ظاهرة التدخين.
من اللازم دائما، التكلم عن الظواهر السيئة المنتشرة في المجتمعات عموما وفي المجتمع الإسلامي خصوصا، وبالأخص منها تلك الانحرافات التي تستوجب إصلاحات فورية. ومن أقبحها، ظاهرة التدخين بسائر أنواعه التي انتشرت بيننا كثيرا، في كل زمان ومكان، وبين كل الأعمار، عند الكبار وكذلك الصغار، وعند الرجال وكذلك النساء.
ومن حُسن المناسبات، الحملة الدولية لمحاربة هذه الظاهرة المستقبَحة جدا. فكانت حملة سنوية، للاحتفال في 31 ماي، باليوم العالمي للانقطاع عن التدخين. لكنه ليس احتفالا شكليا، بل تحسيسيا، نحن مطالبون جميعا للإسهام فيه، مادام عملا خيريا لكل الناس في كل مكان.
إن مما يدفع أكثر لاختيار التكلم في هذا الموضوع، ألا أحد منا يُفلت من أضرار التدخين، ولو لم يكن يُدخن. فإما نتضرر بأنفسنا أو بغيرنا، رغم صدور قوانين منْع التدخين في الأماكن العامة.
ورغم هذا، قد يقول قائل، إن حُكم التدخين، مثلَ حكم الخمر والمخدرات، صار معروفا جدا، فلا يحتاج أبدا لبيان مفصّل. لكن المشكل، هو المعرفة نفسُها، لأن العبرة بالتطبيق، لا بادعاء معرفة الحُكم، بل على الأقل، الجاهل يُعذر بجهْله، بخلاف العارف بالحُكم، يكون آثما أكثر بتجاهُله.
ثم الموضوع يهم الجميع، مُدخنين خاصة أن بعضهم يدخل المساجد، وغيرَ المدخنين أيضا لأن المفروض أن ينصحوا غيرهم. فالدين النصيحة، باللسان مسؤوليتنا جميعا، خلافا بقوة السلطان مسؤوليةُ الدولة أساسا. لذا، لا يجوز لنا أبدا، التخلي عن مسؤولياتنا، وتحميلها لغيرنا، أو للدولة التي لا تكون إلا بنا أجمعين.
إننا في سفينة واحدة، مسؤولون عنها جميعا. فنحرص على أن ننجو جميعا، حتى لا نغرق جميعا، كما جاء في صحيح البخاري على لِسان نبينا صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها: كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أَنَّا خرقْنَا في نصيبنا خرْقا ولم نُؤذِ مَن فوقَنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هَلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونجوا جميعا».
فإمّا نتناصح جميعا، لنمْنع الضالّين مِنا من إغراقنا معهم، أو نغرِق حتى لو كنا صالحين، خاصة أن التدخين محرّم في القرآن والسنة بأدلة كثيرة، متعددة ومتنوعة، كافية لاستيعاب حُكمِها وتبليغه لبعضنا البعض.
أدلة تحريم التدخين وآثاره.
فالتدخين مُحرم قطعا بأدلة من الكتاب والسنة ومن أصول الشريعة، لِما يُنتج دائما من مضارمُهلكة وعواقب وخيمة.
1- قال تعالى عن الصحابة رضي الله عنهم، في سورة المائدة: (يسألونك ماذا أُحل لهم. قل أُحل لكم الطيبات).
كما وصفَ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، في سورة الأعراف أنه: (يُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).
فيتَحقق نصا، تحريم السجائر وكل ما ماثلها، بناء على قاعدة “الأصل في الطيبات الحلية وفي الخبائث التحريم”، لأنها خبيثة شكلا ورائحة و ذوقا.
2 – الضرر: ينقسم إلى نوعين:
أ- ضررٌ بدني: لأن التدخين يُضعف الأبدان ويُسبب الأمراض حتما.
فقال تعالى في سورة النساء: (ولا تقتلوا أنفسكم).
كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مالك في مُوطئه صحيحا: «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ».
وإن الحفاظ على النفس، من الضروريات الخمس (الدين – العقل – النفس – المال – النسل). فكانت أنفُسنا أمانة عندنا، مِلكا لله، لا لَنا كما يقول بعضُنا نفعل فيها ما نشاء. والضروريات الأربع الباقية كلها، أيضا تتأثر سلبيا عند كل شخص يدخن.
ثم أغلب المُدخنين، لا ينتبهون إلى أن الإضرار بالغير، أعظمُ إثما من إضرار أنفسهم. فينبغي الحِرص أكثر على اجتناب التدخين في كل حال، خاصة أنه يؤدي للتلوث الدائم ويَحرِم من نعمة الهواء النقي والفضاء السليم.
ب- ضررٌ مالي: لأن في التدخين تبذيراً للمال، إذ لا يفيد لا الجسم ولا الروح، ولا الدنيا ولا الآخرة. فكان منهيا عنه:
° بقوله تعالى في سورة الإسراء: (لا تبذر تبذيرا).
° بنَهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، في قوله: “إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأْد البنات، ومَنْعٍ وهاتِ، وكرِه لكم، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال”(متفق عليه). فيكون تبذير الأموال، حتى في المباح مكروها، في حين أن الحرام حرام، سواء في كثيره أو في قليله.
° بسؤال العبد عن مالِه يوم القيامة، من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذيحسناوصحيحا: (لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أفنَاهُ؟ وَعَنْ عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفيمَ أنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسمِهِ فِيمَ أبلاهُ؟). لكن التدخين، لا يهمه السؤال عن المال وحده، بل كل الأسئلة.
3- الإسكار: بمعنى تغيير العقل والتفكير كما يتأكد في رمضان، لا سُكر اللذة والهُيام. فتَحقق التحريم كالخمر، لأن “كل مسكر خمر، وكل خمر حرام” (حديث نبوي في صحيح مسلم).
4- التخدير والتفتير: فهو يُخدّر ويفتّر، والرسول صلى الله عليه وسلم «نهى عن كل مُسكر ومُفتّر» (صحيح رواه أحمد وأبو داود). والمفتر: ما يورث الفتور والتخدر في الذات.
أحكام حول التدخين.
فالتدخين ثبت أنه مُحرم بأدلة كثيرة، لِما يُنتج دائما من مضارمُهلكة وعواقب وخيمة. لكنْ لا بد من تنبيهات، حول أحكام إضافية تتعلق به:
1) قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: «مَن أكل ثوماً أو بصلاً، فلْيعتزلنا وليعتزل مسجدنا ولْيقعد في بيته» (متفق عليه).
قال هذا صلى الله عليه وسلم ، لكراهة رائحة هاتين الثمرتين. فكيف برائحة التدخين، التي تُؤْذي من يتعاطاه وتؤذي غيره، بل هي ضارة جدا لأن أصلها خبيث، بخلاف الرائحة الطبيعية للبصل والثوم.
2) ما سبق عام في التدخين، سواء كان عن طريق السجائر، أو عن طريق غيرها كالشيشة، بل ثبت أنها أخطر. فصار ضررُها أشد، خصوصا مع انتشار مقاهي الشيشة العامِرة بالشباب أيضا، سواء من الذكور أو من الإناث، فأين نحن من الحساب؟.
3) لا يُعذر أحد بحجة أنه لا يستطيع التوقف عن التدخين، لأن الانقطاع عنه ممكن عادة، مثلما تركه كثيرون. لكنه فقط يحتاج إلى عزيمة قوية، تتقوى بالإيمان بأنه ذنب تجب منه التوبة النّصوح، حسب شروطٍها الأربع: الإقلاع حالاً، والندم دائما، والإحسان كثيرا، وعدم العودة إطلاقا.
4) المال المُكتسب من بيع السجائر، يأخذ حُكمَها في التحريم. لأن الحرام لا يجوز التبايع والاتجار فيه. فلا يحل أبدا لمسلم، أن يتملك السجائر، ولا أن يتبايع أو يتعامل فيها، بأي مبرر من المبررات كالفقر أو غيره. لكن واقعنا مغاير تماما، بانتشار الاسترزاق من المحرمات، في كل مكان.عصَمنا الله جميعا، من الوقوع في هذه المحَرمات.
تنبيه لوجوب النصيحة والإصلاح.
نحن مطالَبون جميعا، بالإسهام في إصلاح الفساد المنتشر بيننا، كل واحد منا على قدْر مسؤوليته وطاقته. لكن معظمَنا يتقاعس عن الإصلاح، مستدِلا صريحا أو ضمنيا بحُجج واهية، كبعض المُثَبطين منا للناصحين، الذين يعتمدون على أدلة مثل قوله تعالى في سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم).
فوجب التحقيق أيضا، في المراد من هذه الآية، من أجل تبيين خطئهم التام في الاستدلال.
لقد كان هذا مثالا واضحا لسوء فهْم النصوص الشرعية، ووضعِها في غير محلِّها عن جهْل تام بمضمونها. أما علماؤنا جزاهم الله عنا خيرا، فقد تصدّى مُعظمهم لتحميل نصوص ما لا تحتمل.
فجاء مثَلا، في تفسير ابن جزي المالكي للآية، في كتابه التسهيل لعلوم التنزيل:
“قيل: إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقيل: … لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم.
والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه أنه قال: «سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: (مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شُحا مطاعاً وهوى مُتَّبَعاً، ودنيا مؤثِّرة، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بخُويصة نفسك وذَرْ عَوامّهم).
ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (قولوا الحق ما قُبل منكم، فإذا رُدّ عليكم فعليكم أنفسكم).”
وفي مسند الإمام أحمد صحيحا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية … وتضعونها على غير ما وضعهاالله. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكِروه، يوشك أن يَعمهم الله بعقابه)”.
فلا نُعذر أبدا بالتوقف عن النُّصح، إلا بعدما نتحقق من رفض المنصوحين له.
إنها حقا تنبيهات من أجلنا جميعا، لمحاربة الفواحش السيئة والْتزام الأخلاق الحسنة.
فاللهم علِّمنا أحكام ديننا، ووفِّقنا للعمل بما علمنا.
واصلحنا واصلِح بنا، واهدنا واهدِ بنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اترك رد