إيران.. هل سيُؤجَّل الصراع إلى جولة قادمة؟

يواصل سباق الرئاسة الإيرانية مسيره في أجواء لا تخلو من مفاجآت، يهيمن فيها صوت الأصوليين (المحافظين). وفي غياب شخصية قوية، وخطاب سياسي يستقطب الأنظار، يبدو الشارع الإيراني منقسما بين فئتين، الأولى حائرة في حسم قرارها الانتخابي، والثانية غير مهتمة بالانتخابات ونتائجها. فكيف يمكن فهم هذا المشهد؟ وما علاقة نتائجه بمستقبل الصراع السياسي في إيران؟

الإصلاحيون: يأس وغموض

أثار بروز اسم هاشمي رفسنجاني في الساحة حماسا سياسيا داخل المجتمع الإيراني، سرعان ما انقلب إلى حالة من اليأس، بعد صدمة استبعاد الرجل من طرف مجلس صيانة الدستور، الأمر الذي أدخل التحالف الذي كان قائما بين الإصلاحيين ورفسنجاني في حالة من الاضطراب والتردد، لم يتم تجاوزها حتى اللحظات الأخيرة قبل الاقتراع، حيث أعلن المرشح الإصلاحي محمد رضا عارف عن انسحابه لصالح المرشح المقرب من رفسنجاني حسن روحاني، مما يعني بوضوح أن أصوات التيار الإصلاحي وطيف رفسنجاني ستُوَجه بقوة نحو روحاني الذي يُعرِّف نفسه بالمعتدل غير المتحزب، والذي يسعى إلى فتح الأقفال التي أغلقت طوال السنوات الثماني الماضية.

بخلاف هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، لا يتمتع حسن روحاني بما يكفي من الرمزية السياسية والامتداد الشعبي في أوساط المجتمع، وحتى الآن تبدو حظوظه غير قوية أمام الأصوليين ولايتي وجليلي.

ستحتاج الآلة الانتخابية الإصلاحية إلى جهد كبير جدا لإقناع قواعدها في اليومين الأخيرين لكي تصوت لروحاني، أسباب ذلك ترجع بالأساس إلى قربه التاريخي من الأصوليين، وصمته طيلة السنوات الماضية، حيث تعرض التيار الإصلاحي وباقي رموز المعارضة لحملة كبيرة من الاعتداءات والانتهاكات.

هذا الموقف جعله في نظر البعض مجرد سياسي طموح يريد الاستفادة من ظروف الغياب القسري للقيادات المعارضة الكبيرة، وعلى العكس من ذلك، نظن أن وجود الرجل داخل المنافسة قد يوفر فرصة تاريخية للإصلاحيين وطيف رفسنجاني لتحقيق عودة تدريجية إلى الساحة السياسية.

انسحاب عارف لصالح روحاني كان بتوجيه من الرئيس السابق خاتمي “زعيم الإصلاحيين” كما جاء في رسالة الانسحاب التي نشرها عارف، ويبدو أن خاتمي يحاول بكل ما يملك من صبر وذكاء الاستفادة من المتاح له في ساحة الصراع السياسي، ولو من بعيد، لكن ذلك لم يمنعه من التعبير عن تشاؤمه من النتائج، حيث أكد في تصريح أخير له بأن النظام ترك للإصلاحيين هامشا صغيرا، وهم -أي الإصلاحيون- لا يعرفون حتى الآن ما هو الحد المسموح لهم به من هذا الهامش.

وسط هذا اليأس الإصلاحي من نوايا النظام الحاكم، حاول حسن روحاني أن يتميز في خطابه الانتخابي عن خصومه في التيار الأصولي، لكن الرجل لم يستطع الخروج عن الإطار المسموح به، مما جعل قضايا أساسية تهم التيار الإصلاحي خارج النقاش الانتخابي، مثل رفع الحصار عن القياديين حسين موسوي، ومهدي كروبي، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، إضافة إلى قضايا سياسية جوهرية مثل الديمقراطية، والحقوق والحريات الخاصة والعامة.

هذا السقف المنخفض من الخطاب الانتخابي يجعلنا نقتنع بأن السماح له بالمشاركة يندرج بالفعل ضمن الهامش الصغير الذي تحدث عنه خاتمي، لكن هل سَتُمَكِّنهُ المناورة داخل هذا الهامش من إقناع القواعد الإصلاحية بالذهاب إلى صناديق الاقتراع؟

من الواضح أن السماح لروحاني وعارف بالتنافس مع بقية مرشحي التيار الأصولي، يندرج ضمن هدفين أساسيين، هما: أولا، تسخين أجواء السباق الانتخابي، وجلب أعلى نسبة من المشاركة إلى صناديق الاقتراع.

وثانيا، تقديم صورة إيجابية للخارج توحي بمشاركة جميع الأطياف والتيارات السياسية في انتخابات الرئاسة الإيرانية، وأبرز دليل على هذا التفسير تلك التحذيرات التي وجهها مجلس صيانة الدستور لحسن روحاني، والمضايقات التي تعرضت لها حملته، بما في ذلك اعتقالات طالت بعض الناشطين من أنصاره.

لكن، وأمام اللامبالاة التي تسيطر على الشارع الإيراني، ويأس القواعد الاجتماعية الإصلاحية من عودة رموزها إلى الحياة السياسية، خاصة القياديين حسين موسوي ومهدي كروبي والرموز الذين لا زالوا في السجون أو في المنافي الاختيارية خارج الوطن، تبدو حظوظ التيار الإصلاحي في هذه الانتخابات غير محسومة، كما أن عودته إلى المعترك السياسي الإيراني لا زالت صعبة جدا، بالنظر إلى حملة الاتهامات والشيطنة التي تعرض لها رموزه طيلة السنوات الماضية.

نعتقد أن مستقبل التيار الإصلاحي سيبقى غامضا إلى حين، رغم أن وجود شخصية بحجم هاشمي رفسنجاني قريبة من هذا التيار، إضافة إلى تعاطف أطراف من بيت المؤسس روح الله الخميني مع قياداته، تجعل هذا الغموض مشوبا ببعض الأمل.

الأصوليون: الهيمنة

حاول الرئيس أحمدي نجاد في ولايته الثانية أن يمارس سلطات رئيس الجمهورية كاملة استنادا إلى الأصوات المليونية التي بحوزته، والتي لم يتردد في الاعتداد بها بين الفينة والأخرى. هذا الطموح أدى به إلى منازعة المرشد علي خامنئي في سلطاته السياسية والدينية، وهي القصة التي انتهت بتحجيم نفوذ نجاد وتياره السياسي، والدفع بهم تدريجيا نحو هامش الحياة السياسية، وقد كان استبعاد مرشح أحمدي نجاد للرئاسة إسفنديار مشائي من قِبل مجلس صيانة الدستور، تعبيرا واضحا على هذه النهاية السريعة والمحزنة للتيار النجادي.

يكشف هذا التطور عن معضلتين أساسيتين في النظام السياسي الإيراني، أولاهما فقدان مؤسسة الإرشاد لدور الحكم المحايد الذي كانت تمارسه في الساحة السياسية قبل سنة 2009، وذلك بعد أن انحاز خامنئي بوضوح إلى جانب أحمدي نجاد ضد منافسيه الذين شككوا في شرعيته الانتخابية، وهو ما كلف المرشد ثمنا باهظا بعدما أسفرت رئاسة أحمدي نجاد عن نتائج اقتصادية وسياسية كارثية.

المعضلة الثانية التي كشفت عنها تجربة نجاد، هي ذلك التعارض القائم في بنية النظام الإيراني بين مؤسسة الرئاسة، ومؤسسة المرشد، حيث بات من الصعب أن يسير النظام متوازنا بدون حل دستوري لهذه المعضلة، وهي النتيجة التي وصل إليها خامنئي عندما صرح بإمكانية استبدال النظام الرئاسي الذي ينتخب فيه رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، بالنظام البرلماني الذي ينتخب فيه من قبل أعضاء البرلمان.

ولأن تنفيذ هذا الإجراء يحتاج إلى وقت أطول، يعتقد خامنئي والمقربون منه أن رئاسة الجمهورية ينبغي أن تخرج من حالة التعارض مع المرشد، ولن يحصل ذلك إلا بوصول رئيس مقتنع بالتوافق التام مع المرشد والمؤسسات التابعة له.

في هذا السياق، يبدو إبقاء ساحة المنافسة الانتخابية تحت هيمنة التيار الأصولي، أمرا ضروريا، وهي الخطة التي عبر عنها أحد القياديين في الحرس الثوري سابقا بـ”هندسة الانتخابات الرئاسية”، مما جعل الكثيرين يتهمون خامنئي والحرس الثوري بالتحكم المسبق في خريطة المنافسة الانتخابية ونتائجها.

ونرى اليوم تخوفات العديد من المعارضين تقع في ظل هيمنة التيار الأصولي على المشهد الانتخابي، حيث تشارك في المنافسة خمسة أسماء وذلك بعد انسحاب المرشح الأصولي السادس غلام علي حداد عادل، أما بقية المرشحين فهم: علي أكبر ولايتي، ومحمد باقر قاليباف، ومحمد غرضي، ومحسن رضائي، وسعيد جليلي، ويبقى احتمال إجماع الأصوليين على اسم واحد قائما حتى الأيام الأخيرة، خاصة إذا ما شعروا بتقدم مفاجئ قد يهدد المعادلة الانتخابية في دقائقها الأخيرة من طرف حسن روحاني.

ورغم التشابه الكبير في الخطابات الانتخابية للمرشحين الأصوليين، تبرز بين الفينة والأخرى اختلافات وجهات النظر بخصوص بعض القضايا، مثل موضوع الملف النووي الإيراني الذي شكل الاختلاف حوله بين الأصوليين مفاجأة غير متوقعة، حيث حمل كل من محمد باقر قاليباف وعلي أكبر ولايتي خصمهما سعيد جليلي الذي يشغل منصب كبير المفاوضين في الملف، مسؤولية الفشل في تدبير المفاوضات مع الغرب.

ويبدو هنا موقف علي أكبر ولايتي غير مفهوم للوهلة الأولى، فالرجل يشغل منصب المستشار السياسي للمرشد، ويعلم جيدا أن سعيد جليلي يمثل موقف المرشد علي خامنئي في المفاوضات، ولا يملك قدرة التصرف في الملف وتفاصيله، ويبقى السؤال هنا، لماذا حمَّل ولايتي جليلي مسؤولية الفشل في تدبير ملف المفاوضات النووية؟

أعتقد أن الهدف من تحميل ولايتي خصمه جليلي لمسؤولية الفشل هو إعفاء المرشد علي خامنئي من تبعات هذه المسؤولية، فالمرشد هو المسؤول المباشر على ملف المفاوضات النووية، وقد اعتمد سياسة هجومية في تدبير الملفات الخارجية الإستراتيجية، وتم الترويج لهذه السياسة على أنها من نجاحات المرشد، خاصة بعد وصول أحمدي نجاد إلى الرئاسة سنة 2005، وبعد انتهاء ولاية محمد خاتمي التي وصفت سياسته الخارجية حينئذ بـ”سياسة المداهنة والاستسلام” للقوى المعادية.

وقد سبق لأحمدي نجاد أن استهزأ بأول حزمة من العقوبات الاقتصادية الغربية ضد بلاده على خلفية الأنشطة النووية، نافيا حينئذ أن يكون لها تأثير على الأوضاع الداخلية لإيران.. واليوم، وبعد بروز الآثار السلبية والخطيرة للعقوبات على الاقتصاد الإيراني، يحمّل أحمدي نجاد مسؤولية تدهور الأوضاع للمفاوضين في الملف النووي، وذلك في ما يشبه التبرؤ من تدبير الملف برمته.

أمام هذا الوضع، يبدو إعفاء المرشد من تحمل مسؤولية الفشل أمرا مطلوبا، والشخص الوحيد الذي سيتحمل هذه الفاتورة طبعا هو سعيد جليلي كبير المفاوضين، تماما كما يجري الآن تجميل صورة المرشد وعدم تحميله مسؤولية فشل التجربة الرئاسية لأحمدي نجاد، وتحميلها لهذا الأخير، رغم أن المرشد قد عبر عن دعمه الكامل لنجاد في بداية رئاسته. الذين يقومون بمهمة التجميل هذه يعتقدون أن تنزيه ولي الفقيه عن المحاسبة من شروط سلامة النظام واستمراره.

أمام التهديدات الخارجية سيبقى استمرار النظام أولوية قصوى بالنسبة لخامنئي ومقربيه، لذلك ستكون مهمة الانتخابات الرئاسية الجارية هي الكشف عن اسم من التيار الأصولي مؤهل للعمل بانسجام مع مؤسسة المرشد والأجهزة التابعة لها، وإخراج النظام من تعارض ثنائية المرشد مقابل الرئيس، وقد يكون هذا الاسم على الأرجح هو أحد الثلاثة: علي أكبر ولايتي، سعيد جليلي، أو محمد باقر قاليباف.

ومن المتوقع جدا أن يكون الصراع بين القوى المعارضة (التيار الإصلاحي، طيف رفسنجاني) والقوى الحاكمة مؤجلا إلى جولات قادمة، وليس ضروريا أن يكون هذا الصراع دائما من داخل الصناديق الانتخابية.

وختاما، إن الفوز المحتمل للتيار الأصولي، سيؤدي باعتقادي -ولأول مرة في تاريخ الثورة- إلى هيمنة طيف سياسي واحد على الثورة والدولة معا، مما يعني تركيزا حادا للسلطات في يد المرشد والحرس الثوري، هذا المسار سيرفع لا محالة من حدة المخاطر المحدقة بالنظام نفسه، إذ سيزيد من عدد معارضيه على المدى القريب، وسيدفع بهم إلى المزيد من التكتل، والسعي للتغيير من خارج بيئة النظام.

وعلى المدى المتوسط سيكون على نظام الجمهورية الإسلامية تحمل الفاتورة الباهظة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخليا، ومواجهة التهديدات الخارجية، كل ذلك بحدٍ أقل من الإجماع القومي الإيراني.

المصدر نشر بالاتفاق مع الباحث


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد