جماعة”:

فحاولت تحديد المصطلح الأنسب لوصف يهود المغرب، وخاصة يهود الدار البيضاء.

وتعرضت في التمهيد لمراحل وعوامل نمو الطائفة اليهودية بمدينة الدار البيضاء، وكيف أصبحت قرية الدار البيضاء – التي كان يقيم فيها بضع مئات من اليهود في نهاية القرن التاسع عشر- تضم أكبر تجمع لليهود المغاربة، بلغ في نهاية الحماية 80 ألف يهودي.

لقد كانت التحولات السريعة والعميقة التي مست بنيات المجتمع المغربي والدولة بعد الصدمة الاستعمارية واحتكاكه بالحضارة الغربية جلية أكثر في مدينة الدار البيضاء التي تحولت من قرية صغيرة إلى أكبر مدينة مغربية وعاصمة اقتصادية للبلاد، ولم يكن في هذه المدينة فصل كلاسيكي بين الأجناس والديانات؛ فالمسلمون واليهود والأوروبيون كانوا يعيشون جنباً إلى جنب، مما جعل التقاليد المغربية والتي هي انعكاس للعرف أو ما يعرف بـ «القاعدة» تتغير بسرعة. وكانت هذه التحولات الثقافية والاجتماعية أعمق في أوساط يهود الدار البيضاء.

إن هذه التحولات الثقافية والتي نتج عنها كما ذكرنا آنفا تحول في الأنموذج لدى اليهود المغاربة فصلت فيها القول في الفصل الأول من الباب الأول عن الحياة الثقافية ليهود الدار البيضاء، والذي تطرقت فيه لنشاطهم الفكري ودور الحركة الصهيونية فيه، بينما كان الفصل الثاني من الباب الأول عن التحول السريع والعميق في عادات وتقاليد اليهود. وأبرزت الدور الحاسم لوسائل الاتصال الجماهيري في هذا التغيير، أو ما يسميها صاحب «المتلاعبون بالعقول» “صناعة توجيه العقول”،[xxii]

إن النمو السريع، وفي فترة وجيزة، لسكان الدار البيضاء نتجت عنه مشاكل اجتماعية لا حصر لها كانت تستفحل مع مرور الزمن، فقد كان معظم اليهود يعيش معيشة ضنكا، سكن غير لائق وسوء تغذية وبطالة، وتسول ودعارة. كما تضمن هذا الفصل عنصرا عن أوضاع السجون، والتي كان يشتكي منها اليهود. وأشرت في هذا إلى أن موضوع السجن في عهد الحماية يستحق أن يبحث فيه اعتمادا على ما كتبه المفكر الفرنسي ميشال فوكو خاصة في كتابه المراقبة والعقاب. ولقد حاولت في هذا الفصل استجلاء أبعاد الصورة ووضع الأمور في سياقها للوقوف على أسباب هذه الأوضاع الاجتماعية المزرية، وهذا ما كرست له الفصل الأول من الباب الثاني. إن هذه الأوضاع جعلت لجنة الطائفة تنوء بأعباء ثقيلة، فقد كان لهذه اللجنة الدور الرئيس في تسيير شؤون يهود الدار البيضاء ومعالجة مشاكلهم الاجتماعية، مما استدعى إعادة تنظيمها للاستجابة لمتطلبات المرحلة، وهذا ما أثار جدلا كبيراً وانشقاقات في صفوف الطائفة بين مساند لمشاريع الحماية ومعارض لها، وعلى هذا كان مدار الفصل الثاني.

أما الفصل الثالث، فتناولت فيه أثر قوانين فيشي على أوضاع الطائفة اليهودية في مدينة الدار البيضاء، واستنجادها بالسلطان محمد بن يوسف، الذي انقسم الرأي بشأن موقفه من قوانين فيشي العنصرية. وكذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا لتخليصهم من هذه القوانين. كما لجأ بعض التجار اليهود إلى نظرائه من المسلمين لمساعدته على اجتياز محنته .

وخصصت الباب الثالث من هذا البحث للنتائج التي ترتبت على التحولات الكبرى التي شهدها المغرب، فبيَّنا في الفصل الأول من هذا الباب كيف تم تقويض الأسس التي كانت تقوم عليها العلاقات بين الطائفتين، هذه العلاقات التي أصبح يطبعها بفعل التدخل الاستعماري والصهيوني التباعد والتنافر نتيجة التفكك السريع للقاعدة المادية والنسيج الاقتصادي التقليدي اللذين كانا يشكلان إطاراً للتكامل والتعايش. لقد اختلفت نظرة الطائفتين إلى الحماية، فالمسلمون كانوا يرون فيها كارثة حلت بهم، بينما رأى فيها اليهود فرصة «للانعتاق والارتقاء»، ومن ثم اختلفت الوجهات وتناقضت التوجهات. وتعمّقت الهوة بين الطرفين بفعل الاضطرابات التي عرفتها أوروبا والمشرق العربي، وبخاصة منذ الإعلان عن إنشاء إسرائيل أو ما يسميه أبراهام السرفاتي “المقاولة”،[xxiii] الحدث الذي يعتبره الباحثون التوراتيون “لحظة حاسمة في تاريخ إسرائيل”،[xxiv] فقد كان لهذا العامل تأثير سلبي حاسم في هذه العلاقات التي أصبح التوتر شبه الدائم يشوبها، مما جعل كل محاولات التقارب تبوء بالفشل، وأصبح من الصعب تجاوز هذه الأوضاع الشاذة.

استنتاجات وخلاصات

أكدت أحداث ما يسمى “الربيع العربي” حساسية موضوع الأقليات؛ فقد سمعنا وما زلنا نسمع قادة دول غربية يعبرون عن قلقهم على مصير الأقليات في الوطن العربي، كما نشطت مراكز البحث في تناول الموضوع.

لقد شكلت عملية الهدم الثقافي مدخلا رئيسا لإحداث تحول في الأنموذج لدى اليهود المغاربة، فكانت اللغة الركيزة الأساسية التي استهدفتها معاول هذا الهدم، وهكذا عمد المستعمر إلى حفر هوة بين اليهود والمسلمين المغاربة على مستوى اللغة والثقافة لفصل اليهود عن أصلهم الثقافي الوطني المشترك.

إن التقاء الطائفة اليهودية المغربية بالمستعمر تسبب في انفصالها عن الأغلبية، فعوملت على أنها كيان مستقل، وهكذا ارتبط مصيرها بالقوى الاستعمارية. وربما يكون خير دليل على التحول في الأنموذج أن أغلبية المواطنين المغاربة اليهود لم يشاركوا في النضال من أجل الاستقلال.

كما كان من نتائج هذا التحول تغير في طبيعة علاقتهم بالأغلبية المسلمة بعد أن انهارت الأسس القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تقوم عليها تلك العلاقات، مما جعل كل محاولات رأب الصدع لا طائل منها.

صحيح أن يهود الدار البيضاء عانوا أوضاعا اجتماعية مزرية وصفتها أقلام مغرضة بـ “جحيم دانتي”، لكنها سكتت عن الأسباب التي أدت إلى ذلك، وأن المسلمين كانوا فيه سواء مع اليهود.

لقد كان تهجير اليهود المغاربة النتيجة المنطقية للتحول في الأنموذج لدى هؤلاء. وقد اعتبر البعض عملية التهجير “ظاهرة ميتافيزيقية” وهي في الواقع تعود إلى مركب من الأسباب مرتبطة كلها بالتدخل الاستعماري؛ لأن الهجرة اليهودية ليست ظاهرة يهودية بمقدار ما هي جزء من الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية الغربية، ولا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في هذا الإطار.

إذا كانت المدرسة التوراتية تقول بوجود لحظتين حاسمتين (Two Defining Moments) في تاريخ إسرائيل، الأولى هي إنشاء المملكة الإسرائيلية القديمة، مملكة داود وسليمان. والثانية قيام دولة إسرائيل في 1948، فإن هذه اللحظة الثانية، أي قيام هذا الكيان، كانت لحظة كارثة بالنسبة لليهود المغاربة.

الهوامش:

[i] مولانا جلال الدين الرومي، مثنوي، [ترجمه وشرحه وقدم له: إبراهيم الدسوقي شتا] القاهرة، المركز القومي للترجمة، ستة أجزاء الطبعة الثانية، 2008، الكتاب الأول، ص 35 – 37.

[ii] دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ]ترجمة: منير السعيداني[، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، مارس 2007، الطبعة الأولى، ص 6.

[iii] Samuel P. Huntington, The Clash of civilizations, in: Foreign Affairs, summer 1993, volume 72, number 3, pp.22 – 49 (p. 22) .

[iv] حيدر إبراهيم على وميلاد حنا، أزمة الأقليات في الوطن العربي، حوارات لقرن جديد، دمشق، دار الفكر، دمشق، بيروت دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى، يوليو 2002، ص 15 – 16.

[v] S. Shoukat Hussein, Minorities Islam and the nation state, Kuala Lumpur, Malaysia, Islamic book trust, 1997, p. 1 – 2.

[vi] أزمة الأقليات في الوطن العربي، حوارات لقرن جديد، م س، ص 15 – 16.

[vii] سميرة بحر، المدخل لدراسة الأقليات، مصر، مكتبة الأنجلو المصرية، 1982، ص 3.

[viii] هشام جعيط، الإسلام وأوروبا: صدام الثقافة والحداثة، بيروت، دار الطليعة، 2001.، الطبعة الثانية.

[ix] مقدمة ابن خلدون، م س، الجزء الأول، ص 320.

[x] يستعمل هذا التعبير في مجال مناهج البحث العلمي لوصف نقلة نوعية تحدث عندما تتغير فكرة كانت سائدة لفترة طويلة من الزمان؛ فمثلا حدث تحول في الأنموذج لما عرف أن الأرض تدور حول الشمس بعدما كان الاعتقاد السائد أنها مركز الكون هذا التحول يأخذ`وقتا طويلا لكي ينفذ في اﻟﻤﺠتمع العلمي ووقتا أطول لكي يصبح مقبولا لدى الجمهور. وفي حالتنا تغيرت نظرة اليهود لأنفسهم وللآخر والعالم.

وظف كيث وايتلام (Keith Whitelam) هذا المفهوم في كتابه:

The Invention of Ancient Israel, The Silencing of Palestinian History, London & New York, Routledge, 1996.

صدرت ترجمة عربية للكتاب ضمن سلسلة عالم المعرفة:

كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني، [ترجمة: سحر الهنيدي] الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 249، سبتمبر 1999.

استعار وايتلام مفهوم “الأنموذج الإرشادي” أو البراديغم من المفكر ومؤرخ العلم الأمريكي توماس كون. وليس كون هو من صاغ هذا المفهوم، لكن اكتسب على يده صيغته الكاملة وقوته المنهجية في كتابه: «Structure of Science revolutions» الصادر في 1962. وقد شكل المفهوم لب نظرية كون عن العلم وتاريخه ومناهج بحثه؛ فقد انتهى من دراسته لتاريخ العلم إلى أن العلماء في كل عصر يمارسون نشاطهم في إطار (أنموذج إرشادي) براديغم مستقر وراسخ في الأذهان والمؤسسات والعادات والكتب والمناهج والأدوات، هذا الأنموذج هو مصدر إدراكهم للكون والطبيعة والمجتمع والإنسان والتاريخ… وعن الماضي والمستقبل، ولكن تأتي لحظة يكتشف فيها بعض العلماء أو أحدهم أن البراديغم السائد لم يعد قادرا على مواجهة المشكلات الجديدة، وهنا يبدأ الشذوذ وتتراكم الاكتشافات العلمية السائدة خارج الأطر القياسية وتعبر عن وجود أزمة في البراديغم، هذه الأزمة هي مخاض الثورة العلمية الجديدة؛ فيحدث التحول من البراديغم القديم إلى آخر جديد مختلف كليا.

اطلعت على ترجمتين إلى العربية لكتاب كون، وفي حدود علمي لا توجد غيرهما:

توماس كون، بنية الثورات العلمية [ترجمة: شوقي جلال] الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 168، ديسمبر 1992.

توماس كون، بنية الثورات العلمية [ترجمة: حيدر حاج إسماعيل] بيروت، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، سبتمبر 2007.

[xi] يقول آرنسون (Aaronson): “إن إلزام الباحث بأن يُضمِّن بحثه كل شيء، بحيث لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا ويذكرها، لا يبرهن على أنه توصل إلى معلومات لا حصر لها، بل يبرهن على أن الباحث افتقر إلى تمييز الفروق بين الأشياء”. وهذا المعنى المهم هو بالضبط ما ذهب إليه جون ويسلي (John Wesley Pewell) ، فمن كلماته الشهيرة في هذا الصدد: “إن الرجل الغبي هو الذي يجمع الحقائق، أما الحكيم فهو من يختار المناسب من بينها”.

روبرت. أ. داي، وباربرا جاستيل، كيف تكتب بحثاً علميًّا وتنشره ]ترجمة: محمد إبراهيم حسن وآخرون) القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1429هـ 2008 م، الطبعة الأولى، ص 106.

[xii] André Adam, Casablanca: Essai sur la transformation de la société marocaine au contact de l’occident, Paris, CNRS, 2 T, 2 édition, 1972.

[xiii] CND, Lieutenant Dorange, la Communauté Israélite Marocaine de Casablanca, 1948, Direction de l’Intérieur (mémoire inedit, microfilm) .

[xiv] www.memorial-cdjc.org

[xv] للتعرف على هذه المؤسسة انظر موقعها الإلكتروني: www.aiu.org/biblio/presentation

[xvi] انظر على سبيل المثال لا الحصر:

Roland Barthes, Système de la mode.

Roland Barthes, Histoire et sociologie du Vȇtement In: Annales, Économies, Sociétés, Civilisations. 12e année, N. 3, 1957. pp. 430 – 441. Doi: 10.3406. 1957.2656.

http://www.persee.fr/web/revues/home/prescript/article/ahess_0395-2649_1957_num_12_3_2656

[xvii] Olivier Burgelin. Barthes et le vêtement. In: Communications, 63, 1996. pp. 81-100.

doi : 10.3406/comm.1996.1958

http://www.persee.fr/web/revues/home/prescript/article/comm_0588-8018_1996_num_63_1_1958

[xviii] http://www.jpress.org.il/view-french.asp

[xix] http://www.persee.fr/web/guest/home

[xx] http://www.newspaperarchive.com

[xxi] http://www.sgg.gov.ma/Historique_Bo_ar.aspx?id=762

جمع عبدالحي بنيس في كتاب توثيقي بعنوان «اليهود المغاربة في المنظومة القانونية 1913 – 2007» كل ما صدر في الجريدة الرسمية من نصوص قانونية عن اليهود المغاربة خلال هذه الفترة.

[xxii] هربرت أ. شيللر، المتلاعبون بالعقول ]ترجمة: عبدالسلام رضوان[ الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة عدد 243، مارس 1999.

[xxiii] A. Serfaty, le Judaisme marocain et le Sionisme, in: Souffles, n° spécial 15, 1969, pp. 24 – 38, (p. 24) .

[xxiv] تدعي المدرسة التوراتية وجود لحظتين حاسمتين (Two Defining Moments) في تاريخ إسرائيل، الأولى هي إنشاء المملكة الإسرائيلية القديمة (مملكة داود وسليمان باعتبارها قوة عظمى أو إمبراطورية) وذلك في الفترة الزمنية التي تعتبر فترة انتقالية بين العصر البرونزي المتأخر وأوائل العصر الحديدي. والثانية دولة إسرائيل في 1948.

للاستزادة انظر: «اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني»، م س.


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ أحمد
    أحمد

    ارجو أن تبتعد عن التحليل الموجه وأن تجابه المحظورات بالقوة العلمية حتى ينسلخ البحث عن وحل الإديولوجيات ويعانق الروح العلمية

اترك رد