المعهود الشرعي وقيمته الفقهية

المعهود شرعا هو ما تم إثباته من جهة الشرع، لا من جهة العرف، بالتكرار والمداومة حتى أصبح أمرا مقررا معلوما. فمثلا إذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واظب على فعل أو قول ما، في وقت أو أوقات معينة، على سبيل الدوام أو في غالب أمره، كان ذلك قرينة على كونه مطلوبا شرعا، إما على جهة الوجوب أو على جهة الندب. وصدوره عنه بفعل المداومة والمواظبة يصيّره معلوما ومعهودا شرعا.
وفائدته التشريعة عظيمة جدا. إذ باستحضارنا للمعهود شرعا تتبين لنا حكمة السنن والأفعال الواقعة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم نادرا. فأحيانا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يفعل الفعل على هيئة مباينة للهيئة المعتادة منه ـ أي في نفس الفعل ـ غير أن ذلك يكون على جهة الندور والقلة. وما يكون من هذا القبيل غالبا ما يكون المقصود منه بيان الجواز. فنخلص إلى أن الفعل الذي يقع على الجهة المعتادة هو الأصل والمطلوب، وما يأتي على خلاف ذلك نادرا يكون استثناء وغايته بيان الجواز.
ومن ثم نعتبر الأفعال الواقعة أصلا، والتي تتسم بصفة الدوام والاستمرار، معهودة شرعا. وهي المطلوبة واقعا وفعلا. وما وقع استثناء ونادرا لا نتخذه تشريعا للدوام، وإنما نتعامل معه على أنه تشريع جزئي لبيان الجواز، ونستعمله عند الحاجة، ولا يصح شرعا واستنانا أن يصبح عادة وينقلب أصلا، لأن ذلك يؤول إلى نقض السنن الثابتة وهدم الأفعال التي قصد الشارع ابتداء إيقاعها على سبيل الاستمرار والاستقرار.
إن من أهم الوظائف التشريعية لهذا النوع من “المعهود” أن يمكننا من المزايلة بين ما هو عزيمة، وبين ما هو رخصة. فلا نتمسك بالعزيمة تنطعا وتشددا، ولا نبحث عن الرخصة تكاسلا وتصيّدا.ولنبين ما قلناه بشيء من الأمثلة.
إذا نظرنا في مجموع الآيات من القرآن الكريم المتعلقة بوقوت الصلاة 1، وكذلك الأحاديث الواردة في ذات الشأن2 ، نخلص إلى أن المحافظة على الصلاة في وقتها خصلة مطلوبة شرعا على جهة الوجوب والدوام، وهذا من قطعيات الشريعة التي لا خلاف فيها.
إذا تقرر هذا، فكيف نفهم جمع النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في الحديث الذي رواه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والذي قال فيه: ” صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف ولا سفر ” 3 ؟
هل هو تشريع لجواز تأخير الصلاة عن وقتها والجمع بينها وبين الصلاة الأخرى من غير عذر مسوّغ؟ إذا قلنا بهذا، فإننا نكون قد نقضنا الأصل القطعي المقرّر شرعا، وهو أصل المحافظة على كل صلاة في وقتها. فما هو توجيه الحديث إذا؟ إذ من المحال أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف الشرع.
الجواب في قول ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن ذلك: ” أراد أن لا يحرج أمته ” 4. وفي رواية: ” أراد أن لا يحرج أحد من أمته “5 . أي أن الجمع بين الصلاتين ـ في الحضرـ إنما يسوغ فعله إذا كان عدم الجمع من شأنه أن يوقع الناس أو فرد منهم في الحرج، وقد تقرر شرعا بقوله تعالى: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ }6 ، وغيرها من الآيات والأحاديث، أن الحرج مرفوع، وأن المشقة تجلب التيسير. ومن ثم فلا يجوز أن يصبح الجمع عادة، يجمع المرء الصلاتين بغير عذر، بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. فالحديث إنما هو دليل للجمع في الحالات الحرجة، تشريع إغاثة ورخصة هو لا تشريع أصالة وعزيمة. تشريع هو من علامات يسر الملة، وتجلّ من تجليات الرحمة النبوية، رحمة النبي صلى الله ليه وسلم بأمته.
مثال آخر: يعتبر تحديد وقت صلاة الصبح المختار من المسائل الفقهيه الخلافية بين أهل العلم، ” فذهب الكوفيون, وأبو حنيفة وأصحابه, والثوري, وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل. وذهب مالك, والشافعي, وأصحابه, وأحمد بن حنبل, وأبو ثور, وداود, إلى أن التغليس بها أفضل”7 .
ومما استدل به أصحاب القول الأول8 أن الإسفار بالصبح يمكن الناس من أن يبقوا ماكثين للذكر حتى تطلع الشمس، وهو أمر مندوب إليه شرعا9 .
تدل الأحاديث الواردة في هذه المسألة أن الإسفار ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم،غير أنه نادر وقليل، إذ غالب أمره التغليس بالصبح. يدل عليه ما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن10 ما يعرفن من الغلس”11 .
قال الباجي في شرحه لحديث عائشة:” وفي هذا الحديث دليل على أن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في أول وقتها لقولها: ” إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح”. وهذا اللفظ لا يستعمل إلا فيما يثابرعليه.وذلك دليل على أن في أول وقتها أفضل من أدائها في سائره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثابر على ذلك إلا للفضيلة”12 .
قول الباجي رحمه الله:” وهذا اللفظ لا يستعمل إلا فيما يثابرعليه” إشارة واضحة إلى أن المعهود في الشرع التغليس بالصبح. قال ابن عبد البر:” صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون. ومحال أن يتركوا الأفضل ويأتوا الدون وهم النهاية في إتيان الفضائل”13 . ويعزز هذا حديث ابن مسعود رضي الله عنه في المواقيت، فقد روى عنه أبو داود في سننه قوله: ” وصلى الصبح ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر “14
إذن إذا كان التغليس بالصبح معهودا شرعا، ومن ثم يكون هو الأفضل والمطلوب بالأصل، بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فإن إسفاره به مرة يدل على جوازه للحاجة. إذ قد تحف بالإنسان حالة يعسر عليه بسببها أن يصلي الصبح في أول وقته، فتكون سنة الإسفار مخرجا له من الضيق، ولكن ينبغي أن لا تتخذ عادة.
ومن هذا الباب أيضا ما ورد من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في اكتفائه بالغسلة الواحدة أو الغسلتين، فقد وقع ذلك نادرا لبيان الجواز، ولكن المعهود عنه التثليث. وكذلك الشأن في بعض الأثار التي يظهر منها أنه لم يتوضأ بعد الحدث مباشرة، مع أن عادته جرت بخلاف ذلك، فيكون عدم وضوءه بعد الحدث قصد منه بيان الجواز، ويكون ما عهد منه من استدامة الطهارة إرشادا للأفضل والأمثل. وقس على هذا سائر السنن التي جرت على هذا السَّنن، لا يستقيم لنا الفهم فيها إلا بمراعاة المعهود فيها شرعا.
ومن ثمرات المعهود الشرعي أيضا أنه يرجع إليه لتحديد الأثر الشرعي الذي يترتب على بعض العبارات مثلا التي يتلفظ بها الناس، وفيها نوع من الإبهام الناتج عن الإطلاق او الإجمال اللفظي. فمثلا لو قال شخص على جهة النذر: عليّ هدي. فإن ذمته تبرأ بذبح شاة أو بقرة أو إبل، لأن الهدي لا يكون إلا من الأنعام في معهود الشرع.

الهوامش:

[1]منها قول الله عز وجل: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } الآية 238 من سورة البقرة. ومنها قوله سبحانه: { إن الصلاة كانت على المومنين كتابا موقوتا } الآية 103 من سورة النساء.

[2]منها: روى البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: ” الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله “. صحيح البخاري 9/156 – كتاب التوحيد، باب وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملا. ح 7534.

[3]صحيح مسلم 1/489 – كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، ح 705.

[4] صحيح مسلم 1/490 – كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر. ح 705.

[5]صحيح ابن حزيمة 2/85، حديث 971.

[6]جزء من الآية 7 من سورة المائدة

[7]بداية المجتهد ونهاية المقتصد، 1/129 للإمام أبي الوليد بن رشد (ت595)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418ه/1997م.

[8] ينظر المبسوط للسرخسي 1/146. دار المعرفة، بيروت، 1409ه/ 1989م.

[9]روى الترمذي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة ” قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ” تامة تامة تامة. سنن الترمذي 2/481- أبواب الجمعة، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح، ح 586.

[10]متلفعات:متلقفات.والمرط:كساء معلم من خز أو صوف.فتح الباري 2/55

[11]صحيح البخاري 1/120 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، ح 578.

[12]المنتقى، 1/214.

[13]التمهيد لابن عبد البر، ط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1387ه.

[14]سنن أبي داود 1/107 – كتاب الصلاة، باب في المواقيت. ح 394.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ محمد مغربي
    محمد مغربي

    السلام عليكم ورحمة الله، مقال جيد العرض حسن الأسلوب، وافر الفكرة. بيد أني أقترح على الأستاذ الفاضل د.رشيد السمغولي توسيع الفكرة ببيان محاسن التأصيل وبواكير التأليف في هذا الموضوع، وكيفية توجيه الفروق بين ما هو معهود ومستثنى، وإحكام الضابط في ذلك، واستخلاص القواعد الفرعية المنهجية في ذلك وترتيبها وفق منظرو تجديدي يعكس مهارات التطبيقات الفقهيةالمعاصرة. والله أعلم ، نفع الله بكم

  2. الصورة الرمزية لـ علي عبدالسلام
    علي عبدالسلام

    السلام عليكم دكتور رشيد أحتاج إلى الاطلاع على أطرحتك فكيف السبيل ؟ هل يمكنني الحصول على نسخة عن طريق الإيميل مع تحياتي وشكري.

  3. الصورة الرمزية لـ علي عبدالسلام
    علي عبدالسلام

    أطروحتك

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: