هل للثورة التونسية مشروع ثقافي؟ .. د. محمد الهادي الطاهري

د. محمد الهادي الطاهري، جامعة جندوبة.

تمهيد:
في حديث له إلى إحدى الصحف التونسية قال محمود طرشونة الكاتب والأستاذ الجامعي ردّا على سؤال يتعلّق بالمخاطر التي تهدّد الثورة التونسية: “للثورة التونسية مشروع ثقافي يحميها”، ومضى يوضّح هذا المشروع مستعرضا أهمّ عناوينه الكبرى وانتهى إلى اعتبار حركة الإصلاح التي بدأها التونسيّون منذ أواسط القرن التاسع عشر وما تولّد عنها من تحوّلات هامّة في الفكر والسياسة والمجتمع تمثّل ذلك المشروع الثقافي الذي يحمي الثورة التونسية من الانحراف عن مسارها.
في هذا الكلام كما نرى ربط بين لحظتين تاريخيّتين متباعدتين وهما لحظة الثورة التي مازلنا نعيش على وقعها ولحظة الإصلاح التي عاشتها تونس وما ترتّب عنها طيلة قرنين من الزمان من مؤسّسات وتصوّرات وأفكار وقيم وممارسات. فمن المعلوم أنّ حركة الإصلاح تكوّنت وتبلورت ضمن سياق حضاري وثقافي تميّز خاصّة بسؤالين اثنين وهما: لماذا تأخّرنا؟ وكيف نلحق بركب الحضارة؟ ومن المعلوم أيضا أنّ الأجوبة التي قدّمها روّاد الإصلاح في تونس وتوسّع فيها من جاء بعدهم انحصرت في نقطتين: إصلاح الدولة خاصّة لضمان الشرط الأوّل لنموّ العمران البشري وهو العدل، وإصلاح الفكر لضمان الشرط الأوّل للتقدّم وهو المعرفة. أجوبة يسهل الوقوف عليها في مظانّها بمجرّد العودة إلى ما كتبه ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي وما تداوله نشطاء حركة الشبان التونسيين في نصوصهم السياسية والفكرية (الثعالبي، سالم بوحاجب، علي باش حامبه…) وما خلّفه تراث الحركة الوطنيّة بوجهيها السياسي والنقابي طيلة العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. وفي بداية العقد الرابع من القرن العشرين عمّق بعض الكتّاب والمفكّرين هاتين النقطتين فكتب الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” ووضع بذلك اللبنة الأولى لمشروع إصلاح دينيّ يفضي إلى مشروع إصلاح اجتماعي، وكتب محمد الطاهر بن عاشور “أليس الصبح بقريب” فوضع اللبنة الأولى لمشروع إصلاح تربوي يكون مقدّمة لإصلاح حضاري شامل.
لقد تأسس هذا المشروع الإصلاحي منذ ولادته على جملة من القيم الحضارية الكونيّة أهمّها قيم الحرّية والعدل والعقل، واعتمد في إشاعتها والإقناع بها والدفاع عنها كمّا هائلا من النصوص والرموز العربيّة والإسلاميّة، ووجد لها في تراث الإسلام النيّر حججا تقوّيها. وكانت النتيجة أن اكتمل المشروع الإصلاحي في مبدإ الموازنة بين القديم والجديد أو بين قيم الحضارة الإسلاميّة وقيم الحضارة الحديثة، وعلى هذا الأساس كانت دولة الاستقلال وريثا لتراث الحركة الإصلاحية فمضت بتشريعاتها ومشاريعها إلى تجسيد الأفكار التي نادى بها المصلحون، فنشأت نظم تربوية واجتماعية وسياسية جديدة (التعليم المدني بدل التعليم الديني، ومجلّة الأحوال الشخصية بدل الأحكام الفقهية القديمة، والمحاكم المدنية بدل المحاكم الشرعية والجمهورية بدل المملكة) نقلت المجتمع التونسي من زمن إلى زمن وهذا ظاهر في مختلف أوجه الحياة المدنية وفي أنماط العيش والسلوك.
لحظة الإصلاح إذن لحظة تاريخية تمتدّ من أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، وهي لحظة طويلة صارعت فيها الحركة الإصلاحية قوى اجتماعية وسياسية وفكريّة متعدّدة، واستطاعت أن تؤتي ثمارها وتؤثّر في المجتمع التونسي على مختلف الأصعدة. ولكنّ هذا لا ينفي الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ظلّت تهدّد المشروع الإصلاحي على مرّ العقود حتّى كادت تقضي عليه، ومن هذه المشاكل نذكر تزايد نسب الفقر بين السكان وتزايد حالات التعدّي على الحريات العامة والفردية وتزايد الاختلال في التوازنات الاجتماعية والجهوية الأمر الذي بات يهدّد أهم مبادئ المشروع الثقافي الإصلاحي وهي مبدأ العدل الذي اعتبره المصلحون الأوائل شرطا لتنمية العمران البشري، ومبدأ الحرّية الذي يمثّل من منظورهم شرطا لولادة إنسان جديد.
1. الثورة التونسية ثورة على اللصوصية:
إنّ الدولة الوطنية التي ورثت المشروع الإصلاحي واحتكرته لنفسها وباتت وصيّا عليه تنكّرت في العقدين الأخيرين (من 1990 إلى 2010) لأبرز مبدإ من مبادئ الحركة الإصلاحية وهو مبدأ المعرفة وما يقتضيه ذلك من إعلاء للعقل وقيمه. ويتجلّى لنا ذلك بالخصوص في تفشّي جملة من القيم الاجتماعية الجديدة المتناقضة في جوهرها مع قيم المعرفة والعقل ونعني بالخصوص ما لحق رموز المعرفة في المجتمع وهم المثقّفون عامّة والمربّون خاصّة من ضرر مادّي ومعنوي بسبب التنامي المفرط لظاهرة اللصوصية (banditisme le) إذ بات الجميع يلاحظ صعود فئات اجتماعية جديدة لا حظّ لها من المعرفة والعلم والأخلاق ولكنّها رغم ذلك باتت في أعلى مراتب المجتمع والدولة، وإذا كان البعض يسمّيها البورجوازية الطفيلية، أي هي بورجوازية لما لديها من الثروة ولكنّها طفيلية لأنّ ثروتها لم تكن حصيلة إنتاج بقدر ما كانت حصيلة لصوصية، فالأفضل في تقديري أن نسمّيها بطبقة الأغنياء الجدد وهم الأغنياء الذين حازوا ثروات دون أن تكون لهم وسائل إنتاج، فنشأت بالضرورة طبقة الفقراء الجدد وهم في الواقع يمتلكون وسائل الإنتاج وقوّة العمل ولكنّهم لا يجنون منها شيئا والسبب في ذلك طبعا هو استيلاء اللصوص على ثرواتهم بشتّى الأساليب وخاصّة منها أسلوب اللصوصية إذ تشكّلت عصابات مافيوزية لا همّ لها سوى الإثراء بكلّ الطرق، واستخدمت أعوانا كثيرين من السياسيين والإعلاميين والقضاة والأمنيين والمثقّفين لتحقيق أهدافها والتغطية على ما فيها من الجرم ولتسويغها ثقافيّا وقانونيّا (La Régente de Carthage )
هذه الوضعية الجديدة التي وجد التونسيّون أنفسهم أمامها هي التي ولّدت لديهم وعيا بالقهر، فقد كانوا يشعرون بالمرارة وهم يلاحظون المتعلّمين يعانون ضنك العيش بينما ينعم الجهلة ومن لا حظّ لهم من المعرفة وبالتالي من القيم النبيلة بمتع الحياة كلّها، وتولّدت عن ذلك موجة غضب دفين ظلّت تتنامى حتّى أشعلت فتيل الثورة وخرج الناس إلى الشارع لمواجهة عصابة اللصوص مقتنعين تمام الاقتناع بأنّ ما تشهده تونس من تدهور اجتماعي وسياسي يعود أوّلا وأخيرا إلى اللصوصية.
ولكن هل بلورت الثورة التونسية مشروعا ثقافيا لمواجهة اللصوصية؟ أي هل أعدّت العدّة لمقاومة اللصوص وثقافتهم ( ثقافة العنف والجهل والقوّة والإثراء السريع)؟ الجواب عن هذين السؤالين لا يتمّ قبل الوقوف عند التداعيات الثقافية التي أنتجتها الثورة، وهي تداعيات سنقرؤها في مستويين اثنين: مستوى الجدل الفكري الدائر على منابر الإعلام وفي مختلف مجالات التواصل الاجتماعي الحقيقي (الفضاءات العامة كالمدارس والمساجد ودور الثقافة ومواقع العمل) أو الافتراضي (الفايسبوك، تويتر…)، ومستوى الممارسات الاجتماعية (التعامل بين الأفراد والجماعات)
2. الجدل الفكري:
لا شكّ أن أبرز ظاهرة تلفت الانتباه بعد 14 جانفي 2011 هي العودة القوية لوسائل الاتصال التقليدي كالمحطّات التلفزيونية والإذاعية والمجلاّت والجرائد الورقية بعد أن كانت قبل الثورة مفقودة أو محدودة، الأمر الذي جعل من وسائل الاتصال الحديثة (الانترنت خاصّة) القناة الوحيدة للتواصل بين شباب الثورة وبين العالم. قنوات قديمة وأخرى جديدة وصحف ومجلات قديمة وأخرى جديدة اندفعت كلّها وفي وقت واحد تقريبا نحو سؤال واحد وهو: لماذا ثرنا؟ وهو سؤال صيغ بشكل ينطوي على معنيين مترابطين وهما السببية والغائيّة. لماذا ثرنا أي ما الأسباب الحقيقيّة التي جعلتنا نرفض هذا الواقع، ولماذا ثرنا أي ما الغايات التي نأمل في الوصول إليها. ولكن المتتبّع لما يجري من جدل يلاحظ خطّة لصرف الناس عن الأسباب التي جعلت التونسيين ينتفضون ضد بن علي وأعوانه نحو التفكير في الأهداف التي يريدون الوصول إليها. التفكير في الأهداف ضروري ومطلوب لأنّه يعكس انشغالا بالمصير الذي نريده لأنفسنا، ولكنّه يظلّ تفكيرا ناقصا ما لم نفهم العوامل الحقيقية التي دفعتنا إلى رفض الواقع السابق. ولكنّ المتابع لما يدور من جدل بين الأفراد والجماعات لا يلمس وعيا سليما بالعوامل ويلمس في المقابل أحلاما كثيرة متناقضة أحيانا ولكنّها تعبّر في مجملها عن هواجس ثقافية وحضارية قديمة سرعان ما استعادها الناس رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها. وهذا يعني أن من يدير هذا الجدل، وهم “المثقّفون” العاملون في المجال الإعلامي أوّلا وفي المجالين الفكري والسياسيّ ثانيا، لم يرتق بعد إلى أن يكون مثقّفا عضويّا أي منتميا إلى لحظته التاريخيّة وظلّ في الغالب مثقّفا تقليديّا يسترجع أسئلة لا صلة لها بالمرحلة التي يعانيها مجتمعه. ويظهر هذا بالخصوص في نوعيّة الأسئلة التي انشغل بها المثقّفون وشغلوا بها الناس وهي أسئلة تدور عموما حول سؤال الهويّة، أي من نحن؟ من الآخر؟ وأي علاقة لنا به؟
هذه الأسئلة جزء من سؤال الهوية الذي طرحه زعماء الإصلاح منذ قرنين تقريبا وها هو يعود اليوم كأن التاريخ توقف عن الحركة. وبعودة السؤال عادت الأجوبة القديمة نفسها، فمن التونسيين اليوم من يتحدّث عن الإسلام ومنهم من يتحدّث عن العروبة ومنهم من يتحدّث عن العروبة والإسلام ومنهم من يتحدّث عن هويّات أخرى متوسّطية وبربريّة أو أمازيغية، ومنهم من اجتزأ من الإسلام هويّة فرعية فيتحدّث عن المالكية أو السنّة أو الأشعريّة، أمّا الآخر فهو إمّا الكافر الملحد أو العلماني أو الحداثي أو الظلاميّ أو الرجعي أو الشيعيّ أو الوهابي التكفيري… عادت الأسئلة القديمة إذن وعادت معها الأجوبة القديمة مشحونة بشحنات عصرية تتماشى مع المتغيّرات الدولية والإقليمية فازداد الموقف تعقيدا وبات التونسيون لا يدرون على أي أرض يقفون. وحين يكون الوضع على هذا النحو ويكون “المثقّف” على هذه الشاكلة نكون إزاء ما يعرف في العلوم الإنسانية وفي الفلسفة بالاغتراب أو الاستلاب aliénation وهو أن يفقد الإنسان فردا أو جماعة وعيه بلحظته التاريخية ويعيش على وعي زائف وعلى الأوهام بدل الحقائق والوقائع.
نحن إذن إزاء “مثقّف” يحترف تزييف الوعي وهذا هو بالضبط معنى الإيديولوجيا بما هي نقيض العلم، لذلك لا نستغرب حدّة الصراع بين الإيديولوجيات أي بين زيف وزيف. قد تكون الأوهام جميلة، وقد تكون كما قال نيتشه أفضل من الحقيقة إذا كانت الحقيقة مميتة، ولكنّ الأوهام التي يصنعها “المثقّفون” اليوم لا تحيي بل تميت بالمعنيين الحقيقي والمجازي، هي تميت لأنّها تقود الجماعات إلى الاقتتال، وهي تميت أيضا لأنّها تفصل الناس عن واقعهم وترحل بهم بعيدا في الماضي.
هل هذا من تداعيات الثورة؟ نعم هو كذلك، ولهذا السبب نقول إنّ ما حدث في تونس منذ نهاية 2010 لم يكن مجرّد احتجاج على وضع اجتماعي واقتصادي متدهور، هو كذلك في مستوى البنية السطحية للحركة الاحتجاجية التي أطاحت بالنظام السابق ولكنّه في مستوى البنية العميقة لحظة تاريخية حاسمة وجد التونسيون فيها أنفسهم مدفوعين إلى مراجعة اختيارهم الثقافي القديم الذي حسمت أمره الحركة الإصلاحية على امتداد قرن كامل أي من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وهو اختيار ثقافي يقوم أساسا على مبدإ الموازنة بين الأصالة والمعاصرة أو بين التراث والحداثة.( توسّعنا في هذا الموضوع في مداخلة بعنوان: “مستقبل المشروع الإصلاحي في تونس” قدّمت ضمن أشغال الندوة العلمية المنعقدة بالمعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بالكاف يومي 26 و27 أفريل 2012 تحت عنوان “الاختيارات الفكرية المطروحة في تونس اليوم” وهي ندوة نظمّتها الجمعية الجهوية للدراسات الثقافية بالكاف بالاشتراك مع المعهد المذكور. ) ولئن كان منطق التاريخ يقتضي أن تراجع الأمم والشعوب اختياراتها الثقافيّة فهذا المنطق نفسه يقتضي أن تكون المراجعة تاريخيّة أي أن يكون الاختيار الثقافي البديل تجاوزا إيجابيّا للاختيار الثقافي القديم، أمّا ما يدور في تونس اليوم من جدل فيشير إلى تراجع بدل المراجعة ويظهر هذا التراجع خاصّة في ما تفرّع عن هذا الجدل حول الهوية من نقاشات كثيرة تتعلّق بعدد من الإشكاليات المهمّة مثل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وإشكالية المرأة ومنزلتها في المجتمع وعلاقتها بالرجل، وإشكالية الحرّية والأمن، وإشكالية الدين والحريات الفردية. لقد طُرحت هذه الإشكاليات كلّها في وقت واحد وتناولها الناس في مختلف المنابر الإعلامية والعلمية والدينية، وفي مختلف الفضاءات العامّة، في المقاهي وفي مواقع العمل وفي ساحات المدارس والجامعات حتّى تحوّلت إلى شأن عام يشغل الناس جميعهم. ونتج عن تداولها العمومي أخذ وردّ وهرج ومرج فانقسم الناس جماعات جماعات وتراشقوا التهم واحتدم الصراع بينهم حتّى أخذ أحيانا طابعا عنيفا، فاعتدى البعض على البعض الآخر وأُحرقت مقرّات دينية وسياسية وثقافية.
جدل فكري يقود إلى صراع عنيف تذمّر منه الناس حتّى أن البعض ندم عمّا حدث وتمنّى لو أن ثورة لم تكن. فماذا يعني هذا؟ ماذا يعني أن تعود الأسئلة القديمة وأن تعود معها الأجوبة القديمة مشحونة بكلّ ما راكمه التاريخ من مشاعر وعواطف وأحاسيس؟ وماذا يعني أن ينقسم الناس إلى جماعات متناحرة وقد كانوا في الماضي القريب موحّدين في مواجهتهم للقمع ولعصابة اللصوص؟
إذا نظرنا في هذه الأسئلة من زاوية سوسيو/ ثقافية تبيّن لنا أن التونسيين اندفعوا في أوج المواجهة مع النظام القديم إلى مراجعة اختيارهم الثقافي القديم وهذا ظاهر جليّ في الكثير من المواقف الراديكالية التي أبداها شباب الثورة والكثير من الأحزاب الراديكالية في اعتصامي القصبة الأوّل والثاني حين أصرّت على المطالبة بحلّ الدستور والمؤسّسات المنبثقة عنه (مجلس النواب، مجلس المستشارين، رئاسة الجمهورية) والدعوة إلى مجلس وطني تأسيسي، وهي مطالب تشكّلت قبل ذلك في المجلس الوطني لحماية الثورة وفروعه في الجهات. إنّ المطالبة بمجلس وطني تأسيسي تعني في نهاية التحليل هدم الأسس الفكرية والقانونية التي انبنت عليها الدولة الوطنية والمشروع الإصلاحي، وبناء أسس جديدة أي عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم وهذا يتطلّب بالضرورة تصوّرا مختلفا وفلسفة مختلفة أي اختيارا ثقافيّا مختلفا عن الاختيار الثقافي القديم. ولهذا السبب تحديدا انخرط الناس في هذا الجدل الفكري بمختلف عناوينه لأنّهم كانوا مندفعين نحو تمثّل آخر لوجودهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولا سلاح لديهم في هذا الصراع سوى أحلامهم أو أوهامهم (الحلم الإسلامي ببناء دولة الخلافة، والحلم الشيوعي ببناء الدولة الاشتراكية، والحلم الليبرالي ببناء دولة الحق، والحلم القومي العربي ببناء الوحدة العربيّة…). دخل الجميع المعركة إذن ولدى كلّ طرف منهم مشروع ثقافي خاص به (المشروع الإسلامي، المشروع القومي العربي، المشروع الاشتراكي، المشروع الليبرالي)، ومن الطبيعي أن يحدث الصدام بين هذه المشاريع المتناقضة وأن ينجرّ عن الصدام تصدّع اجتماعي ينذر بحرب أهلية بين الخصوم. وممّا زاد في حدّة هذا الصراع أن هذه المشاريع الثقافية المتناقضة تفتقر إلى الوضوح لأنّها في الغالب شعارات وعناوين كبرى لم يجتهد أصحابها في بلورتها وتفصيلها، ولهذا السبب كانت التناقضات في صلب هذا المشروع أو ذاك صارخة.
ولعلّ ما جعل كلّ هذه المشاريع على هذا النحو من الغموض والتناقض أحيانا هو أن أصحابها لم يحسموا أمرهم بعد، فالمتغيّرات العالمية الكبرى التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين قلبت الكثير من التصوّرات والمفاهيم وتولّد عنها وعي جديد بالإنسان والوجود وثقافة جديدة هي ثقافة العولمة والعولمة المضادّة وقيمها التي زعزعت الكثير من المفاهيم القديمة عن الفرد والدولة والمجتمع والحرية والعدل والأخلاق والعمل، مقابل ذلك مازال زعماؤنا يفكّرون بمنطق قديم لم يرق بعد إلى منطق زعماء حركة الإصلاح في القرنين التاسع عشر والعشرين.
مشاريع ثقافية مستوحاة من لحظات الماضي تتصدّر المشهد وتتصارع في ما بينها وتصارع مجريات الواقع المحليّ والإقليميّ والدوليّ ولكنّها لم تلامس الواقع السوسيو ثقافي الذي نعيشه ولم تفكّر فيه ولم تبحث له عن حلول وهو واقع اللصوصيّة. اللصوصيّة ثقافة لا تؤمن بقيم العلم والعمل والفنّ والخير والجمال والصدق والحبّ ولذلك لم تنتج غير الجهل والكسل والشرّ والكذب والكراهيّة، ومن المؤسف حقّا أن نرى فئات اجتماعيّة كثيرة يُفترض أن تكون مثقّفة تنزلق يوما بعد يوم نحو مستنقع اللصوصيّة وتتراجع عن قيمها وأخلاقها والأخطر من ذلك أن تبرّر انزلاقاتها وأن تبتكر لها تفسيرا. وهنا تحديدا تتشكّل الثقافة اللصوصيّة أي حين نجد من المثقّفين من يسمح لنفسه بالانخراط الفعلي في واقع اللصوصيّة بدعوى مجاراة الواقع وتحوّلاته.
هذا الواقع الثقافي البائس مهمل لم يتناوله “المثقّفون” بالدرس والتحليل ولم يكن بمقدورهم أن يفعلوا ذلك لأنّهم مثقّفون تقليديّون منفصلون عن لحظتهم التاريخية منشغلون بقضايا قديمة فكّر فيها السابقون ووجدوا لها الحلول الممكنة في عصرهم، وحين يستمرّ مثقّف اليوم في طرح قضايا الأمس فهو لا يعدو أن يقترف جرمين في وقت واحد وهما الإساءة إلى من سبقه من المثقّفين والإساءة إلى مجتمعه الذي يعيش فيه.
3. الممارسات الاجتماعية:
ليست الثقافة أفكارا مجرّدة لأنّها في واقع الأمر سلوك فرديّ وجماعيّ يعبّر عن تمثّل الإنسان لذاته وللآخرين من حوله وللزمان والمكان الذي هو فيه، وهو سلوك يظهر في كلّ ما يأتيه المرء من أفعال وردود أفعال سواء كان ذلك في علاقته بجسده أو في علاقته بمن حوله وما حوله. والناس لا يتبادلون الأفكار أو السلع فحسب بل يتبادلون القيم والمشاعر والعواطف أيضا، ولهذا يكون للممارسات الاجتماعية دور هامّ في الكشف عن التداعيات الثقافية التي أنتجتها الثورة، وهي ممارسات تعبّر بشكل أو بآخر عن تمثّلات أصحابها لذواتهم ولغيرهم وللحياة في أوسع معانيها. وإذا تأمّلنا في نماذج من السلوك الفردي والجماعي لبعض الفئات من الناس نلاحظ صنفين من السلوك:
• التسيّب بدل ااينضباط:
ويظهر خاصّة في ميل الكثير من الناس أفرادا وجماعات إلى التصرّف في الفضاءات العامّة على غير ما توجبه الأعراف والقوانين. والأمثلة على ذلك كثيرة منها الاختراق الواضح لقانون الطرقات بالنسبة إلى الكثير من مستعملي الطريق، ومنها التعدّي الواضح على التراتيب البلدية كاحتلال الأرصفة والحدائق العامّة والساحات العمومية واستعمالها لبناء المتاجر أو المساكن، والتعدّي على الجيران بغلق الأنهج والممرّات واستغلالها لتوسيع مسكن أو متجر، والمجاهرة بالسكر في الطريق العام وفي الفضاءات العامّة، وإقامة الصلوات في الشوارع وفي مراكز العمل وأوقاته، واحتلال المساجد وحمل المصلّين فيها على الوقوف وراء إمام لم تكلّفه الدولة بذلك، إضافة إلى ما يلاحظه الناس في الأسواق من خرق واضح لقوانين البيع والشراء.
كلّ هذه الممارسات علامة على تمثّل أصحابها لذواتهم ولغيرهم، فهم يعبّرون بهذا السلوك عن نزعتهم إلى التخلّص من أبرز قيد لهم وهو القانون أو العرف، وعن تضخّم في ذواتهم لا يرون من خلاله للآخر معنى، وعن احتقار للوجود الجماعي والعيش المشترك. ولئن فهم البعض هذه التصرّفات على أنّها العلامة الكبرى على غياب الدولة أو ضعفها فهي في نظرنا أبعد خطرا من ذلك، فالأمر لا يعني غياب الدولة أو ضعفها فقط بل يعني أساسا تمثّلا للوجود والحياة بلا ضوابط ولا قيود أي تمثّلا فوضويّا للعالم فلا تحكمه إلاّ القوّة المادّية، والدليل على ذلك أنّ أصحاب هذا السلوك هم في الغالب من المعتدّين بقوّتهم البدنية الفردية أو بقوّتهم الجماعية كأن يكونوا أفراد من عصبيّة دينية أو قبليّة أو جغرافية معيّنة، وهذا يعني أنّهم يحترفون اللصوصية le banditisme ، اللصوصية إذن قيم وممارسات. أمّا من حيث هي قيم فتتجلّى في احتقار العلم والعمل أساسا وما يترتّب عن ذلك من نتائج بيّنا بعضها سابقا، وأمّا من حيث هي ممارسات فتتلخّص في التعدّي على ما يضمن للمجتمع بمختلف مكوّناته قدرا من الاستقرار لا يتأتّى إلاّ إذا شعر الجميع بالحدّ الأدنى من الاطمئنان على وجوده المادّي والرمزي وهو المسمّى في علم العمران البشري بالأمن أي أن يأمن الإنسان فردا أو جماعة على حياته وشرفه وماله. وهذا النوع من الأمن لا تضمنه سوى السلطة بما لديها من قوّة القهر ليكفّ الناس عن ظلم بعضهم البعض. وبالتالي فاللصوصية في مستوى القيم نقيض نوعيّ لمعنى العقل وقيمه، وهي في مستوى الممارسة نقيض نوعيّ لمعنى الدولة وقيمها. وهي في الحالتين ظاهرة تتفشّى في المجتمع كلّما فقد العقل منزلته ليحلّ محلّه الجهل، وكلّما فقدت الدولة قدرتها على القيام بوظيفتها الوجوديّة وهي حماية الناس أفرادا وجماعات من كلّ ما يهدّد أمنهم. اللصوصية إذن مظهر من مظاهر التمرّد على الدولة وعلى المجتمع بأسره.
• العنف بدل الحوار:
التسيّب كما رأينا تجاوز للحدود التي يفرضها المجتمع ثمّ الدولة لكبح الأفراد والجماعات ومنعهم من تهديد أمن بعضهم البعض، وبالتالي كلّما كان هناك تسيّب كانت النتيجة حتما هي العنف، والمقصود هنا تحديدا العنف المادّي الذي يمارسه الناس على بعضهم البعض بدءا بالضرب وصولا إلى القتل، ولنا في ما عاشته تونس طيلة السنوات المنقضية من أحداث دامية أكثر من دليل، ومن الأمثلة البارزة على ذلك الاقتتال الجماعي بين العشائر في بعض قرى الجنوب والساحل وما خلّفه من خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، والمصادمات الدامية بين الفصائل الطلابية في الجامعات، والاغتيالات التي راح ضحيّتها بعض القادة السياسيين. أمّا المواجهات بين القوات النظاميّة وبعض الجماعات المسلّحة في مناطق مختلفة وما نتج عن ذلك من قتل فصنف آخر من العنف يتبادله القائمون على تنفيذ القانون والخارجون عنه.
قد يكون اللجوء إلى العنف ناتجا عن الشعور بالحاجة إلى الدفاع عن الوجود عند الإحساس بخطر داهم، وقد يكون ناتجا عن رغبة في التغلّب على الأخر والهيمنة عليه وجرّه للاعتراف بالمعتدي، وقد يكون أحيانا أخرى سلوكا مرضيّا، ولكنّ الذي يعنينا هو العنف الاجتماعي الذي تمارسه الجماعات على بعضها البعض سواء كانت هذه الجماعات دينية أو سياسية أو قبلية أو جغرافية، وهو عنف يمكن أن نعالجه في مستويات متفاوتة، فإذا نظرنا إليه من حيث الدرجة وجدناه ينقسم إلى عنف مادّي كالضرب والقتل والحصار والإرغام على القيام بأفعال أو التلفّظ بأقوال تحت التهديد وعنف معنويّ كالشتم والسباب والتوجه للآخر بالكلام البذيء… وإذا نظرنا إليه من حيث هو سلوك اجتماعي يتبادله فاعلون اجتماعيّون (أحزاب، نقابات، جمعيّات، قبائل، أحياء سكنيّة، فئات اجتماعيّة…) وجدناه ينقسم إلى أنواع عدّة حسب الأطراف المشاركة فيه (عنف سياسي، عنف دينيّ، عنف قبليّ…) وإذا نظرنا إليه من منظور أخلاقيّ ميّزنا فيه بين العنف المبرّر والعنف الذي لا مبرّر له، إذ قد نقبل أخلاقيّا أن يتبادل الناس مختلف أنواع العنف الخفيف مادّيا أو معنويّا ولكنّنا لا نقبل أن يتبادلوا العنف الشديد مهما كانت الدواعي إليه لأنّ النتائج المترتّبة عن العنف الخفيف لا تعدو أن تكون مظهرا من مظاهر التوتّر والصراع بين الجماعات وهي في النهاية علامة على حدّة الخلاف بين الأطراف سواء كان هذا الخلاف سياسيّا أو فكريّا أو جهويّا أو اقتصاديّا، أمّا العنف الشديد فيقود حتما إلى أضرار مادّية ومعنويّة جسيمة مثل الإعاقة والموت والإقصاء النهائي من الوجود الاجتماعيّ.
وإذا كان التونسيّون قد أفرطوا في تبادل مختلف أنواع العنف المشار إليها طيلة السنوات الماضية فهذا يعني من منظور سوسيو ثقافي أنّ ما كان يسمّى “المجتمع التونسي” قد فقد الكثير من شروط استمراره وأهمّها شرط الهويّة وما يترتّب عنها من شعور بالانتماء إلى كيان ثقافي اجتماعي سياسي يسمّى الوطن. والعنف إذا ازدادت وتيرته وامتدّ ليشمل كلّ مستويات الحياة صار علامة كبرى على تلاشي المجتمع لتحلّ محلّه الجماعات، وهذا يعني أنّ شيئا مّا كان يؤلّف بين تلك الجماعات ويجمعها ويدير علاقاتها في ما بينها ولكنّه اليوم لم يعد قائما أو لم يعد قادرا على أن يقوم بما كان يقوم به من قبل، وليس هذا الشيء سوى ذلك الاختيار الثقافي القديم في مختلف تمظهراته السياسية والقانونيّة والاجتماعيّة.
لقد نقلت الثورة التونسيين من وضع تاريخي كانوا فيه يعيشون في حدود كيان اجتماعي سياسي ثقافي موحّد ومنسجم إلى وضع تاريخي مختلف باتوا فيه يعيشون في حدود كيانات عدّة متصارعة في ما بينها وكلّ واحد منها يريد لنفسه أن يكون مهيمنا على الآخرين. قد يكون هذا من منظور سوسيولوجي نتيجة مباشرة لما لحق الدولة من وهن أو ضعف فقدت بموجبه السيطرة على المجتمع، ولكنّه من المنظور السوسيو ثقافي المؤشّر الأبرز على السير في منعطف تاريخيّ حادّ باتجاه البحث عن اختيار ثقافي جديد أي عن معنى آخر للكيان التونسيّ غير المعنى القديم الذي كنّا نعيش فيه. والدليل على ذلك أنّ هذه الجماعات التي تتبادل العنف في ما بينها وأشركت “الدولة” فيه تتجاذب “تونس” وتعمل كلّ جماعة منها على أخذها وافتكاكها من الآخرين. وما يسمّى في وسائل الإعلام “تجاذبات سياسية” أو “استقطابا إيديولوجيا” ما هو في الواقع سوى مظهر من مظاهر الصراع على مستقبل تونس، وبالتالي فليس التجاذب السياسي أو الاستقطاب الإيديولوجي صراعا على السلطة ولا هو معركة انتخابيّة من أجل الوصول إلى الحكم بل هو معركة ثقافيّة يعيش التونسيون على وقعها طيلة السنوات الماضية ويشارك فيها الجميع انطلاقا من انتماءاتهم الصغرى (الفئوية والحزبية والقبلية والجهوية…) ولن يقدروا على تجاوزها حتّى يتولّد عن المعركة توازن جديد ينشأ بموجبه مشروع ثقافي جديد.
4. مشروع ثقافي قيد التشكّل:
نشأ الكيان الاجتماعي الثقافي السياسي التونسيّ حسب الكثير من علماء التاريخ والاجتماع والانتروبولوجيا منذ أواخر القرن 15 م، وظلّ يتشكّل على امتداد قرنين حتّى اكتملت معالمه السكانيّة والسياسية والدينيّة في منتصف القرن العشرين، وهذا يعني أنّ الحديث عن وجود الكيان التونسي في فترات التاريخ القديم والوسيط حديث لا معنى له، إذ لم يمتلك هذا الكيان بأبعاده السكانية والسياسية والثقافية الوجود الحقيقي إلاّ في ما يعرف بفترة التاريخ الحديث، وهي الفترة التي تلت نهاية العصر الوسيط (أواخر القرن 15 م).
ومع تأسيس الدولة الوطنيّة بعد الاستقلال تبلورت معالم هذا الكيان وتشكّلت وحدة سكّانية ثقافيّة سياسية اختارت لنفسها نمط حياة يوازن بين الموروث الثقافي العربي الإسلامي من ناحية ومنجزات الحضارة العصرية من ناحية أخرى، ويمثّل هذا الاختيار استجابة لخلاصة المشروع الإصلاحي الذي بدأ منذ أواسط القرن 18 م. ومن صلب هذا المشروع نشأت القوانين المنظمة للحياة العامّة ونشأت المؤسسات وشاعت التصوّرات عن الحياة ومنزلة الإنسان فيها، ومنه أيضا تبلورت مختلف الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبات للتونسيّين ما يميّزهم عن سائر الشعوب التي يشاركونها في اللغة والدين والتاريخ.
ولكنّ هذا الاختيار الثقافي بعثرته الثورة التونسية وقلبت مفرداته وهدمت الكثير من أركانه، ولم تنتج اختيارا بديلا يحلّ محلّ الاختيار القديم، وما العنف الذي حاولنا رصده في فقرة سابقة سوى دليل على حدّة الصراع بين اختيارات ثقافيّة متناقضة يودّ كل واحد منها أن يكون هو البديل. صراع عنيف قاد إلى حافة الهلاك الجماعي فاستشعر المتصارعون الخطر وانساقوا نحو التفكير في مخرج يخلّصهم من المأزق الذي وقعوا فيه، وهو مخرج لا يمكن أن يكون إلاّ إذا عثر المجتمع بكلّ مكوّناته الفكرية والسياسية والثقافية على توازن جديد.
توازن القوى الجديد لن يكون توازنا إيجابيّا إلاّ إذا حصل فرز تاريخيّ ثقافيّ يستوعب الفرزين السياسيّ والاجتماعي ويوجّه حركتهما نحو أفق تاريخي جديد. وإذا تذكّرنا أنّ اللصوصيّة باعتبارها منظومة قيمية وسلوكية كانت آخر ما أنتجه المشروع الثقافي القديم، فمن الضروري أن ينطلق الفرز التاريخي من تلك اللحظة السالبة في تاريخ تونس الحديثة أي أن يتأسس المشروع الثقافي الجديد على أنقاض اللصوصية، وهذا يعني ما يلي:
• اللصوصية نقيض نوعي لقيمة العمل، والبديل هو أن نؤمن بالعمل طريقا وحيدا للكسب.
• اللصوصية نقيض نوعي لقيمة العقل، والبديل هو أن نؤمن بالعقل طريقا وحيدا للمعرفة.
• اللصوصية نقيض نوعيّ لقيمتي الحقّ والواجب، والبديل هو أن نؤمن بالحقوق والواجبات طريقا وحيدا لتقاسم الأدوار في المجتمع.
• اللصوصية نقيض نوعيّ للدولة بمختلف أجهزتها ومؤسّساتها، والبديل هو أن نؤمن بالدولة مؤسّسة وحيدة لإدارة الحياة العامّة.
• اللصوصيّة نقيض نوعي لمفهوم الوحدة الوطنيّة، والبديل هو أن يكون الولاء للوطن وحده دون الولاءات الفئويّة والجهوية والقبلية والدينيّة.
حين تتبلور هذه النقاط الخمس في أذهان التونسيّين يسهل عليهم أن يتجاوزوا الكثير من الخلافات والصراعات ويسهل عليهم أن يطرحوا من رؤوسهم الكثير من الأوهام والخيالات، كأن يتوهّم البعض أن لا مستقبل في تونس للعلمانيّين والحداثيّين، ويتوهم البعض الآخر أن لا مستقبل فيها للإسلاميّين، ويتوهّم فريق ثالث أن لا مستقبل فيها للصوفيّة أو السلفيّة. نقول ذلك لأنّ هذه التيّارات الثقافيّة المتصارعة جزء من كلّ وهو المجتمع التونسي بتنوّعه الثقافيّ والإيديولوجي في إطار وحدة وطنيّة حول القيم الخمس المشار إليها سابقا. وكلّ جماعة من هذه الجماعات تخرج عن إطار هذا المشروع الثقافي هي بالضرورة جماعة تفكّر بمنطق اللصوصية ولا بدّ للدولة والمجتمع والثورة من محاربتها، ولا معنى للفرز التاريخي الثقافي إلاّ بهذا الوجه.
خاتمة:
لم يكن القصد من هذه الفقرات أن نقدّم مشروعا ثقافيّا فهذا أمر يستحيل على الأفراد أن ينجزوه مهما اجتهدوا، ولا أن نعرض حلولا لمختلف الإشكاليّات التي يعانيها المجتمع التونسي وخاصّة منها الإشكاليّات المتّصلة بمعنى الوجود الاجتماعي والسياسي، ولكن القصد هو أن نضع محاولة لتفسير ما يجري في بلدنا من “تجاذب” و”صراع” هو في الظاهر صراع على السلطة والحكم ولكنّه في تقديرنا صراع على مصير وجودنا الجماعيّ، إذ كلّما كان الصراع وجوديّا كان للثقافة فيه دور محوريّ لأنّ المتصارعين إنّما يتصارعون حول وجود سابق ويريد كل طرف منهم أن يمنحه “هويّة” تليق به.
ولفهم هذا الصراع من منظور سوسيو ثقافي كان لابدّ أن نتوقّف عند المقدّمات التي أنتجته وهي الثورة باعتبارها حركة اجتماعيّة مناهضة للّصوصيّة وقيمها، كما كان من اللازم أن نتوقّف عند ظاهرتي الجدل الثقافي والسلوك الاجتماعي بما فيه من تسيّب وعنف لنفهم ما وراء ذلك كلّه من غليان ثقافيّ يعكس حاجة ماسّة إلى منظومة قيم جديدة ترسي دعائم مشروع ثقافي بديل يناهض اللصوصيّة وما ترتّب عنها من تشوّهات في المعنى، معنى المجتمع ومعنى الدولة ومعنى الحياة. ولئن بدت الثورة بلا مشروع ثقافي جاهز فهذا يعني أنّ الوجود يسبق الماهية: وجدت الثورة وهي إلى اليوم تبحث لنفسها عن هويّة.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد